تقرير مترجم عن جيوبوليتيكال فيوتشرز – دراما فلين
جيوبوليتيكال فيوتشرز – جورج فريدمان – 14/2/2017
استقال مستشار الأمن القومي الأميركي للرئيس دونالد ترامب في وقت متأخر من ليلة الاثنين الماضي. وأقر مايكل فلين في رسالة استقالته بأنه أجرى محادثات مع السفير الروسي لدى الولايات المتحدة، وقدم تقريراً غير تام لنائب الرئيس المنتخب في حينه مايك بنس عن تلك المحادثات. وثمة تكهنات بأن فلين تحدث مع السفير الروسي لدى الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعقوبات الأميركية ضد روسيا قبل تنصيب الرئيس ترامب. وفي الأثناء، ذكرت صحيفة “الواشنطن بوست” أن المدعي العام الأميركي بالنيابة، أبلغ ترامب الشهر الماضي بهذه المحادثات، وأشار إلى أن فلين كان عرضة لابتزاز روسي.
لكنني أفوّت شيئاً ما لا أفهمه هنا. وليس المقصود الدفاع عن فلين، وإنما المقصود وحسب أن هناك شيئاً لا أفهمه. وهناك شيئان يبدوان غير منطقيين. الأول، أن فلين كان ضابط استخبارات في أفغانستان والعراق. وعند إحدى النقاط كان رئيس وكالة استخبارات الدفاع. وهذا يعني أن فلين يعرف الاستخبارات. ومن غير المعقول تصديق أن فلين وضع نفسه في وضع يتمكن معه الروس من ابتزازه. وهذا لأنه لا يمكن أن لا يكون فلين نفسه على معرفة بأن أي مكالمات هاتفية يجريها مع ممثلين عن روسيا أو أي حكومة أجنبية ستكون مراقبة. وهناك شيء غامض في هذا الشأن؛ فنحن ما نزال نتوافر على توضيح حول ما حدث بالضبط.
السبب الثاني الذي يجعل هذا الأمر غير معقول، هو أن التحدث مع السفير الروسي في حد ذاته ليس مدعاة لتشكيل أسباب للإقالة أو الاستقالة. فبموجب قانون لوغان الذي يعود إلى العام 1799، فإن من غير القانوني أن يجري أحد من خارج الحكومة
الأميركية مفاوضات سياسة خارجية مع قوة أجنبية نيابة عن الولايات المتحدة. ومع ذلك، لم تتم ملاحقة أي أحد بموجب قانون لوغان. ومن الجدير بالملاحظة أن مواطنين خاصين ينخرطون باستمرار في محادثات مع مسؤولين أجانب بوجود قانون لوغان أو عدمه. وغالباً ما يكون للمحادثة بعض المحتوى الذي يتم بثه إلى مسؤول حكومي ربما يعرفه. وقد يعمل مثل وسيط ليس مخولاً بالتفاوض، لكنه مع ذلك يتفاوض. والموضوع هنا ليس بالضرورة أن فلين أجرى اتصالاً مع السفير الروسي. الموضوع أن فلين لم يبلغ بدقة عن محتويات محادثاتهما.
تأمل في هذا. إن أي شخص يتم ترشيحه لمنصب مستشار الأمن القومي يعرف العديد من المسؤولين من حكومات أجنبية. فذلك متطلب للوظيفة. وقبل الانتخابات، يكون ببساطة مواطناً خاصاً، حراً مثل أي شخص آخر في التحدث إلى مسؤولين أجانب في إطار حدود قانون لوغان الذي لم يتم تفعليه أبداً وإنما يتم انتهاكه على نطاق واسع.
وبعد الانتخابات، لا يكون الرئيس المنتخب رئيساً فعلياً بعد ولا يستطيع التحدث نيابة عن الحكومة الأميركية، ولا يستطيع ذلك أي شخص يكون قد رشحه ليكون مسؤولاً حكومياً. لكن هناك اختلافاً بين التفاوض نيابة عن الحكومة وبين فتح المرء قنوات اتصال مع بلدان أجنبية استشرافاً لكونه سيصبح جزءاً من الحكومة. وتعني فكرة أنها لا يجب أن تكون هناك اتصالات، مهما كانت، أن الرئيس الجديد سيبدأ من المربع رقم واحد بدلاً من الشروع في الركض على الفور.
ثمة مثال مشهور، ولكنه ليس مؤكداً تماماً. في العام 1980، خلال أزمة الرهائن في إيران، أجرى ممثلون عن الرئيس رونالد ريغان اتصالاً مع الحكومة الإيرانية لبحث توقيت الإفراج عن الرهائن. ومن المفترض أن تكون الاتصالات قد جرت قبل وبعد
الانتخابات الرئاسية في ذلك العام. وما يزال ما رشح عن تلك المحدثات موضع جدل، لكن من المؤكد أن مباحثات قد جرت. وبعيداً عن ذلك، سيكون من المدهش أن لا يكون أي فريق قادم قد أجرى محادثات غير رسمية مع حلفاء أو خصوم رئيسيين. وسوف يكون مفهوماً، بطبيعة الحال، أن المتحاورين لم يتحدثوا نيابة عن الحكومة الأميركية ولم يقدموا أي التزامات.
لذلك، يمكنني توقع أن مستشار الأمن القومي أجرى مباحثات تمهيدية منذ لحظة الإعلان عن ترشيحه، وأنه أعطى بعض التلميحات عن الوجهة التي قد تذهب فيها الإدارة الجديدة. وسوف يتوقع الحلفاء مثل المملكة المتحدة وكندا التعرف إلى شيء من تفكير الرئيس المنتخب.
لكن حالة فلين مختلفة بوضوح، بشكل خاص لأن ترامب سحب دعمه لفلين. وهذا ليس أسلوب الرئيس. والسبب في هذا هو الجزء الذي لا أفهمه والشيء الذي يجعل الأمر أكثر من فضيحة صغيرة لواشنطن. ومهما يكن ما فعله فلين، فيبدو أن أفعاله تجاوزت الأعراف والتقاليد بكثير.
لقد أجرى فلين محادثات هاتفية مع السفير الروسي. ومن المرجح أن يكون موضوع العقوبات قد بُحث: ففي أي مباحثات مع مستشار للأمن القومي الأميركي، يقوم السفير الروسي بإثارة هذا الموضوع. ويفترض أن الرجلين أجريا عدة محادثات هاتفية في نفس اليوم، مما يجعل الموضوع غير مريح أكثر، ببساطة لأن السبب وراء إجراء أكثر من محادثة واحدة هو أنهما رجعا بالتأكيد إلى مسؤوليهما لاستشارتهم. ويذهب ذلك إلى ما وراء مجرد فتح الأبواب إلى شيء جوهري. لكن هذا يظل غير كافٍ لخلق مثل هذا النوع من الأزمات. وكما حدث مع جماعة ريغان، فقد جرى بحث أشياء جوهرية أحياناً.
في محاولة لفهم ما يمكن أن يكون قد حدث، يجب علينا تأمل محل تركيز فلين الرئيسي. كان فلين رئيساً للاستخبارات العسكرية في أفغانستان. وفي وكالة استخبارات الدفاع الوطني وفي كتاب نشره، كان هذان الأمران موضع اهتمام رئيسي لديه. وقد أشار الرئيس إلى أن هدف سياسته الخارجية الرئيس هو سحق “داعش”. وكان واضحاً أيضاً أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا من خلال ائتلاف. كما أن فلين ألمح إلى أن المشاركة الروسية في الحرب على “داعش” ستكون مفيدة. فللروس مشاكلهم الخاصة مع الجهاديين. وهكذا، وفق تفكير، فقد كان هناك انقسام طبيعي. ويتبع ذلك أن أقل ثمن ستطلبه موسكو نظير انضمامها إلى الحرب هو تعليق العقوبات المفروضة عليها، ووفق كل الاحتمالات، محاولة الحصول على تنازلات خاصة بأوكرانيا.
عندما زار فلين موسكو واجتمع مع الرئيس فلاديمير بوتين قبل عامين، من المرجح أن يكون قد عبر عن وجهات النظر -كمواطن عادي- لبوتين. وليست هناك حاجة بفلين إلى تلقي رشوة من الروس، كما يعتقد بعض المحللين. وكان في ذهن فلين مُسبقاً تشكيل ائتلاف أميركي-روسي للعمل معاً على سحق “داعش” -وربما حتى طالبان. وقد رأى في الحروب الإسلاموية أكبر تحدٍ تواجهه الولايات المتحدة، وعرف أن الولايات المتحدة تحتاج إلى المساعدة. واعتبر أن العقوبات، وحتى بعض التنازلات حول أوكرانيا، تشكل ثمناً صغيراً نظير تشكيل هكذا ائتلاف.
تبدو إدارة ترامب منقسمة حول هذا الموضوع. فقد أعلن كل من وزير الدفاع، جيمس ماتيس، ووزير الخارجية ريكس تيلرسن، عن دعمهما لاستمرار فرض العقوبات. وسمى ماتيس روسيا خصماً رئيسياً. وبكلمات أخرى، كانت سياستان خارجيتان تنجمان من إدارة ترامب. الأولى حذت حذو استراتيجية الرئيس باراك أوباما القائمة
على وجود خصمين اثنين؛ بينما الأخرى -الخاصة بفلين- لديها خصم واحد فحسب: حيث الأمر كله يدور حول الإسلام.
مما لا شك فيه أن فلين تحدث عن هذا في موسكو قبل أعوام. وعندما عين مستشاراً للأمن القومي، بدأت المباحثات تأخذ منحى جدّياً. ولم تكن المشكلة في أن الروس اشتروه، وإنما كانت أن هوسه بـ”داعش” جعله يفشل في إبقاء فريقه مطلعاً على ما كان يتحدث به مع الروس. وهذا أكثر ترجيحاً بكثير من أن يكون قد توصل إلى ترتيب سري مع الروس، لأنه لو فعل ذلك، لما كان الروس قد سمحوا له بإجراء عدة مكالمات هاتفية في يوم واحد. وسيكون في هذه الحال أكثر قيمة من أن يتم حرقه على هذا النحو.
تقديري أنه فكر بأن لديه ضوءا أخضر بخصوص هذا الموضوع، أو أنه اعتقد ببساطة، كمستشار للأمن القومي، بأن منصبه يتطلب صنع استراتيجية. وعندما علم ماتيس وتيلرسون بالأمر -لأنه يتم اعتراض كل المكالمات الهاتفية الذاهبة إلى المسؤولين الروس- وقفا ضده.
المشكلة الحقيقية ليست في أنه تحدث مع الروس أو أنه زار موسكو. لم يكن هناك شيء سري في هذا. كانت المشكلة هي أنه حاول إحداث تحوُّل راديكالي في استراتيجية، والذي كان محلاً لمعارضة نشطة من مسؤولين كبار. وعندما سمعوا بما كان فلين يفعله جن جنونهم. وبعبارات أخرى، رفض ترامب محاولة من فلين لجلب الروس إلى الحرب ضد “داعش”. ولم يهرب بوتين من العقوبات.
كنت في دبي في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وخضت العديد من الحوارات وقلت العديد من الأشياء التي تتعلق بقضايا ومواضيع حساسة. وكان الجميع يفهمون أنني لا أتحدث نيابة عن أحد سوى نفسي. ولو كان أحد ما مجنوناً بشكل كاف ليعطيني
موقفاً رسمياً (وكنت أنا مجنوناً بما يكفي للقبول بذلك) فإن كل الأشياء التي كنتُ قد قلتها عندما لم أكن مُهماً سيتذكرها صانعو القرار. وكل ذلك سيكون جيداً ما لم أحاول تنفيذ سياسة من دون استشارة أحد. أعتقد، لكنني لستُ متأكداً، أن هذا هو ما حدث مع فلين.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
The Flynn Drama
ترجمة عبد الرحمن الحسيني – الغد – 19/2/2017
abdrahaman.alhuseini@alghad.jo