أقلام وأراء

تأملات خريفية حول ركائز المشروع الوطني الفلسطيني

د. سعيد زيداني *- 3/11/2021

يقوم المشروع الوطني الفلسطيني على إجماع الحركات السياسية الرئيسة وقوى المجتمع الفاعلة حول أربع ركائز أساسية هي التالية :

الأهداف النهائية للنضال الوطني

وسائل وأفعال النضال الوطني

شرعية الممثل الوطني

خصوصيات الوضع الفلسطيني 

وفي غياب الإجماع حول هذه الركائز الأربع، يغدو الحديث عن المشروع الوطني الفلسطيني شططًا من أحاديث الأولين، أو، بعبارات متشائل أميل حبيبي، “حديث شطط في الطريق إلى سجن شطة”. جدير ذكره في هذا الصدد، بأن مثل هذا الإجماع الوطني كان قائمًا إلى حد بعيد حتى إجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في شهر نوفمبر لعام ١٩٨٨، ذلك الاجتماع الذي تم التوافق فيه على إعلان قيام الدولة الفلسطينية على أساس قرار تقسيم فلسطين في شهر نوفمبر لعام ١٩٤٧. أمًا بعد ذلك، ومع مرور الزمن وتغيرالأحوال، فقد أخذت ركائز هذا الإجماع تتزعزع وتنهار الواحدة تلو الأخرى، إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن من حالة التشظي والتردي. وبسبب هذا التشظي وهذا التردي أخذت تتعالى وتتناسل الأصوات المنادية في الآونة الأخيرة بضرورة إعادة بناء كل من الإجماع الوطني والمشروع الوطني الفلسطيني.

الأهداف النهائية للنضال الوطني الفلسطيني :

ليس خافيًا على أحد أنه لا يوجد إجماع وطني حاليًا حول الأهداف النهائية للنضال الوطني الفلسطيني. فهناك من الفلسطينيين، أفرادًا وجماعات وأحزابًا، من ينادي جهرًا بحل الدولة الديمقراطية الواحدة (أحادية أو فدرالية أو ثنائية القومية) للفلسطينيين جميعًا (يشمل اللاجئين في بلدان الشتات) ويهود إسرائيل؛ وهناك من ينادي، في المقابل، بحل الدولتين من هذا النوع أو ذاك؛ وهناك من يقبل، ثالثًا، بحل الدولتين مرحليًا، وذلك دون التنازل عن حل الدولة الواحدة المراد كهدف نهائي للمدى البعيد (حركة حماس، مثلًا)؛ وهناك الحائرون بين هذا الهدف النهائي أو ذاك. علمًا بأن غياب الإجماع الوطني حول ذلك مرده ليس المرغوبية بقدر ما هي القابلية للتطبيق. بكلمات أخرى، أنت قد ترغب في حل الدولة الديمقراطية الواحدة، مثلًا، ولكنك مقتنع في ذات الوقت بعدم قابلية مثل هذا الحل النهائي للتطبيق في المستقبل المنظور، فتعض على الشفتين وترضى بحل الدولتين من هذا النوع أو ذاك.

على ضوء ما ورد أعلاه أقول: الحاجة الآن ملحة لتجديد الإجماع الوطني حول مواصفات حل نهائي للصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي يتوفر فيه شرطا المرغوبية والقابلية للتحقيق أو التطبيق. وهذا بدوره لا يتأتى بدون الحوار المتروي والعقلاني والشامل. وفي إعتقادي الشخصي، فإن مبادرة الكونفدرالية أو مبادرة “دولتان، وطن واحد”، والتي تقوم كل منهما على أساس الحقوق الوطنية المتساوية للطرفين المتصارعين، خير مرشح حاليًا لذلك الحل النهائي الذي يجمع بين الممكن والمرغوب. وقد تبرز مستقبلًا مبادرات أخرى لحل نهائي أكثر جذبًا أو أقل نفورًا.

وسائل وأفعال النضال الوطني :

كما أن هناك حاجة لا تقل إلحاحًا إلى إجماع وطني فلسطيني حول وسائل وأفعال النضال، المشروعة والفعالة، لتحقيق الهدف النهائي المراد. وكما نعرف جيدًا، هناك خلاف فلسطينيي ساخن قديم/جديد حول ذلك. فمن ينادي بكل وسائل النضال المتاحة وعلى رأسها، أو من ضمنها، الكفاح المسلح، غير من ينادي بالمقاومة الشعبية السلمية ليس أكثر. وما يقوله “الميثاق الوطني الفلسطيني” لعام ١٩٦٨غيرما يقوله ويردده كل من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس في السنوات الأخيرة. وفي جميع الأحوال، لم تؤخذ للأسف خصوصيات الفلسطينيين الذين هم أيضًا مواطنون في الدول الأخرى، غير العربية أساسًا، بعين الاعتبار بصورة جدية في هذا الشأن الجلل. وفي إعتقادي، ما يجب قوله في هذه الركيزة الأساسية هو التالي أو ما يقارب ذلك: وسائل وأفعال النضال الوطني يجب أن تستوفي شرطي الفاعلية أولآ والتوافق مع أحكام القانون الدولي والمبادئ الأخلاقية العليا ثانيًا، وذلك دون تعريض الفلسطينيين الذين هم أيضًا مواطنون في دول غير عربية أساسًا للملاحقة القانونية.

شرعية الممثل الوطني :

وهناك، كما يعرف القاصي قبل الداني، تساؤلات جدية، تتكاثر وتحتد في السنوات الأخيرة، حول شرعية الممثل الوطني الفلسطيني، خاصة على خلفية الانقسام بين السلطة الحاكمة في الضفة الغربية وتلك الحاكمة في قطاع غزة. هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، فقد فقدت كل من منظمة التحرير ورئيسها والسلطة الوطنية ورئيسها أي غطاء للشرعية الوطنية بسبب التقادم، كما بسبب تجميد أو تعطيل العملية الديمقراطية والتي يتم من خلالها فقط تجديد شرعية الممثل وتحديد فترة التمثيل. أضف إلى ذلك، فإن حركة حماس تحكم قطاع غزة منذ ربيع العام ٢٠٠٧ دون أي غطاء من الشرعية الديمقراطية. هذا كله ناهيك عن استثناء فلسطينيي ٤٨ عن التمثيل في الأطر الفلسطينية القيادية الجامعة. باختصار، نحن في زمن فلسطيني رديء تداعت فيه الشرعيات الوطنية الفلسطينية كلها. وإذا كان الأمر كذلك، تكتسب عملية إعادة بناء م.ث.ف.، البيت الوطني الفلسطيني الواسع والجامع، أهمية قصوى. بكلمات أخرى، بدون إعادة بناء منظمة التحريرعلى أسس ديمقراطية وجامعة يظل الإجماع الوطني مبتورًا أو غائبًا، تمامًا كما يظل المشروع الوطني معلقًا. وفي عملية إعادة بناء أو ترميم الشرعيات المذكورة يتوجب، في رأيي، الالتزام بنص المادة الخامسة من “الميثاق الوطني الفلسطيني” لعام ١٩٦٨، والتي تعنى بتعريف من هو الفلسطيني لغرض هذا التمثيل. والالتزام بنص المادة المذكورة يتطلب بدوره تمثيل فلسطينيي ٤٨، مثلًا، في الأطر التمثيلية الجامعة وعلى رأسها المجلس الوطني الفلسطيني. فلماذا يتم، إذن، استبعادهم عن هذا التمثيل؟

خصوصيات الوضع الفلسطيني :

أفترض أن استثناء فلسطينيي ٤٨، وغيرهم من الفلسطينيين الذين هم مواطنون في دول أخرى، لم يكن بقصد الإقصاء بقدر ما كان بسبب خصوصيات أوضاعهم السياسية والقانونية. أي أن استثناءهم من التمثيل كان أساسًا لغرض حمايتهم من الملاحقة القضائية من قبل الدولة أو الدول التي هم مواطنون فيها. فكيف أكون عضوًا في المجلس الوطني الفلسطيني، مثلًا، إذا كنت مواطنًا في دولة إسرائيل المعادية، وإذا كان المجلس ملتزمًا بنصوص الميثاق الوطني لعام ١٩٦٨ والذي تقول مادته الخامسة بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين؟! عضويتي في المجلس الوطني في مثل هذه الحالة تجلب لي لا أقل من تهمة الخيانه للدولة التي أنا مواطن فيها، وإن كانت هذه المواطنة مبتورة أو معطوبة أصلًا. أمًا السؤال/الهاجس الذي يؤرق المضجع في هذا الشأن الهام فهو التالي: ما هي الشروط اللازم استيفاؤها حتى يتسنى لفلسطينيي ٤٨ وأمثالهم المشاركة في عضوية المجلس الوطني وما يتفرع عنه من هيئات قيادية عليا، وذلك دون تعرضهم للملاحقة القضائية في البلدان التي هم مواطنون فيها (إسرائيل وغيرها من الدول)؟ وفي إعتقادي، فإن استيفاء هذه الشروط يتطلب، من بين أمور أخرى، تعديل بنود الميثاق الوطني المذكور، خاصة تلك البنود ذات العلاقة بوسائل وأفعال النضال وأهدافه النهائية، وبالاتجاه الذي أشرت إليه سابقًا.

وختامًا، على خلفية فقدان أو تداعي الشرعيات الوطنية الفلسطينية – منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها، السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها، والسلطة الحاكمة في قطاع غزة ورئيسها -، فقد آن الأوان، الأمس قبل اليوم، للمباشرة بعملية الترميم، عملية إعادة بناء الشرعيات الوطنية على أسس ديمقراطية قويمة، بالانتخابات حيث أمكن ذلك، وبالتوافق بين الممثلين المنتخبين ديمقراطيًا حيث تعذر ذلك. علمًا بأن إعادة بناء الشرعيات المذكورة تتطلب بدورها توافقًا وطنيًا مسبقًا حول بقية ركائز المشروع الوطني. وأخيرًا، من الواضح أن ركائز المشروع الوطني الأربع متداخلة ومتشابكة. ولهذا السبب بالذات، نحتاج إلى قدرغير قليل من الحكمة العملية لتحديد نقطة الانطلاق. وفي قناعتي الراسخة، فإن إعادة بناء الشرعيات المذكورة ديمقراطيًا هي نقطة الانطلاق نحو إعادة بناء المشروع الوطني، ذلك المشروع الذي تداعت ركائزه عبرالزمن وبفعل رداءة الأحوال.

* أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقًا .

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى