تقدير استراتيجي / تطوير تفكير أمني – عسكري في الجيش الاسرائيلي

تقدير استراتيجي / بقلم غابي سيبوني ويوفال بيزك وغال بيرل فنكل – 1/6/2018
مقدمة :
خلال سبعة اسابيع بين 26 آب و17 تشرين الاول 1953 كان بن غوريون في اجازة استغلها للقيام بـ “سيمنار”، في اعقابه تمت بلورة العقيدة الامنية لدولة اسرائيل وأسس عقيدة الجيش الاسرائيلي. بن غوريون الذي سيطر على دفة القيادة الامنية لليشوف منذ الثلاثينيات كان مطلوب منه حسب رأيه الابتعاد عن الشؤون اليومية كي يستطيع التعمق وفحص الامور من جديد.
إن تصور بن غوريون أنه في الحرب القادمة سنحارب بطريقة اخرى، مع دول وليس مع عرب اسرائيل، وأن الوسائل والقوات وطرق التفكير لرجال الهاغاناة لا تلائم مقتضيات المستقبل، قادته الى تركيز جهود فكرية في نهايتها تمت بلورة نظرية تحسن التعامل مع التحديات المستقبلية. تلك كانت نقطة البداية لتطوير وتأسيس تفكير عسكري اسرائيلي، أصلي وناجع. هذا التفكير كان يقف في مركز بنية وتفعيل قوة عسكرية وأمنية في ظروف دونية، وهي التي مكنت من توطيد الدولة والشعب تقريبا ضد كل الاخطار.
العقيدة الامنية التي شكلها بن غوريون ارتكزت على فكرة تحقيق حسم عسكري في كل مواجهة. في الوقت الذي بلغ فيه عدد السكان اليهود 1.2 مليون يهودي مقابل دول عربية عدد سكانها بلغ 30 مليون نسمة، كان في مقاربته شيء من الشجاعة، التي وصلت الى مستوى عدم الامكان. بالنسبة لبن غوريون كان هذا الاحتمال المعقول الوحيد رغم معارضة جزء من القيادة العسكرية، لا سيما في اوساط خريجي الهاغاناة.
لقد ادرك بن غوريون أن افضلية اسرائيل تنبع من دمج الجودة البشرية والروح القومية، مع القدرة على استغلال الجغرافيا التي تمكن من التحرك السريع للقوة وتركيزها على قاعدة عمل في خطوط داخلية، من اجل خلق تفوق محلي في كل ساحة. بناء على ذلك، قرر أن “اذا قاموا بمهاجمتنا في المستقبل، فنحن لا نريد أن تدور الحرب في بلادنا، بل في بلاد العدو، وأن لا ندافع، بل نهاجم. هذه الحرب نقوم بها ليس عن طريق البلدات الحدودية، بل عن طريق قوات متحركة ومزودة بوسائل حركة سريعة وبقوة نيران قوية”. هذه الاستنتاجات جعلت بن غوريون يختار مقاربة المناورة ونقل سريع للحرب الى اراضي العدو. هذه المباديء شكلت العقيدة الاسرائيلية للعقود الثلاثة التالية، وقادت الى سلسلة نجاحات عسكرية مثيرة للانطباع.
رغم أن اسرائيل حظيت في العقود الاخيرة بتفوق عسكري مطلق تقريبا، إلا أنه يبدو، بصورة متناقضة تقريبا، أن الانجازات امام الاعداء آخذة في التلاشي. على سبيل المثال، رغم الفجوات الواضحة في علاقات القوة بين اسرائيل وحزب الله في العام 2006 وبينها وبين حماس في العام 2014، فانه في المعركة حقق الجيش الاسرائيلي نجاحا جزئيا، والوقت الذي استغرق تحقيقه كان طويل جدا. منظرون كثيرون وجدوا ملاذا في تفسير أن الامر يتعلق بنوع من “الحتمية” التي تنبع من خصائص المواجهات الجديدة – هذا التفسير وجد القبول في سوق الافكار الامنية – العسكرية الاسرائيلية.
هذا المقال سيطرح مقاربة بديلة يقف في مركزها الادعاء بأن هذه الظاهرة تنبع في الاساس من الضعف المستمر للتفكير الامني والعسكري. وقد تم الادعاء أن السبب الرئيسي لعدم قدرة جهاز الامن، وفي اساسه الجيش الاسرائيلي، على اعطاء رد على التحديات التي تواجهها دولة اسرائيل، ليس النقص في الموارد، بل السبب الرئيسي هو ضعف الانظمة البنيوية للجيش الاسرائيلي، التي تتولى تطوير واستيعاب العقائد القتالية. هذا المقال سيحاول الاجابة على اسئلة مثل لماذا ضعف التفكير العسكري الاسرائيلي؟ ما هي اهمية ذلك وما هي تداعيات هذا الامر على الامن القومي وعلى القوة العسكرية لدولة اسرائيل؟ كيف نعيد ترسيخ مكانة التفكير الامني العسكري في قلب القوة القومية؟ والاهم من ذلك، ما المطلوب عمله من اجل أن يكون الجيش الاسرائيلي مستعد جيدا لمواجهة التحديات المستقبلية؟.
جيوش في عصر العلم – ماذا حدث للتفكير العسكري الاسرائيلي
الفكر العسكري هو اسم شامل للعلم المتطور فيما يتعلق بالحرب وطرق التنظيم استعدادا لها وطريقة ادارتها. وهذا الفكر يستند الى الفكر العسكري الذي يطمح الى عملية تنظير لظاهرة الحرب، وتجذب من داخلها المباديء العالمية والمعرفة التي تطورت على مدى التاريخ من خلال بحث وتعلم ظاهرة الحرب. مع ذلك، هو يرتبط ارتباط لا ينفصل عن زمان ومكان الشروط المحددة لأن الحرب هي ظاهرة اجتماعية تغير اساليبها والوسائل المستخدمة فيها والافكار التي تخدمها، كلما تطور التاريخ الانساني. هي تتشكل بمجيء المجتمعات وتتغير كلما تغيرت المجتمعات الانسانية.
من هنا فان الفكر العسكري مطلوب أن يتطور ويتجدد طالما أن المعطيات الاساسية والبيئة التي تتناولها تتغير. الفكر العسكري ينتج ويشكل قاعدة ضرورية لتطور الاستراتيجيات والعقائد الامنية والعسكرية الخاصة التي تواجه تحديات الامن التي تواجهها الدولة وتشكل فيما بعد الاساس النظري لتطور الرؤية والعقائد القتالية لاستخدام القوة وبنائها. اضافة الى ذلك، اختبار الفكر العسكري هو في عالم الواقع في الحرب. قوته ليست في قدرته على الشرح بل قدرته على أن يؤدي الى عمل صحيح. “هو التوراة التي تقود الى العمل“.
في الاربعين سنة الاخيرة مع تسارع الانتقال من العصر الصناعي الى عصر المعلومات، تحولت المعرفة لتصبح المورد الاكثر اهمية بالنسبة للمنظمات والدول. الانتاج الاجمالي للدولة وقوتها العسكرية وقدرتها على التأثير في الساحة الدولية ترتبط اليوم بقدرتها على امتلاك وتطوير المعرفة، اكثر من أي مورد آخر. كلما ازداد وضوح الفهم في العالم بأن المعرفة هي جوهر الجودة والاقتصاد والقوة، فان الجهاز الامني وجيش الدفاع في مركزه، ذهب في منحى مختلف تقريبا.
في الجيش الاسرائيلي الذي اساس الجودة كان جزء اساسيا من قوته منذ بدايته، تم اختراق التوازن مع مرور السنين، في الوقت الذي فيه مركز الثقل انتقل من الجودة العقيدية الى الجودة التكنولوجية. بالصورة التي تطور بها الجيش الاسرائيلي، فان هذا الامر كان تقريبا امر لا يمكن منعه. في الوقت الذي نمت فيه التكنولوجيا في الحقول المفتوحة للصناعة والاكاديميا والبحث العلمي فان النظام العسكري والامني قد هز الاسس العلمية التي ارتكز اليها. لماذا حدث ذلك؟.
حتى السبعينيات حظي الجيش الاسرائيلي بظروف استثنائية – قادة لهم تجارب كبيرة عملياتية تراكمت في الحروب، ورؤية امنية وعقيدة تشكلت في الخمسينيات والستينيات وشكلت اساس المعرفة والفكر العسكري، سوية مع “ذراع فكري” لضباط تم تأهيلهم في جيوش اجنبية، وهم الذين كتبوا نظريات القتال ووضعوا الاساس لنظام العقيدة والتدريب في الجيش الاسرائيلي. كل ذلك عوض عن الثقافة العسكرية الاساسية، التي بدأت كواجب وتحولت مع مرور السنين الى مبدأ في نموذج الخدمة للجيش الاسرائيلي والى اساس في ثقافته وتشكله المهني.
الجنرال (احتياط) حاييم نادل الذي بحث تطور الفكر العسكري في الجيش الاسرائيلي بين حرب الايام الستة وحرب يوم الغفران وصف الكسر الذي ظهر في الفكر العسكري الاسرائيلي بعد حرب الايام الستة، التي منها بدأت عملية الضمور والغروب. إن سكرة الانتصار والايمان الاسطوري تقريبا بضربة المدرعات أدت الى التخلي عن الفكر العسكري والى اعتقاد الضباط بأنه يمكنهم ادارة معارك المستقبل استنادا لتجاربهم الشخصية. العقيدة الشفوية دفعت جانبا العقيدة المكتوبة، والتجربة الشخصية حلت محل التعلم العميق من تجارب الآخرين، والعقائد الخاصة بهيئة قيادة الاركان لقسم توجيه الجيش الاسرائيلي أخلت مكانها لعقائد سلاح واحد كتبت على أيدي القيادات والجيوش من وجهة نظر ضيقة ومؤقتة. على سبيل المثال “رغم ان الصواريخ المضادة للطائرات والدروع ظهرت بالتدريج في فترة حرب الاستنزاف في المواجهات الجوية والبرية مع القوات المصرية، إلا أن الجيش الاسرائيلي تجاهل ما يحدث وعانى من الشلل الفكري. اضافة الى ذلك، الجيش الاسرائيلي لم يستطع تعلم الدروس من الآخرين الذين مروا في اوضاع مشابهة”. وامتنع عن تطوير رد فكري وعقيدي كامل عليها.
بعد حرب الايام الستة بالضبط، في الفترة التي تغيرت فيها الظروف جذريا التي استندت عليها عقيدة الامن، واحتاج الامر جهد كبير وشامل ومنهجي لتطوير الفكر العسكري وكتابة عقائد جديدة، حدث الصدع الكبير في الفكر العسكري الاسرائيلي، الذي استند اليه المبنى الامني جميعه. حرب يوم الغفران كانت اشارة تبشر بالسوء، لكن يبدو أن عبر المفاجأة نسبت للاستخبارات اكثر من جوانب الفكر العسكري، وعقائد القتال والخطط العملياتية.
منذ بداية التسعينيات ومع التطور الكبير في التكنولوجيات، تضاءلت بعملية تدريجية وثابتة مكانة الفكر العسكري والمؤسسات التي تولت تطويرها. بدل أن تكون العقيدة هي القاطرة الرائدة التي تقود اعمال الحرب، احتلت التكنولوجيا مكانها.
أحد الامثلة على فقدان اجهزة الفكر العسكري تبدى في المسيرة التي مر بها قسم التوجيه في الجيش الاسرائيلي، الذي كان مسؤول عن تطوير الفكر العسكري وتوريثه للقادة بواسطة العقيدة القتالية، ومناورات حربية ونقاشات نظرية، التي قام بها بصورة روتينية. مع مرور السنين الاولى للجيش الاسرائيلي كان يقف على رأس قسم التوجيه ضباط من مركز القيادة العملياتية في الجيش الاسرائيلي الذين اثروا على طريقة تشكيل الجيش وبرزوا في الحرب. هذه الوظيفة شكلت بالنسبة لهم خشبة قفز للوظائف الرئيسية في الجيش، ولم يكن هذا عبثا. قسم التوجيه كان دماغ القيادة العامة، المكان الذي يتطور فيه الفكر ومنه تخرج العقيدة للجيش الاسرائيلي كله.
يمكن، على سبيل المثال، فحص دور ومكانة قسم التوجيه في عهد رابين كرئيس للاركان، بدء من العام 1964، كجزء من العملية التي قادها رابين والقيادة العامة برئاسته لتحديث بناء القوة، التسلح والتأهيل للجيش الاسرائيلي من اجل ملاءمته للمعركة القادمة، عمل قسم التوجيه برئاسة الجنرال تسفي زمير على ملاءمة تدريبات الوحدات مع البرامج العملية في اعقاب وصول معلومات اشارت الى أن جيش مصر والجيش السوري انتقلا الى انظمة دفاع تقوم على عقيدة سوفييتية – وهذا تطور احتاج الى ملاءمة وتحديث عقيدة العمل في الجيش الاسرائيلي. رغم أن هذه التغييرات ووجهت احيانا بمعارضة من جانب جزء من الضباط الميدانيين، إلا أن مركزية القيادة العامة لتحديد اطار التدريبات بشكل عام وسيطرة قسم التوجيه على موازنة التدريب بشكل خاص، فرضت استيعاب التغيير المطلوب.
بعد حرب الايام الستة حدث منحى من التراجع الطويل والمستمر في مكانة واهمية قسم التوجيه. ومعه في نفس الوقت اخذ يضعف الفكر العسكري الاسرائيلي. إن فصل عقيدة القتال الشاملة للجيش الاسرائيلي الى عقائد سلاح وعيوب شديدة التي تم اكتشافها في القتال المندمج في حرب يوم الغفران أدى بوزير الدفاع موشيه آرنس أن يفرض على الجيش الاسرائيلي تأسيس قيادة جيوش الميدان التي اخذت على نفسها مسؤولية بلورة عقيدة القتال وفقا لاسلحة الميدان.
كانت تلك هي الخطوة الاولى في المسيرة التي وصلت نهايتها في 1992، عندما اتخذ قرار في هيئة الاركان العامة برئاسة الجنرال اهود باراك بتقليص قسم التوجيه من قسم في قيادة الاركان العامة الى لواء تحت إمرة قسم العمليات. من هنا اخذ في التضاؤل بجرحة ملحوظة دوره في تشكيل وبلورة بنية القوة وعقيدة العمل في الجيش الاسرائيلي. في البداية وضع على رأسه ضابط برتبة جنرال، وفي بداية العام 2000 تم خفضها الى رتبة عميد. كان ذلك هو التوقيع الرسمي على فقدان مكانة الفكر العسكري في الجيش الاسرائيلي و”تبادل الادوار” في مركب النوعية بين الفكر العسكري والتكنولوجيا. للمرة الاولى منذ تشكيل منتدى هيئة القيادة العامة للجيش الاسرائيلي غاب عنه ممثل الفكر العسكري، هكذا حدث عندما كان العالم يقف على عتبة عهد العلم، خلال الثمانينيات، والفكر الامني الاسرائيلي فقد بالتدريج مكانته في اتخاذ القرارات. المكانة الاساسية التي استند اليها المبنى الامني جميعه ضعفت في الوقت الذي اخذت فيه التكنولوجيا بمراكمة المكانة والقوة. الفجوة التي اخذت تتسع بين عقيدة الامن وعقيدة القتال في الجيش الاسرائيلي وبين الواقع الذي تغير بسرعة بعد حرب الايام الستة، وبصورة اكثر بعد حرب يوم الغفران، احتاجت تحديث وربما حتى تغيير عميق. رغم أنه كان هناك حاجة كبيرة لتطوير عقيدة محدثة، إلا أن المؤسسة الامنية لم تنجح في القيام بذلك.
حرب الايام الستة لم تعبر فقط عن تغير ميدان القتال، بل شكلت اضافة الى ذلك نقطة تحول عبرت عن تغييرات عميقة في المجتمع الاسرائيلي. اضافة الى ذلك، في الثمانينيات حدثت تغييرات جيوسياسية عميقة في الساحة الاقليمية والساحة الدولية، اجزاء كبيرة من المعطيات الاساسية التي استندت اليها العقيدة الامنية تغيرت بصورة كبيرة. ورغم ذلك لم تنجح الاجهزة الامنية في القيام بما قام به بن غوريون.
في ظل غياب التحول المطلوب بدأت السفينة الامنية بالتلاطم والتمايل امام امواج الواقع المتلاطمة: ازمة مالية عميقة هددت بتدهور اقتصاد اسرائيل في بداية الثمانينيات، ازمة ثقة في الحروب غير الوجودية، ازمة المساواة في تحمل العبء في المجتمع غير المجند في معظمه وعدم الرضا عن الانجازات في ميدان القتال في حروب لبنان وعن المنطقة الامنية. وفي سنوات الانتفاضة الاولى والعمليات في قطاع غزة. ورغم الفجوات المتعاظمة بين الجيش الاسرائيلي وأعدائه، ورغم القوة الاقتصادية والتكنولوجية التي لا يعادلها شيء والتي استند اليها الجيش الاسرائيلي في العقود الثلاثة الاولى من وجوده، كانت النتائج مخيبة للآمال.
الانتقال الى حروب تكنولوجية – رياضية – الحلم وتحطمه
حالة من الحالات الاختبارية الاساسية لهذه الظاهرة ارتبطت بتعاظم عنصر النيران امام عنصر المناورة في الرد العملياتي للجيش على التهديدات التي تطورت ضده. مع دخول العالم الى العولمة بدأ حلم الجيش التكنولوجي بالانفجار. المناورة استبدلت بالنار المضادة المرتكزة الى معلومات استخبارية تكنولوجية في الاساس.
حرب الخليج وبعدها الحرب في كوسوفو شكلت في نظر الكثيرين بداية عهد جديد. فقد نشأ عهد الحروب “النظيفة” للشاشات والازرار – عهد فيه فنون الحرب استبدلت بعلم تطوير لوغرتمي. الجنرال اسرائيل كاتس الذي توقع هذا التطور حذر قبل عقدين من أنه “من الخطأ التفكير أنه لأن الوسائل القتالية تزداد دقة، فان الحرب اصبحت رياضية ودقيقة”. إن ضعف العوامل المتعلقة بنظرية القتال في القيادة العامة والانقطاع بين القيادة العامة وبين الذراع البرية أديا الى أن القيادة العليا في الجيش الاسرائيلي اهملت القوات البرية، وتم اعتبارها منذ ذلك الحين جزء من المشكلة وليس جزء من الحل، حيث ان استخدامها يمكن أن يستمر لفترة طويلة وأن تشمل تقريبا بصورة مطلقة مصابين. اضافة الى ذلك، وخلافا للقوات البرية التي استخدامها يحتاج جهد لوجستي كبير، فان سلاح الجو متاح للعمل الفوري والمحدود (الذي يمكن وقفه في أي وقت)، الذي يتم بعيدا عن نظر الجمهور ولا يحتاج بالضرورة من الدولة شن حرب حقيقية. القوة الجوية ايضا تمكن من استغلال التفوق التكنولوجي والعسكري واستخدام سلاح موجه بصورة دقيقة، تقلص الاخطار على قوات الجيش الاسرائيلي وعلى المدنيين غير المشاركين. وقد تبين أن اغراء شن حروب نظيفة ودقيقة غطى على اعتبارات اخرى.
كلما قامت فنون الحرب باحناء رأسها امام النار الدقيقة، كلما تغيرت نقطة التوازن في مسيرة بناة القوة، وقوة التدمير البرية فقدت مكانتها لصالح نيران تقوم على المعلومات الاستخبارية. حقيقة أنه منذ عملية “تقديم الحساب” حول الجيش الاسرائيلي تدريجيا مركز الثقل الى عمليات النيران، فقط عززت هذا التوجه. التدريبات والمعدات ومخازن طواريء واحتياط – كل ذلك تضاءل كلما سار الجيش الاسرائيلي قدما في خط الجيش التكنولوجي. المفهوم التكنولوجي لم يتم خرقه حتى عندما تعرض الجيش الاسرائيلي للفشل في ميدان القتال (المنطقة الامنية وحرب لبنان الثانية والعمليات المختلفة في قطاع غزة). تفسيرات ذلك كانت كثيرة وجميعها أدت الى النتيجة الحتمية – مطلوب مواصلة تعزيز التفوق التكنولوجي. في المقابل، تعززت العبرة الثانية وهي أنه لا يمكن الانتصار بغموض من هذا النوع.
خرق التوازن بين جودة التفكير العسكري وجودة التكنولوجيا نقل الاولوية من قسم العقيدة القتالية الى قسم تطوير الوسائل القتالية، من حلول عملية الى بحث وتطوير تكنولوجي. في الواقع الذي أخذ في التشكل، حتى عندما تم بذل جهود وطورت رؤية من قبل اجسام العقيدة القتالية والاجسام العملياتية، لم تؤثر تقريبا على محور بناء القوة، الذي واصل ان يكون موجه نحو التكنولوجيا. العقائد القتالية ليس فقط لم تكن تعتبر هي قوة الجذب التي تجذب نحوها التكنولوجيا، بل نشأ واقع الذي بحسبه “الاستثمار في تطوير رد عقيدي – مهني – قيادي محزن بقلة اهميته امام الاستثمار في الابحاث والتطوير برد تكنولوجي”.
ما المطلوب عمله
في كتابه “أمن قومي” قال اسرائيل طال إن “مباديء العقيدة الامنية ورؤية التنظيم والبنية الاساسية للجيش الاسرائيلي حددت في الخمسينيات، الفكر العسكري الاسرائيلي منذ ذلك الحين ليس سوى ملاحظة هامشية للفكر العسكري الذي تمت بلورته في حينه. الاسس هي نفس الاسس”. معنى ذلك حسب رأيه أنه رغم التغييرات الدراماتيكية التي جرت في الواقع الامني والعسكري فان اسرائيل ما زالت تعتمد على الافكار والمفاهيم التي طورت ازاء تحديات وظروف مختلفة تماما.
التفوق الفكري للعدو هو احد مفاتيح التطوير الفعال العملي. هذا التفوق يبرز في مجالين مميزين – تعزيز التفوق في منافسة التعلم بين المواجهات، والقدرة على التكيف والتعلم العملياتي اثناء المواجهات. من جهة، قدرة الجيش الاسرائيلي والاجهزة الامنية على التعلم بسرعة وتكيف نماذج العمل من خلال استيعاب وسائل جديدة، وقفت في اساس التفوق الذي تطور امام التنظيمات الارهابية في الانتفاضة الثانية. في المقابل، جهاز الامن فشل في الاستعداد امام تهديد الانفاق. رغم أن هذا التهديد كان معروف للجيش الاسرائيلي من العام 2003، إلا أن بحث داخلي في الجيش الاسرائيلي حول عملية الجرف الصامد أدى بالجنرال يوسي بخر، ضابط المظليين في فرقة غزة الذي قاد العملية، جاء أن “عشية العملية كانت الانفاق الهجومية بالنسبة لمعظم قادة القوات تعتبر امر مجهول. كان هناك وعي للتهديد، لكن قوته وابعاده لم يتم ادراكها”. لذلك، لم يتم اعداد قوات الجيش الاسرائيلي للقتال في المجال التحت ارضي، ولم يتم شراء ما يكفي من الوسائل الهندسية من اجل تدميرها، ولم يتم وضع مخطط عملي شامل لمواجهة هذا التهديد. اسرائيل ايضا تأخرت جدا في الرد على التهديد المتزايد للنيران متعددة المسارات للعدو، وفهمت بشكل متأخر جدا اهمية الحرب النفسية والقانونية التي اخذت تتسارع. الجيش الاسرائيلي اثبت قدرة على التكيف مثيرة للانطباع من خلال الاحتكاك، لكن اظهر قدرات متدنية في تشخيص التحديات مسبقا وبناء رد لها فعال قبل المواجهة.
اساس الحاجة الى تطوير الفكر العسكري للجيش الاسرائيلي استند الى مدماكين: اعداد وتعليم كل المستويات القيادية، وبناء الاجهزة التنظيمية التي تتولى تطوير الفكر العسكري وادخاله الى وعي الجنود. المهنة العسكرية مثل كل مهنة اخرى تحتاج في اساسها الى تخصص وتطوير معا. التعلم من التجربة محدود لأنه فقط في احيان قليلة تتم مراكمته في ميدان القتال، الذي هو “مختبر التجارب” الصحيح الوحيد للمهنة العسكرية. من هنا فان عنصر الثقافة النظري والبحث العسكري التي تراكم تجربة الآخرين هي الوسيلة الاساسية التي تستخدم في تطوير الخبرة والمعرفة العسكرية. في البنية والثقافة والعمليات التي تجري في الجيش الاسرائيلي ليس هناك سبيل لايجاد خبرة عسكرية، بدون قدرات وخبرة في عوالم المعرفة الامنية – العسكرية لا يمكن توقع تطوير معرفة وحداثة، وبدون حداثة عقيدية يصعب توقع تحسن النجاعة العملياتية.
وثيقة استراتيجية الجيش الاسرائيلي التي نشرت في 2015 اكدت مجددا على عملية المناورة البرية. حسب الوثيقة، في المواجهة المستقبلية سيستخدم الجيش “ضربة مدمجة فورية في نفس الوقت” تشمل تحرك بري سريع واطلاق نار سريع ودقيق. في المقابل، حدثت عمليات لارجاع مسؤولية القيادة العامة كقيادة عليا لقيادة القوات البرية. الى جانب رؤية استخدام القوة تشخص استراتيجية الجيش الحاجة الى تطوير وتأسيس الفكر العسكري والشروط المطلوبة لخلق التفوق الفكري، الذي يخدم الجيش الاسرائيلي في خلق حداثة فكرية الى جانب الحداثة التكنولوجية، من اجل القيام بذلك مطلوب من الجيش الاسرائيلي الذي ما زال يشكل اساس التفكير للمؤسسة الامنية، اتخاذ عدة نشاطات هامة التي ستحول الرؤية الى قدرة قابلة للبقاء.
أولا، مطلوب اعادة ربط اجزاء “عقل هيئة الاركان العامة” من خلال ايجاد ربط قوي بين عملية تطوير المعرفة واستيعابها وبين الاجهزة التي تعمل على تشغيل القوة. قسم العمليات وقسم التدريبات كانا في السابق المحرك الذي من خلاله عملت هيئة الاركان لهذه الغاية، وهذه كما هو معروف انقسمت وضعفت خلال السنين، ويجب ربطها واعطاءها مكانتها وصلاحيتها من جديد. قسم العمليات انقسم الى قسم العمليات وقسم التخطيط واصبح مطلوب التنسيق بينهما، وليس اقل من ذلك صلاحيات ومكانة تمكنهما من قيادة وتوجيه العمليات المركزية مقابل الاذرع والاجسام الاخرى. إن تحديد نائب رئيس الاركان كرئيس لهيئة الاركان بوظيفة كاملة، مثلما استخدم في السابق رئيس قسم العمليات، هو عملية هامة يمكنها أن تخرج هذه الفكرة الى حيز التنفيذ.
اعادة مكانة العقيدة القتالية التي غابت عن طاولة هيئة الاركان في العقود الثلاثة الاخيرة هي الخطوة الثانية المطلوبة. قائد الكليات مسؤول حتى الآن عن اعداد الضباط الكبار، لكنه لا يهتم اطلاقا بتطوير الفكر العسكري والعقائد القتالية. إن توثيق الصلة بين قسم العقيدة والتوجيه وبين كليات الجيش الاسرائيلي هام من اجل تطوير الفكر العسكري وكتابة العقيدة، ونقلها بواسطة تأهيل الضباط الكبار. خلال سنوات كثيرة جدا العقائد التي كتبت في الجيش الاسرائيلي “بقيت على الرف”، وفي المقابل المعرفة التي تطورت من خلال التقاء الطلاب مع المدربين خلال اعداد الضباط الكبار لا تتسرب الى داخل العقائد وهذا الامر يحتاج الى تغيير هذا الواقع.
اضافة الى بناء القوة هناك ايضا انظمة منفصلة، في حين أنه في الجيش الاسرائيلي تتطور عقائد لتوجيه عملية بناء القوة. في المقابل، عملية بناء القوة، ومنها مشاريع غنية بالمصادر، تعمل بدون أي صلة مع هذه العقائد. مطلوب العودة والربط بين اجهزة التأهيل واجهزة تشغيل القوة واجهزة بناء القوة.
حقيقة أن التجربة الشخصية المباشرة لمعظم قادة الجيش الاسرائيلي تم الحصول عليها في ميادين القتال التكتيكية في المواجهات المحدودة، خلقت امام الجيش الاسرائيلي صعوبة تمتد لسنوات كثيرة في مجال الخبرة المهنية العسكرية. تأهيل معمق، تعلم ومشاهدة تعتبر أمر لكل عسكري، من اجل القيام بذلك يقترح تغيير نقطة التوازن في تطوير الضباط، بين فترة التأهيل وفترة الخدمة، وادخال ثقافة البحث والدراسة والكتابة كأمر اعتيادي. قيادة جادة مهنية متخصصة بالمهنة العسكرية ولا تعتمد فقط على تجربتها هي امر ضروري من اجل اعادة تحريك عجلة الزخم للفكر العسكري.
اضافة الى ذلك، يجب على الجيش الاسرائيلي خلق مستوى من المختصين العقائديين – مدنيون وضباط في خدمة فعلية، يملكون المعرفة المتعلقة بموضوع معين ويتم استخدامهم كمساعدين في تطوير الفكر العسكري. في عصر المعرفة، جودة المؤسسات هي جودة الاخصائيين الذين يخدمون فيها. في ظل غياب الاختصاص يضطر الجيش الاسرائيلي الى الاستعانة بخبراء خارجيين. هذه الظاهرة تتسبب باضرار طوال الوقت لأنها تمنع تطوير عملية معرفة متواصلة من قبل ضباط في الجيش مرتبطين بالعلم العقيدي والوحدات في الميدان ووضع اهليتها ومستوى التهديدات. تطوير مسارات خدمة لباحثين عسكريين في المجالات المختلفة التي تشكل لب المعرفة العسكرية مطلوب من اجل خلق فكر عسكري يمكنه مواجهة وتيرة التطورات التي يمليها الوقت.
الخلاصة
في العام 2015 بعد اكثر من اربعين سنة على حرب يوم الغفران، تمكن الجيش الاسرائيلي من اصدار وثيقة تأسيسية – استراتيجية الجيش الاسرائيلي – التي هدفها توجيه تشغيل القوة وبناءها. توجد للجيش الاسرائيلي وثيقة تعبر عن الفكرة التأسيسية لمواجهة التحديات التي تواجهه وهي تقوم على مهنة تفكير شاملة، لكن ما زال الوقت مبكرا لتقدير كيف ستتحول الوثيقة من تفكير منظم الى واقع، وكيف سيقف امام تحديات الوقت والسياسة التنظيمية والضغط اليومي.
في عصر العلم وجد عدم تناظر كبير بين الوتيرة والطبيعة التي يتطور فيها العلم والمعرفة التكنولوجية وبين النقص في تطور الفكر العسكري. في هذا الوضع يزداد الاغراء في ايجاد الحلول للمشكلات العسكرية في سوق المعرفة المدنية واستخدامها في الامور العسكرية، بدل الجهد الشاق لتطوير حلول ترتكز على الفكر العسكري. في الجيش الاسرائيلي الذي بني منذ البداية كجيش غير متناسب يتحول هذا الامر الى مشكلة صعبة.
اساس المعرفة لدى المؤسسات العسكرية يتم تنظيمها بواسطة عقيدتها، من المستويات العالية جدا – وثائق الامن القومي وحتى التقنيات والاجراءات في المستوى المنخفض. هذه الوسائل تشكل اساس المعرفة التي تمت مراكمتها من خلال تجربة المؤسسة ومن تجربة الآخرين، وهي تخدم رجال العمليات عندما يأتون لتطوير نظريات برامج عملياتية امام المشكلات التي يضعها امامهم ميدان القتال، وهي تشكل القاعدة لبناء القوة العسكرية وتطوير القدرات ازاء تحديات الواقع المستقبلي.
مثل أي تخصص مهني آخر، كذلك ايضا عقيدة القتال يجب عليها الاستناد الى المعرفة التي تمت مراكمتها من تجربة الماضي، لكن يجب النظر الى الامام وتطوير معرفة ذات علاقة ازاء تحديات المستقبل. ومثل أي تخصص مهني هي تحتاج من رجالها تخصص عبر سنوات كثيرة من الدراسة والابحاث والتعمق قبل أن يستطيعوا انشاء مدماك جديد من المعرفة الخاص بهم.
بعد حوالي ثلاثة عقود استثمر فيها الجيش مبالغ هائلة لخلق افضلية تكنولوجية، والشعور بأن الفجوة بيننا وبين العدو فقط هي آخذة في التقلص، من المطلوب تغيير الاتجاه وتسليط الضوء على الجودة الفكرية. هذه هي التي توفرت لدى اسرائيل في بداية تأسيس الجيش الاسرائيلي في ظروف اكثر خطورة بكثير، وهي التي تستخدم الآن كقاعدة لنمو صناعة مشاريع المبادرات التي تسرع الاقتصاد الاسرائيلي، وفقط هي التي يمكنها بناء وتشغيل قوة قومية فعالة امام تحديات المستقبل.