ترجمات أجنبية

تقرير مترجم عن ذا ناشيونال إنترست – الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المقيم .. المسار والمآلات

ذا ناشيونال إنترست – بول ر. بيلار* – 22/9/2017
الملاحظات التالية قدمها المحلل السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، بول ر. بيلار، في كلمته التي ألقاها في مجلس وورشستر للشؤون العالمية في مساشوستس الأميركية، يوم 19 أيلول (سبتمبر) 2017.
* * *
صرح جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب الذي كلفه الرئيس، من بين أمور أخرى، بالبحث عن سلام إسرائيلي-فلسطيني، بشيء يتعلق بهذه المهمة، فقال: “نحن لا نريد درساً في التاريخ. كيف يساعدنا ذلك على تحقيق السلام؟ دعونا لا نركز على ذلك. لقد قرأنا ما يكفي من الكتب”.
لكنه مخطئ. فمن دون أخذ تاريخ هذا الصراع في الحسبان، لن يستطيع المرء أن يفهمه أبداً بما يكفي، ناهيك عن القدرة على تحديد الصيغ التي توفر الاحترام اللازم، وتلبي الحد الأدنى من الاحتياجات، لكلا الجانبين.
يستطيع المرء أن يعود في الزمن كثيراً إلى الوراء، ولكن دعونا نقفز إلى تلك النقطة في التاريخ، عندما كانت بريطانيا التي أنهكتها الحرب، والمسؤولة عن إدارة ولاية فلسطين بموجب الانتداب، تواجه عنفاً متزايداً من المجتمعات المتنازعة -من ناحية، من العرب الذين عاشوا في فلسطين لقرون، ومن ناحية أخرى، من الصهاينة الذين كانوا قد شرعوا في الاستقرار هناك على مدى العقود القليلة الماضية.
في ذلك الحين، ألقت بريطانيا المشكلة في حضن الأمم المتحدة؛ حيث وافقت الجمعية العامة في العام 1947 على خطة لتقسيم فلسطين، والتي ستنشئ دولتين جديدتين، واحدة يسيطر عليها اليهود، وواحدة تخضع لسيطرة العرب. وكان القرار الذي أقرَّ الخطة بمثابة شهادة الميلاد المعتمدة دولياً لدولة إسرائيل. وكان تركيبة سكان فلسطين في ذلك الوقت حوالي الثلثين من العرب وأقل قليلاً من الثلث من اليهود، مع تمثيل الجزء الأكبر من اليهود نواتج الهجرة التي جرت خلال 30 عاماً منذ وعد بلفور. وكان اليهود يمتلكون أقل من 7 في المائة من الأراضي، لكن الدولة العبرية ستحصل على 56 في المائة من فلسطين، وستحصل الدولة العربية على 43 في المائة في إطار خطة التقسيم، بينما تكون نسبة الواحد في المائة المتبقية منطقة دولية في القدس. وسيكون سكان الدولة العربية المستشرفة من العرب كلهم تقريباً، في حين ستكون نسبة 45 في المائة من سكان الدولة التي يسيطر عليها اليهود من العرب.
في الحرب التي اندلعت بعد ذلك، أسفرت المهارة والتنظيم الفائقين للقوات الصهيونية عن احتلال أراضٍ أبعد من حدود الدولة اليهودية التي نصت عليها خطة تقسيم الأمم المتحدة، بحيث ضمت “دولة إسرائيل” الجديدة بحلول وقت الهدنة 78 في المائة من فلسطين، وانتهى المطاف بالعرب وهم يسيطرون على 22 في المائة. وحدث نزوح كبير للسكان العرب خلال الحرب، فتم تهجير أكثر من 700.000 عربي فلسطيني، أو فروا من ديارهم. وتم تدمير ما بين 400 و600 قرية فلسطينية، وانتهت عملياً حياة الفلسطينيين في المدن. وهذه المجموعة من الأحداث هي التي أصبح الفلسطينيون يشيرون إليها باسم “النكبة”، أو الكارثة.
يشكل هذا التاريخ جزءا من قصة واحدة مستمرة للقضايا التي تتم مناقشتها اليوم على أنها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وما يسمى بعملية السلام. ولا يمكن للمرء أن يستنفد هذا التاريخ أو يهمله، لأنه جزء لا يتجزأ من التوجهات، والعواطف، والمواقف والمطالب الموجودة اليوم.
في العقود السبعة التي انقضت منذ تلك الأحداث في أواخر الأربعينيات، تحولت إسرائيل إلى الدولة التي أصبحت بلا شك أقوى قوة عسكرية في كامل الشرق الأوسط، بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية المتميزة بالكثير من الطرق. وجاء الاحتواء الكبير التالي للأراضي تحت سيطرة إسرائيل نتيجة لما احتلته في حرب العام 1967، التي بدأتها إسرائيل بهجوم على مصر وسط وقوف رجل مصر القوي، جمال عبد الناصر، على حافة الهاوية في خليج العقبة. ومنذ تلك الحرب، عكفت إسرائيل على تنفيذ برنامج لاستعمار الأراضي المحتلة. ويعيش الآن نحو 600.000 مستوطن يهودي خارج حدود إسرائيل في العام 1967، في الضفة الغربية وفي الجزء الشرقي مما تُعرِّفه إسرائيل بأنه القدس.
وعلى النقيض من ذلك، بقي العرب الفلسطينيون في حالة من الضعف والقهر. وبالنسبة للفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، شمل هذا الوضع، من بين أمور أخرى، إخضاع كل جانب من جوانب الحياة تقريباً، بدءاً من بناء المنازل إلى الحركة اليومية إلى أماكن الرزق، لقيود الاحتلال العسكري الإسرائيلي. وبالنسبة لمواطنيهم في قطاع غزة، اتخذ الإخضاع شكلاً مختلفاً، حيث احتفظت إسرائيل بسيطرة كاملة على الجو والبحر، وكذلك على الوصول البري إلى القطاع، بدرجات مختلفة من تعاون النظام المصري. ومع فرض حصار خانق معظم الوقت، يتخلله التدمير الذي تُلحقه الهجمات العسكرية الدورية والمتكررة، أصبح القطاع واحداً من أكثر المناطق المكتظة بؤساً في العالم.
التغيرات في المواقف استجابة للضغوط
تغيرت المواقف السياسية والدبلوماسية للطرفين بشكل كبير على مدى هذه العقود السبعة. وقد جاءت أي حركة ربما تحدث، والتي يبدو أنها تتجه نحو جعل التوصل إلى حل للصراع أكثر إمكانية، كاستجابة لنوع من القوة أو الضغط. وكان ذلك صحيحاً في حالة الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، على حد سواء. ويمكن العثور على سرد مفصل لهذه التغيرات، وللظروف التي أفضت إليها، في الكتاب المتميز الذي كتبه ناثان ثرول، المحلل الرفيع في مجموعة الاستخبارات الدولية، ونُشر هذا العام تحت عنوان “اللغة الوحيدة التي يفهمونها”.
على الجانب الإسرائيلي، على سبيل المثال، جاءت الانسحابات المحدودة من الأراضي في سورية وسيناء في أعقاب حرب 1973، كاستجابة للصدمة التي أحدثتها النكسات العسكرية والهشاشة التي كشفتها الحرب، إلى جانب الضغط من الولايات المتحدة، الذي جاء بدوره بدفع اللدغة التي صنعها الحظر النفطي العربي. وجاء قبول مناحيم بيغن في كامب ديفيد، 1978، بإطار عمل لحل متفاوض عليه للنزاع في نهاية المطاف، كرد على الضغط الذي مارسه جيمي كارتر وأنور السادات. وكانت موافقة إسحق شامير في العام 1991 على حضور مؤتمر السلام في مدريد استجابة مباشرة للضغط من وزير الخارجية الأميركية، جيمس بيكر، الذي جاء في شكل تهديد بحجب 10 مليارات دولار من ضمانات قروض لإسكان المهاجرين الروس -وهي ما كانت، بالمناسبة، المرة الأخيرة التي تمارس فيها الولايات المتحدة هذا النوع من الضغط على إسرائيل.
يدحض هذا السجل الفكرة التي تقول إن طمأنة إسرائيل هي الشيء المطلوب أكثر ما يكون للحصول على المرونة الإسرائيلية فيما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين. لكن هذه الفكرة ما تزال قائمة لأنها مريحة جداً من الناحية السياسية هنا في الولايات المتحدة.
وفي المقابل، عمل نفس هذا النوع من الدينامية على الجانب الفلسطيني. وقد شهدت مواقف وأوضاع التيار الفلسطيني السائد تحولاً كبيراً من رفض أي تعامل مع إسرائيل وشن كفاح مسلح ضدها، إلى اعتراف صريح بدولة إسرائيل، والتزام بحل متفاوض عليه للصراع، وبدولتين تعيشان جنباً إلى جنب في سلام، بل وحتى القبول باحتلالات إسرائيل العسكرية لما قبل العام 1967 وتقليص التطلعات الإقليمية للدولة الفلسطينية إلى 22 % من الأراضي التي تبقت. وكانت خلفية هذا التطور هي تعرض الفلسطينين لنكسة بعد أخرى، بما في ذلك الهزائم العسكرية في الدول المجاورة، والمنفى في تونس، والضعف السياسي الذي يتضح أكثر ما يكون هنا في الولايات المتحدة.
صراع غير متكافئ
في حين عرض الجانبان تواريخ متماثلة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بين الضغط والمرونة، فإننا نظل مع افتقار هائل إلى التكافؤ بينهما. ثمة فرق هائل في القوة، والذي يظهر بوضوح في الناحية العسكرية، وإنما أيضاً في الناحية الاقتصادية وفيما يتعلق بالنفوذ السياسي في الولايات المتحدة.
وهناك فرق كبير أيضاً في العواقب والتداعيات المادية والبشرية. فقد مات عدد من الفلسطينيين أكثر بكثير من الإسرائيليين في هذا الصراع. وحتى بالعودة وراء إلى الاضطرابات العربية في فلسطين في الثلاثينيات، فإن نسبة العرب واليهود الذين قتلوا آنذاك كانت حول عشرة إلى واحد. بل إن التناقض أصبح أكبر في الصراعات الأقرب زمانياً. فخلال عملية الجرف الصامد، العملية العسكرية التي نفذتها إسرائيل في قطاع غزة في العام 2014، قُتل 2.100 فلسطيني أكثر من ثلثيهم من المدنيين. وبلغت حصيلة القتلى الإسرائيليين نتيجة لمختلف الأسباب 72، كانوا كلهم من الجنود عدا ستة. وكانت النسبة في الحرب الأخيرة السابقة في غزة، في العامين 2008-2009، مشابهة: 14 إسرائيلياً قتلوا؛ في مقابل مقتل أكثر من 1.400 فلسطيني.
كما أن عدم التماثل قائم أيضاً بين طرف يمارس الاحتلال وطرف خاضع للاحتلال. ويبدو أنه يتم تجاهل هذا الواقع لدى الحديث عما إذا كان القادة الفلسطينيون يريدون تسوية تفاوضية أم لا. وبالنسبة للغالبية العظمى من الفلسطينيين، سيكون حل دولتين عن طريق التفاوض أفضل مما لديهم الآن، وتدرك الغالبية الساحقة من الفلسطينيين أنه سيكون كذلك. كما يدركون أيضاً أن اتفاقاً يتم التفاوض عليه مع إسرائيل هو السبيل الوحيد الذي يمكن التوصل به إلى حل يقوم على مبدأ الدولتين.
ينبغي أن لا تكون الشروط التي يضعها القادة الفلسطينيون في بعض الأحيان للمفاوضات صعبة على الفهم. إن فرض تجميد على بناء المستوطنات الإسرائيلية هو شأن مفهوم، لأن مثل هذا البناء يُضيق بوضوح فضاء التفاوض على أي اتفاق سلام، ولأنه ليس هناك أحد يمتلك صبراً غير محدود على استمرار شيء يدعى عملية السلام إلى ما لا نهاية، في حين يجري الاستمرار في تأسيس المزيد من “الحقائق على الأرض” بلا توقف من جانب واحد، وبما يجعل تحقيق حل الدولتين أكثر صعوبة باطراد.
تعكس مقاومة القبول بمطالب إسرائيل المتعلقة بتسمية إسرائيل “دولة يهودية” كيف أن هذا الطلب لم يتم التقدم به أبداً لمصر والأردن عندما صنعتا معاهدات سلام مع إسرائيل، وكيف أن مثل هذه المطالب الوصفية ليست جزءاً من الاعتراف الطبيعي أو الدبلوماسية المعروفة بين الدول، وكيف أن منظمة التحرير الفلسطينية اعترفت منذ وقت طويل، وبوضوح، بـ”دولة إسرائيل”، وكيف أن الخضوع لهذا المطلب الإسرائيلي سيكون إعلاناً فلسطينياً صريحاً بأن أشقاءهم العرب داخل إسرائيل هم مواطنون من الدرجة الثانية، وكيف أن مثل هذا القبول سيكون خطوة في اتجاه إعفاء إسرائيل من أي مسؤولية، حتى لو كانت رمزية، عن أحداث أواخر الأربعينيات.
كما يمتد عدم التماثل القائم إلى حجم ما تبقى لدى كل طرف ليتنازل عنه. ومرة أخرى، يشكل ذلك الفرق الأساسي بين الطرف الذي يمارس الاحتلال ويمتلك القوة لإنهائه، وبين الطرف الخاضع للاحتلال، الذي لا يملك مثل ذلك. بالنسبة للفلسطينيين، كانت قصة هذا الصراع، والدبلوماسية المحيطة به، حكاية تخفيضات متعاقبة فيما يتوقعونه، وما يُتوقع منهم أن يتوقعوه. ومنذ كانوا ما يزالون يشكلون الأغلبية الكبرى من سكان فلسطين -حتى في وقت خلق إسرائيل- رأوا وطنهم المرتقب وهو يُختزل من 43 % من فلسطين وفق خطة تقسيم الأمم المتحدة، إلى 22 % بعد الأعمال الحربية في الأربعينيات. ومنذ حرب العام 1967، شهدوا هذه الـ22 % وهي لا تصبح أرضاً، وإنما سقفاً فقط في كل شيء يجري التحدث عنه على أنه الدولة الفلسطينية المستقبلية. ودائماً يجري الحديث عن مجرد شذرة صغيرة مما كان ذات مرة وطنهم. وبعد أن أصبح ظهرهم إلى الحائط، ثمة القليل جداً من المتسع لمزيد من التراجع أيضاً، على الأقل بأي طريقة متساوقة مع وفاء أي زعيم فلسطيني بأكثر التطلعات الوطنية أساسية وبمطلب الاحترام لشعبه، والتي يُفقِد الفشل في تحقيقها ذلك الزعيم نفسه الاحترام والدعم.
على الجانب الإسرائيلي، كانت إحدى قطع الخلفية ذات الصلة هي الاتجاه المباشر والمستمر للسياسة الإسرائيلية منذ قام حزب بيغن، الليكود، بإزاحة حزب العمل والحلول محله ليصبح الحزب السياسي المهيمن في إسرائيل. وكان بعض أعضاء حكومة نتنياهو أكثر جرأة منه هو نفسه في الدعوة إلى أمور مثل ضم إسرائيل الفوري لمعظم الضفة الغربية.
إسرائيل، والوضع الراهن
ثمة قطعة أخرى ذات صلة من الخلفية، والتي تنسجم مع ملاحظة أن التحركات الوحيدة المهمة في موقف أي من الطرفين جاءت عندما كان هذا الطرف تحت الضغط، وهي أن الحكومة الإسرائيلية لا تشعر ببساطة بأي دافع كافٍ لإنهاء الاحتلال والتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين. ومن وجهة نظر هذه الحكومة، فإن الوضع الراهن مقبول، بل ومريح. فإسرائيل تحتفظ بتفوقها العسكري الإقليمي الهائل. ولديها ازدهارها الاقتصادي؛ حيث تصطف بين أغنى خُمس دول العالم من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي. وكما تشير أرقام الخسائر والإصابات المذكورة آنفاً، فإن الكلف المادية والبشرية المباشرة للصراع في حد ذاته يمكن تحملها، وهي تحت المستويات التي يمكن أن تجعل منها عائقاً سياسياً كبيراً بالنسبة للقادة. كما أن الجوانب البشعة للاحتلال محجوبة، حرفياً، وتقع خلف مجال الرؤية بالنسبة لمعظم الإسرائيليين، ما يعني أنها لا تشكل أي نوع من الضرورات السياسية لتغيير الوضع الراهن.
من المؤكد أن هناك انتقادات دولية، لكن هذا شيء آخر يمتلك القادة الإسرائيليون خبرة طويلة في التعايش معه، والذي يتم تحريفه، بل وحتى تحويله إلى ميزة سياسية محلية، حيث يعرضون أنفسهم كحماة للأمة ضد مَن يوصفون بأنهم منتقدون غير عادلين، أو حتى أعداء لإسرائيل.
والأهم من هذا كله، هناك الدعم غير المشروط من الولايات المتحدة، والعقدة السياسة الكامنة تحته. ويبلغ هذا الدعم 3.8 مليارات دولار في شكل إعانات سنوية من دون أي قيود، ولا مطالب تعويضية تتعلق بالسياسة الإسرائيلية. وهناك موقف دبلوماسي، كما حدث ذات مرة في أواخر إدارة أوباما، يجعل أخباراً مهمة من مجرد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، بدلاً من التصويت لصالح إسرائيل كما فعلت دائماً، على قرار لمجلس الأمن يعرض وجهة نظر منتقدة تتبناها أغلبية ساحقة من المجتمع الدولي لمشروع الاستعمار الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية.
ضع ذلك كله في مقابل ما يمكن أن تواجهه الحكومة الإسرائيلية محلياً إذا تحركت نحو إنهاء الاحتلال والمساعدة في إقامة دولة فلسطينية. سوف يخلق ذلك مباشرة أزمة سياسية محلية كبيرة في داخل اليمين السياسي المهيمن، الذي يمثل مقاومة سكان المستوطنات الذين يشكلون نحو عُشر كامل سكان إسرائيل اليهود. ومن السهل رؤية السبب في أن الحكومة الحالية ليست منجذبة نحو إجراء تغيير في مسارها الحالي.
لوحظ، على نحو مُحِق، أن هناك ثلاث سمات رئيسية ممكنة لدولة إسرائيل الحالية، والمستقبلية -وهي بالتحديد: أن تكون يهودية، أن تكون ديمقراطية، وأن تكون مسيطرة على كل الأراضي الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن- ويمكن أن تكون إسرائيل أي اثنين من هذه الأشياء، لكن من المستحيل أن تكون كل الثلاثة معاً. وهو مستحيل بسبب الحقائق الديموغرافية للناس الذين يعيشون على تلك الأرض. ولا يتحدث القادة الإسرائيليون الذين في السلطة عن تلك المعضلة الثلاثية صراحة وفي العلن، لكننا نحصل بين الفينة والأخرى على إلماحة أكثر مباشرة عن الأولويات. وقد أوضحت وزيرة العدل الإسرائيلية، آيليت شاكيد، أنها تعتبر الجزء الخاص بالديمقراطية أقل أهمية من الجزء الخاص بيهودية الدولة. وقالت إنه “ليس القانون الروماني بشكل أساسي أو التقليد الديمقراطي للسياسة الأثينية هو الذي شكل وصنع التقليد الديمقراطي الحديث في أوروبا والولايات المتحدة، وإنما التقليد اليهودي -مصحوباً، بطبيعة الحال، بالتقاليد الأخرى. ولذلك على وجه التحديد، حين نريد أن نعزز العمليات المتقدمة للدمقرطة في إسرائيل، فإننا يجب أن نعمق الهوية اليهودية”.
أما بالنسبة لدور الحقوق المدنية والسياسية بشكل عام، كما تقول شاكيد، فإنه “لا ينبغي للصهيونية -وأنا أقول هنا إنها لن- تحني رأسها لنظام حقوق فردية يتم تفسيره بطريقة عالمية”.
تقادُم الترتيبات الانتقالية
في هذه الأثناء، ثمة على الجانب الفلسطيني خلل وظيفي سياسي مقيم، هو في جزء منه إرث لجهود عملية السلام الفاشلة في الماضي. فزعيم منظمة التحرير الفلسطينية، المحاور المعترف به في مفاوضات السلام، هو محمود عباس، الذي يحصل على اهتمام أكبر لدوره الآخر كرئيس للسلطة الفلسطينية. وقد تم تأسيس السلطة الفلسطينية بموجب عملية أوسلو في التسعينيات لتكون آلية انتقالية فقط. وكان يُفترض أن تُسفر عن شيء أكثر ديمومة، مثل دولة فلسطينية حقيقية، في غضون خمس سنوات أو نحو ذلك. لكن السلطة الفلسطينية تجاوزت منذ وقت طويل تاريخ صلاحيتها للبيع. وينظر إليها الكثير من الفلسطينيين الآن، لأسباب وجيهة، على أنها في معظمها مساعد إداري للاحتلال الإسرائيلي. والركود جاثم. وعباس الآن في السنة الثالثة عشرة مما كان يفترض أن تكون ولاية لأربع سنوات كرئيس للسلطة الفلسطينية.
كما أن السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح، لا تمثلان أيضاً كل الجسم السياسي الفلسطيني. إنهما لا تمثلان اللاجئين، وهما لا تمثلان تيار الرأي الذي تمثله حماس التي كسبت الانتخابات البرلمانية الفلسطينية الأخيرة النزيهة والحرة، والتي أوضحت أنها مستعدة للعيش بسلام في دولة فلسطينية جنباً إلى جانب مع دولة إسرائيل، وحاولت أن تراعي اتفاقيات وقف إطلاق النار التي تم التفاوض عليها مع دولة إسرائيل بعد حربي غزة الأخيرتين.
وقد رفضت إسرائيل والولايات المتحدة القبول بنتيجة تلك الانتخابات، وفعلت إسرائيل كل ما في وسعها لإدامة الانقسام بين حماس وسلطة عباس الفلسطينية، مثل حجب الإيرادات الضريبية المستحقة للفلسطينيين عندما اتخذت السلطة الفلسطينية خطوة نحو حل الخلافات مع حماس. ويمكننا توقع نفس رد الفعل الإسرائيلي على المبادرة التي أعلنت عنها حماس مؤخراً، والتي تقول فيها إنها ستحل إدارتها في غزة لصالح إدارة جديدة مشتركة مع السلطة الفلسطينية والمشاركة في انتخابات فلسطينية جديدة.
التطورات الداخلية الأخيرة على الجانب الإسرائيلي، وبالتحديد مشكلات نتنياهو القانونية والسياسية الناجمة من قضايا فساد عديدة، تجعل الأمور أسوأ فيما يتعلق بأي عملية سلام. وكانت ردة فعل رئيس الوزراء هي أن يربط نفسه بشكل أوثق مع شركاء التحالف اليميني الذي يحتاج دعمه للبقاء في المنصب. ويعني ذلك المزيد من الموقف المتشدد غير المرن حول أي شيء له علاقة بالفلسطينيين. وقال نتنياهو مؤخراً لجمهور من مستوطني الضفة الغربية: “نحن هنا لنبقى إلى الأبد. سوف نعمق جذورنا، ونبني، ونقوى ونستقر”.
يعتقد العديد من المراقبين المطلعين أن حل الدولتين قد مات. وأنا لا أعتقد أنه مات بمعنى قابلية التحقق التقنية. وعلى الرغم من المدى الذي قطعه الاستعمار الإسرائيلي للضفة الغربية، ما يزال من الممكن بناء اتفاق سلام على أساس خطوط معروفة تماماً منذ وقت لا بأس به، قائمة على حدود العام 1967 مع مقايضات متبادلة متفق عليها للأراضي، وطرق مبتكرة للتعامل مع القضايا الشائكة، مثل حق العودة والسيطرة على الأماكن المقدسة في القدس.
لكن ما يلاحظه المراقبون المتشائمون بدقة، إلى جانب ذهاب الحيز التفاوضي إلى مزيد من الضيق باستمرار جراء بناء حقائق إضافية على الأرض، هو مدى نظر أحد الجانبين إلى الصرح الذي تقام عليه ما تدعى عملية السلام على أنه أساس لتجنب التوصل إلى اتفاق نهائي أكثر من كونه أساساً لإرساء اتفاق. وقد قامت صيغة أوسلو التي أنشأت السلطة الفلسطينية، بإصرار إسرائيلي، على اتفاق إطار عمل كامب ديفيد للعام 1987، الذي كان قائماً بدوره على خطة الحكم الذاتي التي اقترحها بيغن، والتي تم تصميمها لتأسيس تقرير مصير فلسطيني، وإنما لمنع تحققه أيضاً. وأصبح الأمر مسألة عملية سلام تستمر بلا نهاية، في حين يخلق الجانب المسيطر مزيداً من الحقائق على الأرض. وكان خلف بيغن، إسحق شامير، صريحاً إزاء ذلك عندما قال: “كنتُ لأجري محادثات حول الحكم الذاتي لعشر سنوات، وفي الأثناء نكون قد وصلنا إلى نصف مليون نسمة في يهودا والسامرة”.
موقف إدارة ترامب
والآن، لدينا، في البلد الذي ينطوي على أعظم إمكانية خارجية للنفوذ في كل هذا، إدارة ترامب. وكان دونالد قد قال بعض الأشياء في وقت مبكر من حملته عن كون المرء نزيهاً، لكنه أقام عند ذلك سلامه مع شيلدون أندلسون،
ومنذ الوقت الذي تحدث فيه لاحقاً خلال الحملة أمام “آيباك”، فإن معظم ما قاله وفعله حول هذه القضية مر بسهولة على الحشد في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي. ويأتي صهره المبعوث الخاص للقضية الفلسطينية من عائلة لها صلات بمستوطنات الضفة الغربية. كما أن محامي إفلاس ترامب، الذي عينه سفيراً إلى إسرائيل، والمتورط شخصياً ومباشرة في مساعدة مستوطنة في الضفة الغربية، وصف اليهود الأميركيين المؤيدين للسلام بالمتعاونين مع النازية، وافترق مؤخراً عن قاموس دبلوماسي أميركي راسخ منذ وقت طويل، بالإحالة إلى ما أسماه “الاحتلال المزعوم”.
تراجع ترامب عن حل الدولتين، الذي كان الهدف الأميركي المعلن للإدارات الأميركية السابقة، الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، وعن الهدف الضمني لمجموعة من الإدارات الجمهورية والديمقراطية قبل ذلك أيضاً. وفي تصريح غير عادي، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً، إن معاودة الالتزام بحل الدولتين سوف تكون “تحيُّزاً”. وكما كتب السفير الأميركي السابق إلى إسرائيل، دانيل كيرتزر، في مقال افتتاحي نُشر مؤخراً، فإن “كلماتها تشير إلى أن إدارة ترامب نفسها متحيزة للغاية -لصالح المتشددين في… تحالف نتنياهو الذين يريدون أن تتخلى الولايات المتحدة وإسرائيل عن حاصل الدولتين”.
كان هؤلاء المتشددون، وإدارة ترامب، ينظرون مؤخراً إلى ما يُشار إليه بمبدأ “من الخارج إلى الداخل” (outside-in) -أن تضغط الدول العربية الأخرى على الفلسطينيين للقبول بشيء أقل من دولة حقيقية. ولكن مفتاح التسوية السلمية، إذا اتكأ على هذه الدول العربية الأخرى، يمكن أن يتيح لإسرائيل أن تزيح عن الطاولة ما كان موضوعاً على الطاولة منذ 15 عاماً: مبادرة سلام الجامعة العربية التي تعرض اعترافاً كاملاً من الدول العربية بإسرائيل وسلاماً كاملاً معها، وإعلاناً رسمياً بأن الصراع العربي-الإسرائيلي قد انتهى، في مقابل وضع نهاية للاحتلال وإقامة دولة فلسطينية. لكن السلام الأصيل مع المنطقة يتطلب سلاماً أصيلاً وحقيقياً مع الفلسطينيين. ولن يوقِّع أي قادة عرب على بانتوستانات لإخواتهم العرب في فلسطين.
وهكذا، فإن أفق هذا الصراع الذي طال أمده هو أن يستمر، مع كل الكلف البشرية والاقتصادية والسياسية الهائلة التي ينطوي عليها هذا الصراع. ولا يمكن سوى لحل الدولتين أن يحقق التطلعات الوطنية لكل من اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين. ومن دونه، سوف تستمر إسرائيل في أن تظل بلا حدود معترف بها، وفي أن لا تكون في سلام مع منطقتها، وأن لا تكون أي شيء سوى دولة معسكرة بكثافة، ومارقة بالعديد من الطرق. وسوف يكون قدرها، كما قال نتنياهو، إن “نعيش إلى الأبد بحد السيف”.
من دون حل الدولتين، سوف يستمر الفلسطينيون في تحمل إخضاعهم ومعاناتهم الموثقة جيداً، وسوف يعرضون المزيد من السخط الذي يولِّد التطرف.
ومن دون هذا الحل، سوف يستمر ربط الولايات المتحدة بالقبول بهذا الوضع المتفجر وغير المرغوب فيه، وسوف يُنظر إليها على أنها متواطئة وداعمة لما تعتبره الأغلبية الساحقة من العالم ظلماً فادحاً، وسوف تستمر في أن تظل هدف المتطرفين العنيفين، الذين يستشهدون بهذه القضية، مرة تلو المرة، كواحدة من دوافعهم الأساسية، ويستخدمونها نداء للتحشيد.
*مجلس وورشستر للشؤون العالمية، Worcester World Affairs Council، هو مؤسسة غير ربحية مقرها مساشوستس، تأسست في العام 1958 تحت رعاية مجلس العلاقات الخارجية.
*هو أكاديمي، عمل 28 عاماً في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه)، من 1977 إلى 2005. وهو الآن زميل غير مقيم في مركز الدراسات الأمنية بجامعة جورجتاون، وزميل رفيع غير مقيم في مركز بروكنغز للأمن والاستخبارات في القرن الحادي والعشرين. كان أستاذاً زائراً في جامعة جورج تاون في الفترة من 2005 إلى 2012. وهو مساهم في “ذا ناشيونال إنترست”.
*نشرت هذه المحاضرة تحت عنوان:
The Enduring Israeli-Palestinian Conflict
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 4/10/2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى