ترجمات أجنبية

تقرير مترجم عن الإندبندنت – تريد تيريزا ماي أن “يعتز” البريطانيون بإعلان بلفور. ما الذي يعتزون به بالضبط؟

الإندبندنت – روبرت فيسك –2/3/2017
أسس بلفور سياسة الدعم البريطاني لإسرائيل، والتي ما تزال مستمرة حتى يومنا هذا، على حساب الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال في الضفة الغربية والخمسة ملايين لاجئ فلسطيني الذين يعيشون إلى حد كبير في براثن الفقر في أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك غزة الخاضعة للحصار الإسرائيلي. بالتأكيد يجب علينا أن نعتذر.
* * *
قالت لنا تيريزا ماي إن بريطانيا ستحتفل “باعتزاز” بمرور قرن على إعلان بلفور هذا الصيف. وكان ذلك متوقعاً. فرئيسة وزراء بريطانيا التي تتزلف الأوتوقراطيين الذين يقطعون الرؤوس من العرب على أمل بيعهم المزيد من الصواريخ -ثم تضع يدها في يد الرئيس الجديد المجنون المعادي للمسلمين في الولايات المتحدة- ينبغي لها، كما أعتقد، أن تشعر “بالاعتزاز” بالوثيقة الأكثر كذباً وخداعاً ونفاقاً في التاريخ البريطاني الحديث.
كامرأة وضعت نصب عينيها مناهضة المهاجرين، كان من الحتمي أيضاً أن تعبر ماي عن أكثر خصائصها وضوحاً من حيث قابليتها للشراء من قبل الغرباء -للعرب الأثرياء، والرئيس الأميركي الذي ربما ينتج غرامه المؤقت لبريطانيا اتفاقية تجارية منقذة للحياة لما بعد “بريكست”. وكان أمام جمهور من جماعات الضغط البريطانية لصالح إسرائيل حيث عبرت ماي قبل بضعة أشهر عن “اعتزازها” بإعلان بعمر قرن من الزمان، والذي أسفر عن إنتاج الملايين من اللاجئين. ولكن مضمون وثيقة العام 1917 التي وعدت بالدعم البريطاني لإقامة وطن لليهود في فلسطين -وإنما التي ستؤدي في نهاية المطاف إلى خلق مشكلة اللاجئين بالذات -اللاجئين الذين يشكلون هدفاً لسياسات ماي المناهضة للمهاجرين نفسها- هو شيء جائر جملة وتفصيلاً.
كذبة إعلان بلفور الجوهرية –حيث بينما تدعم بريطانيا إقامة وطن يهودي، فإنها لا تفعل أي شيء إزاء “الذي قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية في فلسطين”- تقابلها اليوم الاستجابة غير الشريفة بالمقدار نفسه لسلف بلفور البائس، وزير الخارجية البريطاني الحالي. وقد كتب بوريس جونسون بدقة تامة قبل سنتين أن إعلان بلفور كان وثيقة “غرائبية”، و”غير متساوقة بطريقة مأساوية”، و”قطعة رائعة من خلل السياسة الخارجية”. لكن عمدة لندن صائد الأرباح والمال، اكتشف في زيارة لاحقة إلى إسرائيل أن إعلان بلفور كان “شيئاً عظيماً”، والذي “عكس اتجاهاً عظيماً للتاريخ”. ولا شك في أننا سنسمع المزيد من الهراء نفسه من بوريس جونسون كل الوقت.
على الرغم من أن الإعلان نفسه خضع للتحليل، والتجريد من بعده المعادي للسامية، وجعله رومانسياً، وفك تشفيره، وشجبه، ولعنه وعشقه على مدى 100 عام، فإن الحيلة المتضمنة فيه سهلة التعقب: لقد بذل بلفور وعدين متعارضين بشكل أساسي -بحيث سيتم النكث بأحدهما، الموجه إلى العرب (أي “المجتمعات غير اليهودية”). والآن، يهدد أحفاد هؤلاء الضحايا، الفلسطينيون العرب، بمقاضاة بريطانيا على إصدار هذه الورقة الخبيثة، في رد يائس وصبياني على التاريخ. وربما يقاضي التشيك على حد سواء البريطانيين على اتفاق شامبرلين في ميونخ، الذي سمح لهتلر بتدمير بلدهم. كما يريد الفلسطينيون أيضاً اعتذاراً -بما أن البريطانيين وجدوا الاعتذارات دائماً أرخص كلفة من المحاكم القانونية. وقد أصبح البريطانيون معتادين على تقديم الاعتذارات -عن الإمبراطورية البريطانية؛ وعن تجارة العبيد؛ وعن المجاعة الأيرلندية. وإذن، لماذا ليس عن بلفور؟ نعم، لكن تريزا ماي تحتاج الإسرائيليين أكثر بكثير مما تحتاج الفلسطينيين.
بطبيعة الحال، كان إعلان بلفور في العام 1917 محاولة لتجنب الكارثة التي وقعت في الحرب العالمية الأولى عن طريق تشجيع يهود روسيا وأميركا على دعم الحلفاء ضد ألمانيا. وقد أراد بلفور تجنب الهزيمة، تماماً كما أراد تشامبرلين أن يتجنب الحرب لاحقاً. ولكن اتفاق ميونخ -وهذه هي الفكرة- حُل بتدمير هتلر. وفي المقابل، أسس بلفور سياسة للدعم البريطاني لإسرائيل، ما تزال متواصلة حتى يومنا هذا، على حساب الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال في الضفة الغربية، ونحو خمسة ملايين لاجئ فلسطيني يعيشون إلى حد كبير في براثن الفقر في مختلف مناطق الشرق الأوسط، بمن فيهم أهل غزة التي تحاصرها إسرائيل.
هذه ثيمة الرواية المئوية التي ربما تكون الأكثر درامية لإعلان بلفور، والتي يرويها ديفيد كرونين هذا الصيف (في كتابه المعنون “ظل بلفور: قرن من الدعم البريطاني للصهيونية وإسرائيل”). وكرونين صحفي ومؤلف إيرلندي يعيش في بروكسل، والذي ميزه تحقيقه السابق في دعم الاتحاد الأوروبي الجبان للجيش الإسرائيلي عن عمل الكتاب الأكثر عاطفية (وبالتالي الأقل دقة). ولا يخصص كرونين وقتاً في كتابه لمنكري الهولوكوست أو المعادين للسامية. وفي حين أنه ينفي مباشرة الفكرة الحمقاء القائلة إن المفتي العام الفلسطيني، الحاج أمين الحسيني، هو الذي ألهم هتلر بمحرقة يهود أوروبا، فإنه لا يتفادى ذكر تحالف الحاج أمين مع هتلر. وربما لا يكون خلق إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب كدولة قومية، كما لاحظ أحد المؤرخين الإسرائيليين، شيئاً عادلاً -لكنه كان قانونياً. وتوجد إسرائيل فعلياً بشكل قانوني ضمن حدود تعترف بها بقية العالم.
هنا بالتحديد تكمن الأزمة الراهنة التي تواجهنا جميعاً: إن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية الشائنة تقوم بتسريع عملية الاستعمار الجماعي للأراضي العربية في منطقة ليست جزءاً من إسرائيل، وعلى ممتلكات مسوقة من أصحابها العرب. وهؤلاء المالكون هم أحفاد “المجتمعات غير اليهودية” التي يجب أن لا “تُنتقص” حقوقها، وفقاً لبلفور، بـ”إقامة وطن قومي للشعب اليهودي” في فلسطين. لكن انتقاص بلفور نفسه لهذه الحقوق كان واضحاً تماماً. سوف يحصل اليهود على “وطن قومي” -أي دولة- في فلسطين، في حين كان العرب، وفقاً لإعلانه، مجرد “مجتمعات”. وكما كتب بلفور لخلفه كورزون بعد سنتين لاحقاً، فإن “الصهيونية… هي… ذات وارد أكثر عمقاً بكثير من رغبات وانحيازات الـ700.000 عربي الذين يقطنون الآن في تلك الأرض القديمة”.
مع ذلك، يكشف كتاب كرونين الموجز كيف أننا تواطأنا في تلك العنصرية كل الوقت منذ ذلك الحين وحتى الآن. ويعرض للقمع الجماعي الذي تعرض له العرب في الثلاثينيات -بما في ذلك الإعدامات التي نفذها الجيش البريطاني في حقهم خارج نطاق القانون- عندما خشي العرب، ولسبب وجيه، أن يتم طردهم من أراضيهم في نهاية المطاف على يد المهاجرين اليهود. وكما كتب أرثر واوتشوب، المفوض السامي لفلسطين، فإن “الموضوع الذي يملأ عقول كل العرب اليوم هو… الخوف من أن يصبحوا في زمن قادم عرقاً خاضعاً يعيش بعنَتٍ في فلسطين، بينما يكون اليهود مهيمنين في كل مجال، في الأرض، والتجارة والحياة السياسية”. لكَم كانوا مصيبين!
وحتى قبل انسحاب بريطانيا من فلسطين، كان أتلي وزملاؤه في مجلس الوزراء البريطاني يناقشون خطة سوف تعني “التطهير العرقي” لعشرات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم. وفي العام 1944، تحدث بيان لحزب العمل البريطاني على هذا النحو عن الهجرة اليهودية: “دعوا العرب يُشجَّعون على الخروج بينما ينتقل اليهود إلى الداخل”. وبحلول العام 1948، كان حزب العمل، الذي هو الآن في الحكم، يعلن أنه ليس لديه الطاقة لوقف تدفق النقود من لندن إلى الجماعات اليهودية التي ستنجز، في غضون عام، عملية “التطهير العرقي” الخاصة بها، وهو مصطلح أصبح قيد الاستعمال الشائع لوصف تلك الفترة منذ قام المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي (الذي يعيش الآن، على نحو متوقع، منفياً من أرضه) بتضمينه في عنوان عمله الأكثر شهرة.
تم ارتكاب المذبحة في حق مئات المدنيين الفلسطينيين في دير ياسين بينما كانت الآلاف من القوات البريطانية ما تزال موجودة في ذلك البلد. ويُظهر تحقيق كرونين في ملفات “المكتب الاستعماري” أن الجيش البريطاني كذب إزاء عملية “التطهير العرقي” لحيفا، حيث لم يقدم الجيش أي حماية للعرب، وهي سياسة استخدمت بعد ذلك في كل أنحاء فلسطين، باستثناء حالة الميجور ديريك كوبر وجنوده، الذي جلب له دفاعه عن المدنيين العرب في يافا وساماً عسكرياً (ولو أن ديفيد كرونين لا يذكر ذلك). وكوبر، الذي حدث أن التقيت به وعرفته بينما كان يعتني بالجرحى الفلسطينيين في بيروت في العام 1982، لم يسامح حكومته أبداً على عدم نزاهتها في نهاية حقبة انتدابها في فلسطين.
مع ذلك، تكمن أهمية كتاب كرونين في أبحاثه الأخرى حول دعم بريطانيا لإسرائيل، وإمدادها المستمر لإسرائيل بالأسلحة، وتواطئها مع الإسرائيليين في أزمة قناة السويس في العام 1956 -التي قامت القوات الإسرائيلية خلالها بذبح 275 مدني فلسطيني في مخيم خان يونس في غزة، وفق تقرير للأمم المتحدة، والذين كان 140 منهم لاجئين من نكبة العام 1948. وكما لاحظ مسؤول عسكري أميركي في ذلك الوقت، فإن الكثيرين من موظفي الأمم المتحدة الفلسطينيين “يُعتقد أنهم أعدموا على يد الإسرائيليين”. وتم التغاضي عن تصدير بريطانيا اللاحق للغواصات ومئات دبابات سنتوريون لإسرائيل بالأعذار الخبيثة نفسها التي استخدمتها الحكومات البريطانية منذ ذلك الحين وحتى الآن لبيع ما تعادل قيمته ترليونات الدولارات من الأسلحة للإسرائيليين والعرب على حد سواء: الادعاء بأن البريطانيين لم يقوموا بتسليحهم، وإنما فعل ذلك آخرون.
وفي المقابل، في العام 1972، زعم هارولد ويلسون إنه “من غير الواقعي مطلقاً” الدعوة إلى انسحاب إسرائيلي من الأراضي التي احتلت في العام 1967، مضيفاً أن “رد الفعل الإسرائيلي طبيعي ومناسب في رفض القبول بالفلسطينيين كأمة”. وعندما طالب الفلسطينيون أول الأمر بحل قائم على مبدأ الدولة الواحدة العلمانية في فلسطين، شجب مطلبهم الدبلوماسي البريطاني (أنتوني بارسونز) الذي قال إن “دولة علمانية متعددة القوميات” سوف تكون “غير متوافقة مطلقاً مع موقفنا تجاه إسرائيل”. وهي كذلك حقاً. وعندما عارضت منظمة التحرير الفلسطينية صراع بريطانيا في جزر فوكلاند، حذرت وزارة الخارجية البريطانيين الفلسطينيين بشدة، وقالت إن الصراع شأن “بعيد كل البعد” عن “اهتماماتهم المشروعة”، كما لاحظت الوزارة- ولو أنها اختارت أن لا تكشف حقيقة أن طائرات سكايهوك التي استخدمها سلاح الجو الأرجنتيني، والتي زودته بها إسرائيل قد استُخدمت لمهاجمة قوات المملكة المتحدة، وأن الإمدادات العسكرية الإسرائيلية للأرجنتين تواصلت خلال الحرب.
بعد سنة لاحقاً، قامت مارغريت تاتشر، وفقاً لمذكرة من دوغلاس هورد، بإضافة “العمل المسلح ضد الأهداف العسكرية لقوة الاحتلال” كتعريف للـ”إرهاب”. وهكذا، لا يستطيع الفلسطينيون حتى مقاومة محتليهم المباشرين من دون أن يكونوا مجرمين.
في زيارة رسمية إلى إسرائيل في العام 1986، قالت تاتشر إنها تعتبر مناقشة موضوع القدس “سياسات داخلية”. وفي العام 2001، وافقت حكومة توني بلير على 90 رخصة تصدير أسلحة إلى إسرائيل، خاصبة بالأسلحة “الدفاعية” -بما في ذلك التوربيدات، والعربات المدرعة، والقذائف والصواريخ. وثمة ما هو أكثر من هذا بكثير في كتاب كرونين، بما في ذلك فترة خدمة بلير العبثية والمشينة كمبعوث “سلام” إلى الشرق الأوسط؛ وتعاقدات التبادلات التجارية المتنامية بين الشركات البريطانية ومزودي الأسلحة الإسرائيليين -إلى حد أن الأمر انتهى بالجيش البريطاني وهو ينشر طائرات مسيَّرة إسرائيلية في أجواء أفغانستان والعراق.
خارج الاتحاد الأوروبي، سوف تحتفظ بريطانيا تيريزا ماي بعلاقاتها الوثيقة مع إسرائيل كأولوية؛ ومن هنا جاءت رغبة ماي المعلنة بداية العام في توقيع اتفاقية ثنائية للتجارة مع إسرائيل. وتصادف توقيت ذلك مع هجوم إسرائيل على غزة، ومع تصويت الكنيست على مصادرة -أي سرقة- المزيد من أراضي وممتلكات الفلسطينيين في الضفة الغربية.
منذ اليوم الذي قال فيه هيربرت صامويل، نائب زعيم الحزب الليبرالي، والمفوض (اليهودي) السامي السابق في فلسطين، في مجلس العموم في العام 1930 إن العرب “يهاجرون بسهولة”، يبدو أن بريطانيا تابعت بكل إخلاص سياسات بلفور. وقد تم اقتلاع 750.000 فلسطيني من أراضيهم خلال نكبتهم، كما يكتب كرونين. وسوف تنشأ أجيال من الفلسطينيين المهجّرين في المخيمات. وهناك اليوم نحو خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مسجل. وكانت بريطانيا هي القابلة التي وُلد على يديها هذا التشريد الهائل.
والآن، سوف تحثنا تيريزا ماي مجدداً على تذكر إعلان بلفور “باعتزاز”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان:
Theresa May wants British people to feel ‘pride’ in the Balfour Declaration. What exactly is there to be proud of?
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 2/11/2017
ala.zeineh@alghad.jo

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى