أقلام وأراء

تاريخان للإرهاب وبيئتان

عبد الإله بلقزيز – 12/4/2021

للإرهاب في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة تاريخان، تطوّر فيهما وأيْنع، وبيئتان حاضنتان، عاش وتغذى منهما؛ تاريخ وبيئة محليان إطارهما الداخل الاجتماعي والثقافي العربي والإسلامي؛ وتاريخ وبيئة برانيان (عالميان) وفّرا له الكثير من الإمكان الذي امتنع عليه في الداخل. ولذلك، كما يفيد التحليل السوسيولوجي والتحليل الثقافي في فهم ظاهرته ونُموها في الداخل، يفيدنا التحليل السياسي للسياسات الدولية لمعرفة كيف أمكن لهذه الحالة الشاذة المعزولة أن تفْشوَ على أوسع نطاق، فتتحوّل إلى معْول لهدم كيان الدولة الوطنية وتمزيق أواصر الاجتماع المدني والوحدة الوطنية.

في الوجه الأول (المحلي) للظاهرة، لم يعد من شك في أن التطرف والإرهاب منتوج اجتماعي وثقافي محلي، في المقام الأول، قبل أن يُسخّر من خارج. وهو محلي لأنه من جوف مجتمعاتنا خرج؛ من نظمها التعليمي المهترئ؛ من ثقافة الانغلاق والتعصب السائدة؛ من البؤس الاجتماعي والتهميش؛ من الاستبداد والفساد؛ من نوع التكوين الديني الذي يتلقاه أبناء المجتمع: القائم على التقليد والتكرار واجترار أقوال الأقدمين من غير بينة من العقل، والقائم على كراهية المختلف في الملة والمذهب؛ من ثقافة خُلوٍ من قيم النظر العقلي والنسبية في التفكير والاجتهاد لفهم مقاصد النص الديني، خُلوٍ من قيم التسامح والاعتراف والرأي المخالِف: أكان داخل الملة أو خارجها.

التطرف والإرهاب، بهذا المعنى، ثمرة مُرّة لداخل عربي وإسلامي مزدحِم بالمشكلات والأزمات العميقة التي أنجبت فيه هذه الظاهرة الشوهاء، وكشفت عن مدى التردي والانحدار الذي بلغته أوضاعه الاجتماعية العامة. ليس يجوز لأحد أن يعتقد بأن التطرف والإرهاب برّانيّان عن نظامنا الاجتماعي والثقافي وعن منظومة قيمنا، وتشويه لهما؛ فالوباء هذا لم ينزِل من السماء وإنما من داخل الاجتماع العربي والإسلامي ومنظوماته ومؤسساته خرج. ويُستفاد من ذلك، في مستوى ثان من النظر، أن معالجة هذا الوباء الفتاك لا تُمكن من دون معالجة جملة العوامل والأسباب التي صنعته وأفضت إليه؛ فهو منها بمنزلة العَرَض من المَرَض والمعلول من العِلّة لذلك نقول – مع آخرين – إن علاجه لا يكون أمنياً فحسب؛ بل هو علاج شامل: سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وتعليمي: ضمن استراتيجية عمل متكاملة.

أما في الوجه الثاني (العالمي) فلم يعد ثمّة من شك في أنّ عنفوانَه المادي والقتال، وقدراته الهائلة على هز الأمن والاستقرار في مجتمعاتنا وعلى مواجهة الضربات الأمنية واستيعابها، أحياناً؛ بل إنهاك قوى الأمن والجيش في مواجهات مفتوحة.. إنما هي جميعها من نتائج اندراج قواهُ ومؤسساته في شبكات دولية ترعاها مخابرات الدول الكبرى، وتُغدِق عليها الأَمداد والمساعدات: من المعلومات والخبْرات والتدريب إلى الأموال والأسلحة.

وسيكون المرء منا على درجة محترمة من الغباء إن هو صدّق أن الجماعات الإرهابية التي مزّقت أوطاناً، مثل سوريا وليبيا وأفغانستان، تملك أن تفعل كل ما فعلته بإمكانياتها الذاتية المحدودة فتستنزف دولاً وجيوشاً، من دون أن تكون قد تلقّت التغذية المادية من خارج قويٍ ومُعادٍ.

من البيّن، إذاً، أن علاقة مكينة تقوم بين العولمة والإرهاب، في العقدين الأخيرين، لا سبيل إلى تجاهل ما تنهض به من أدوار في السياسات الدولية اليوم. والعلاقة هذه ابْتُنيت أساساتها حتى قبل العولمة؛ منذ انتسجت العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية، في عهد إدارة رونالد ريغان، في ثمانيات القرن الماضي، والحركات المسلحة الأفغانية، وجماعات «الأفغان العرب». لكنها تبلغ ذراها، اليوم، على مثال ما عاينّا وقائعه في حوادث «الربيع العربي».

في الوجه الأول للعلاقة بين الإرهاب والعولمة يبدو الأول أداة تتوسّلها العولمة، والقوى الكبرى المتحكمة فيها، لفرض إراداتها وسياساتها على البلدان الصغرى. وقد تتدرّج الأهداف العولمية من توسله: من تسخيره أداة ضغط واستنزاف لتلك البلدان، قصد حمْلها على الرّضوخ للإملاءات الخارجية، إلى إِعماله أداة فتْك لكياناتها وإعادة هندستها سياسياً. أما في الوجه الثاني للعلاقة فيركب الإرهاب صهوة العولمة، مستفيداً من غُنم مكتسباتها المادية، ومن دعم قواها الكبرى، لتحقيق أهداف مؤسساته الممتنعة عليه بإمكانياته الذاتية. وفي هذا الوجه الثاني من العلاقة يكف الإرهاب عن التمظهر في صورته المحلية التقليدية ليتعولم؛ أي ليصبح ظاهرة جديدة عابرة لحدود الأوطان. وهذا هو، بالذات، ما تدفع إليه عولمة الإرهاب التي انطلقت موجتها الكبرى منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى