تقرير مترجم عن جيوبوليتيكال فيوتشرز – القومية والديمقراطية الليبرالية
جيوبوليتيكال فيوتشرز – جورج فريدمان – 1/3/2017
القومية آخذة في الصعود في العالم الغربي. وينظر إليها الكثيرون على أنها عدو الديمقراطية الليبرالية. لكن أسس هذه النظرة ليست غير معقولة، نظراً لأن الحروب الأوروبية التي خيضت من العام 1914 وإلى العام 1945 كانت من بين الصراعات الأكثر بربرية في التاريخ. وقد جرت تلك الحروب بين أمم كان العديد منها قد رفض المبادئ التي تستند إليها الديمقراطية الليبرالية. ورأى البعض في تكاثر الأمم سبباً لارتفاع الاستبداد وتدمير الديمقراطيات الليبرالية، مما أفضى إلى نشوب حرب لاستعادة الديمقراطية الليبرالية في أوروبا. وأصبحت وجهة النظر التي تقول أن حروب أوروبا تأصلت في القومية مألوفة، سوية مع الاعتقاد بأن القومية تسببت بصعود الفاشية، وبأن الحفاظ على الديمقراطية الليبرالية تطلب قمع القومية.
من هنا، ظهر الاتحاد الأوروبي كمشروع أخلاقي، إلى جانب الفكرة القائلة إن عودة صعود القومية سيعيد أوروبا والحضارة اليورو-أميركية وراء إلى البربرية. وقد تكون هذه الحجة مقنعة، تاريخياً. لكنها تفشل في فهم أن القومية -مهما قد يلحق بها من تشويه- هي جذر الديمقراطية الليبرالية -ليس تاريخياً وحسب، بل وأخلاقياً أيضاً. والمفهومان غير قابلين للانفصال فكرياً.
كانت الديمقراطية الليبرالية كعقيدة سياسية قد صعدت في القرن الثامن عشر كتحد للملكية. وفي ذلك الحين، كانت الملكيات تستند إلى فكرة أن الملوك والأباطرة لهم حق إلهي في الحكم. وتظهر خرائط أوروبا القرن الثامن عشر، وحتى قبل ذلك، محصلات هذه النظرة. كانت أملاك الملك أو النبيل الأصغر تُبنى من خلال الحرب والمال والزواج، وكان الرعايا يتكونون على الأرجح من عدة أمم. وبالتالي قسمت أمم
عدة بين ملكيات مختلفة. ولذلك، لم تكن الملكيات والأمم تنسجم بالضرورة، كما لم تكن الأنظمة مرتبطة مع الشعوب -لا نظرياً ولا عملياً.
شهد القرنان التاسع عشر والعشرون نضال الأمم لتخليص نفسها من الملكيات والإمبراطوريات، ولكي تستجمع أجزاءها المتشظية وتجعلها واحدة. وكانت الانتفاضات الأوروبية في العام 1848 نتيجة لسعي الأمم إلى حقها في التحرر من الإمبراطوريات. وفي الجزء الأكبر، فشلت في تحقيق ذلك الهدف، لكنها نجحت في تحقيق آخر: أصبحت القومية حتمية تاريخية. وظهرت الدول من أتون الفوضى العارمة للحرب العالمية الأولى بعد أن انهارت أربع إمبراطوريات. ويعزى الفضل في هذا بشكل كبير إلى إرشاد وودرو ولسون في فرساي. ثم في العام 1991، ظهرت المزيد من الدول نتيجة لانهيار الإمبراطورية السوفياتية. وبعد الحرب العالمية الثانية، ومع انهيار الإمبراطوريات الأوروبية، ظهرت دول -والتي غالباً كيانات تتظاهر بأنها أمم- من الركام لتؤكد حقها في تقرير مصيرها القومي. ومهما يكن ما كان سيفعله أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، فقد احتفى المدافعون عن الديمقراطية الليبرالية بالظهور العالمي لأمم تحكم نفسها.
الأمة هي مجموعة من الناس الذين يشتركون في التاريخ والثقافة واللغة وسمات أخرى. إنها وجود هوية عامة مشتركة وشعور متماسك بالذات والأمة، والتي تجعل حكم الذات ممكناً، لأنه ذلك الإحساس بالذات هو الذي يسمح بحكم الذات. ولا يستطيع جمع عشوائي من الناس من دون مجموعة محورية من القيم المشتركة تشكيل نظام متماسك، لأنه لا يوجد أي شيء يمكن أن يبقي النظام متماسكاً أو يمنع حدوث فوضى داخلية عارمة. ومن الممكن تدويل مبدأ الحق في تقرير المصير
الوطني، لكن ممارسة تقرير المصير الوطني يجب أن تكون متجذرة في الأمة. ومن دون هذه الصفة المشتركة، تمزق الأمة نفسها إربا.
وقد شاهدنا هذا يحدث في يوغسلافيا وعندما انفصل التشيك والسلوفاك بحبور. وشاهدنا الفوضى العارمة للإمبراطوريات الأوروبية السابقة، حيث أصبحت الأمم التي تم فصلها عن بعضها البعض من خلال الحدود الإمبريالية وأجبرت على العيش سوية مع أجانب، في حالة اضطراب مستديم. ومن دون أناس لهم هوية ذاتية، لا يمكن أن يوجد الحق في تقرير المصير. ومن دون الديمقراطية التي تنجم عنها، لا توجد الديمقراطية الليبرالية.
تصنع الديمقراطية الليبرالية تأكيدين أساسيين. الأول أن هناك حقاً في تقرير المصير الوطني. والثاني أن تقرير المصير هذا يجب أن يجسد نفسه في نوع من الحكم الشعبي، ويكون للشعب حين يحكم نفسه الحق في أن يختار ويوافق على شكل وجوهر الحكومة. وتكمن النقطة المهمة في أن الديمقراطية تكون شاملة فقط من خلال عدسة الأمة.
تُستمد مركزية الأمة من عدم صلتها بالنظام القديم. ولم تعترف الملكيات القديمة بحق الشعوب في حكم نفسها، ولم تر مفهوم الشعب مهماً. ومن أجل تحدي الاستبداد، كان لا بد من خلق أداة سياسية يتم تطويعها كسلاح قوي. ومن وجهة نظر سياسية، كانت القوة السياسية المتماسكة الوحيدة التي تعارض الملكيات هي الأمة. وتمثلت الثورة الأميركية في صعود أمة تأسست كمستعمرات ضد الملك الانجليزي. وتجسدت الثورة الفرنسية بصعود أمة فرنسية، على الرغم من تشظيها، ضد الملك الفرنسي.
لكن الديمقراطية الليبرالية تتوافر أيضاً عل خطر متأصل فيها: إنها تحتفي بالديمقراطية وبالليبرالية، وهي نظام قيم تُعرف الفرد على أنه المحور الأخلاقي وتضمن له الحرية. وهذا هو التوتر المحوري في الديمقراطية الليبرالية. فمن جهة، تطالب الديمقراطية الليبرالية بحق الشعب في تقرير حكومته الخاصة. ومن جهة أخرى تطالب الشعب بأن يحترم الليبرالية. وبكلمات أخرى، تريد الديمقراطية الليبرالية للشعب أن يحكم، لكنها تصر على أنه إذا فهم الشعب العالم الأخلاقي الذي يعيش فيه، فإنه سيصوت دائماً بطريقة معينة.
لا يكمن التوتر المعاصر في الديمقراطية الليبرالية في الأمة، وإنما هو قائم بين الديمقراطية والليبرالية. وإذا كان للشعب الحق في تقرير المصير، فسيكون له الحق في انتخاب القادة الذين يتوافرون على قيم يفضلون المشاركة فيها. وتكمن المشكلة تكن في أن بعض الناس سوف يعترضون على قادة تم اختيارهم والذين ينتهكون مبادئ الليبرالية.
المعركة القائمة هي بين حق تقرير المصير الوطني من جهة، وبين شريحة من الشعب، والذين يفزعون من المسار الذي اختاره الشعب من جهة أخرى. وثمة أمة بعد أمة يقوم بتمزيقها أولئك الذين يعتنقون ديمقراطية ليبرالية مغتصبة من جانب آخرين صنعوا خيارات ديمقراطية.
كان المؤسسون الأميركيون قد فهموا هذه المشكلة وسعوا إلى حلها من خلال الحد من الديمقراطية بعدد من الطرق. ولعل أهم واحدة من هذه الطرق كانت الدستور الذي كان هدفه هو تعريف الكيفية التي تعمل من خلالها الدولة وطريقة ضبطها لنفسها، وما هي الحقوق المنيعة التي يتمتع بها كل المواطنين، وما هو النظام الذي
يجعل تغيير الدستور صعبا بشكل كبير. وكانت القضية مع الدستور دائماً هي ما إذا كان الشعب سيحترمه، وما إذا كان الطغاة سيقلبونه رأساً على عقب.
تعيش الديمقراطية والليبرالية في توتر خطير مع بعضهما البعض. وتستطيع الديمقراطية أن تدمر الليبرالية إذا أرادت الأغلبية ذلك. وتميل الليبرالية إلى الحد من الديمقراطية إذا وصلت إلى قرارات تتعارض معها. ويكون الدستور القوي هو المفتاح للديمقراطية الليبرالية -القوي من حيث أن الشعب، على مر الأجيال، يحترمه برهبة تقترب من العبادة.
الفكرة هنا هي أن التوتر بين القومية والديمقراطية الليبرالية ليس هو الذي يطاردنا اليوم. إن ما يطاردنا هو التوتر القائم بين المبادئ الليبرالية والديمقراطية. والشيء الوحيد الذي يستطيع احتواء ذلك التوتر هو وجود دستور لا يخلق أي تحديات. ومن دون ذلك ينهار كل شيء. وفي النهاية، يشكل تصميم الدستور القرار الأكثر جوهرية والذي يجب أن تتخذه أمة تحكم ذاتها. ومن الطبيعي أن الدستور يجب أن يكون جديراً بسلطته.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Nationalism and Liberal Democracy
ترجمة عبد الرحمن الحسيني – الغد – 6/3/2017