بول سالم: خطط جديدة عن شرق أوسط جديد كيف تواصل الولايات المتحدة وقوى أخرى محاولة إعادة تشكيل المنطقة
بول سالم 3-11-2024: خطط جديدة عن شرق أوسط جديد كيف تواصل الولايات المتحدة وقوى أخرى محاولة إعادة تشكيل المنطقة
قبل ثمانية عشر عاما، وسط حرب بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان، رفضت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس الدعوات لوقف إطلاق النار، ووصفت العنف بأنه جزء من “آلام ولادة شرق أوسط جديد”. وها هي ذي الولايات المتحدة تجد نفسها اليوم، من جديد، منساقة وراء السياسة التوسعية لرئيس الوزراء الإسرائيلي لإعادة تصور للشرق الأوسط.
تسلط المحاولات المستمرة للقوى الخارجية لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الضوء على حقيقة أساسية وهي أن المنطقة لم تطور لنفسها إطارا سياسيا أو أمنيا شاملا يوحد القوى الرئيسة (الدول العربية، تركيا، إسرائيل، وإيران). والحال أنه ما لم يتوفر هيكل إقليمي مستقر، وإذا بقيت الأنظمة السياسية متباينة، تخوض صراعات بينية متعددة، فسيظل الشرق الأوسط عرضة للتدخلات الخارجية والخطط الطموحة.
لقد بدأت موجة التحول السابقة بهجوم إسلامي متطرف في 11 سبتمبر/أيلول 2001، ما دفع إدارة الرئيس جورج دبليو بوش لشن حملة عسكرية شاملة في جميع أنحاء المنطقة. ولم يكن الهدف وقتها محصورا في إسقاط نظامي طالبان وصدام حسين، بل كان أيضا العمل على إجراء تحول كبير في إيران وسوريا لتحويلهما، وبالتالي خلق شرق أوسط متحالف مع الولايات المتحدة، وربما ديمقراطي.
وفي هذه المرة، اندلع الصراع الحالي نتيجة لهجوم إسلامي متطرف– هذه المرة من قبل “حماس” على إسرائيل، ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى تطوير استراتيجية واسعة وعدوانية لاستخدام القوة العسكرية ليس فقط لهزيمة “حماس” وإعادة فرض السيطرة على غزة، ولكن أيضا لإعادة تشكيل الشرق الأوسط من خلال مواجهة وكلاء إيران أولا، ثم إيران نفسها. في هذا الصراع، بدأت الإدارة الأميركية بمحاولة احتواء الصراع وإبرام اتفاقات متعددة لوقف إطلاق النار، ولكن بعد أشهر من الفشل، وجدت الولايات المتحدة نفسها تتماشى مع استراتيجية إسرائيل التحويلية الأكثر طموحا وخطورة.
للولايات المتحدة تاريخ طويل في محاولة التأثير على الشرق الأوسط أو إعادة تشكيله. وقد أثمرت محاولاتها عن نتائج كان بعضها إيجابيا وبعضها سلبيا، ونجح بعضها بينما فشل البعض الآخر. قبل أكثر من قرن، تميزت الولايات المتحدة عن القوى الأوروبية من خلال إطار النقاط الأربع عشرة للرئيس وودرو ويلسون، التي دعت إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها، في تناقض واضح مع الطموحات الاستعمارية الأوروبية التي كانت تسعى للسيطرة على الأراضي العربية بعد تفكك الدولة العثمانية. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، لعبت الولايات المتحدة أيضا دورا رئيسا في إنهاء الحكم الاستعماري البريطاني والفرنسي في المنطقة، وتوّج ذلك بإصرار الرئيس أيزنهاور على انسحاب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل من قناة السويس وسيناء بعد هجومهم عام 1956.
الفشل الذريع لإدارة بوش في محاولة إعادة تشكيل الشرق الأوسط– في أفغانستان والعراق وسوريا وإيران– جعل الإدارات اللاحقة جميعها، من أوباما إلى ترمب وبايدن، تتخلى عن الطموحات الإقليمية الكبرى
بيد أن هذا الموقف المناهض للاستعمار والمؤيد للاستقلال تراجع أمام ديناميكيات الحرب الباردة، حيث أعادت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تشكيل الشرق الأوسط على أساس تكتلات متنافسة. وأسقطت الولايات المتحدة بنشاط حكومات اعتبرتها معادية ونصبت حكاما موالين لها، وكان من أبرز الأمثلة دعمها للإطاحة برئيس الوزراء محمد مصدق في إيران عام 1953، وهو حدث لا يزال يردد صداه في العلاقات الأميركية-الإيرانية، كما دعمت انقلابات في سوريا ودول عربية أخرى. وانتهج الاتحاد السوفياتي نهجا مقاربا في الدول المتحالفة معه، ما أدى إلى خلق نمط من التدخلات الخارجية عزز في الحالتين الأنظمة الاستبدادية وأجهزة الشرطة ودور المخابرات في الشرق الأوسط.
وفي أواخر السبعينات، غيرت الولايات المتحدة استراتيجيتها ضد النفوذ السوفياتي، حيث دعمت الجماعات الإسلامية المتشددة في أفغانستان لمواجهة الغزو السوفياتي عام 1979. وبعد انهيار شاه إيران، المتحالف تاريخيا مع الولايات المتحدة، عام 1979، فضلت البديل الإسلامي الذي يمثله آية الله الخميني على تحالف الأحزاب الثورية الإيرانية اليسارية والشيوعية، خشية أن تتحالف إيران بعد الشاه بشكل وثيق مع موسكو.
لقد شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينات فرصة فريدة للولايات المتحدة لتوجيه مستقبل الشرق الأوسط. من ذلك أنها قادت تحالفا لإعادة الاستقرار إلى الخليج بعد غزو العراق للكويت، وسعت إدارة جورج بوش الأب إلى توسيع هذا النجاح من خلال عملية مدريد للسلام، بهدف تحقيق اختراق في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني والنزاعات الإسرائيلية-العربية الأوسع. على أن تلك المبادرة لم تلقَ حظها من النجاح في تحقيق السلام المنشود، على الرغم من جهود وزير الخارجية جيمس بيكر.
تاريخيا، كان الدعم الأميركي لإسرائيل يصطدم مع محاولاتها الحفاظ على النفوذ في الدول العربية، وقد سعت واشنطن للتوفيق بين هذه الأهداف من خلال إطلاق “عملية السلام” بعد حرب عام 1967. ولكن ما يقرب من ستة عقود قد انقضت، ولا يزال حل هذا الصراع المركزي هدفا بعيد المنال.
أما المحاولة الأخيرة التي قامت بها الولايات المتحدة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، فكانت– كما ذكرنا في مطلع هذا المقال– عندما ردت إدارة جورج دبليو بوش على هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول واستخدمت ذلك كفرصة لترجمة التفوق العسكري الأميركي الساحق المفترض في الشرق الأوسط، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لإعادة ترتيب المنطقة لصالحها. وكانت واشنطن تسعى إلى إعادة سيناريو الحرب العالمية الثانية، عندما أدت الانتصارات العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة على ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية إلى قيام دولتين مواليتين للغرب ورأسماليتين وديمقراطيتين بعد الحرب، هما ألمانيا الغربية واليابان.
إن الفشل الذريع لإدارة بوش في محاولة إعادة تشكيل الشرق الأوسط– في أفغانستان والعراق وسوريا وإيران– جعل الإدارات اللاحقة جميعها، من أوباما إلى ترمب وبايدن، تتخلى عن الطموحات الإقليمية الكبرى، وتركز بدلا من ذلك على إنهاء الصراعات الطويلة، مع الحفاظ على الوجود الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري في المنطقة.
واليوم، يعكس كل من المرشحين للرئاسة، ترمب وهاريس، هذا الاتجاه، حيث يؤكد ترمب أن هجوم “حماس” على إسرائيل لم يكن ليحدث لو كان هو الرئيس، بينما تركز هاريس على جهود وقف إطلاق النار لإنهاء الأعمال العدائية الحالية. ويحافظ كلاهما على إعلان دعمه القوي لإسرائيل، وهو ما سمح لإسرائيل بالسيطرة بفعالية على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، في العام الماضي وخلال الأشهر المقبلة.
وخلافا لاستراتيجية الإدارات الأميركية الأخيرة، تعمل حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بفعالية وفق استراتيجية إقليمية تحويلية، تتمحور رؤيتها حول مواجهة إيران ووكلائها وهزيمتهم، وإنهاء كل أمل في السيادة الفلسطينية على الأراضي الفلسطينية، بهدف تشكيل شرق أوسط جديد بشكل جذري.
لم يكن الحال كذلك قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، فقبل ذاك، كانت حكومة نتنياهو تعتقد أن لديها تفاهمات مستدامة مع كل من “حماس” و”حزب الله”، وأن هاتين القوتين ستبقيان معاديتين لإسرائيل، ولكنهما لن تشكلا تهديدا كبيرا. وكان كل من اليمين الإسرائيلي والحركات الإسلامية يعارض حل الدولتين، بما يتماشى بسلاسة مع مصالحهما الخاصة. وصحيح أن إسرائيل كانت قلقة بشدة من تقدم إيران نحو امتلاك سلاح نووي، ولكن لم يدر في خلدها أن ذلك الأمر سيرتبط بأزمة ملحة على حدود إسرائيل، ولم يكن لديها الشعور بالإلحاح الذي أصبح لديها الآن.
منذ ذلك الحين، تغيرت استراتيجية إسرائيل بشكل جذري. وبعد سلسلة من العمليات المدمرة ضد “حماس” و”حزب الله”، نفذت إسرائيل غارة جوية ملحوظة داخل إيران، هي الأولى منذ حرب إيران والعراق. ولا يزال مدى هذا التصعيد غير مؤكد، لكن يبدو أن للولايات المتحدة دورا في التأثير على قرار إسرائيل بشأن إيران، نظرا لاعتماد إسرائيل على الدعم العسكري الأميركي في أي عمل كبير.
وأيا يكن الفائز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 نوفمبر/تشرين الثاني، سيتولى الرئيس الجديد منصبه في يناير/كانون الثاني 2025 ليواجه الشرق الأوسط وقد أعيد تشكيله إلى حد كبير بواسطة رئيس الوزراء نتنياهو والمرشد الأعلى علي خامنئي. هناك ثلاثة سيناريوهات عامة يمكن أن تواجه الرئيس القادم.
الأكثر ترجيحا بين هذه الاحتمالات أن تكون إسرائيل وإيران قد تبادلتا الضربات دون أن تصعدا إلى مواجهة واسعة، مما يرسخ نوعا من الردع المتبادل بينهما. في هذه الحالة، ستركز الإدارة الأميركية الجديدة على مفاوضات ما بعد الصراع بشأن غزة ولبنان، وعلى إيجاد توازن بين العقوبات والدبلوماسية لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات.
وفي سيناريو ثانٍ، ربما تكون إسرائيل قد شنت ضربات متعددة ضد إيران، مما دفع إيران إلى اللجوء للدبلوماسية العاجلة كوسيلة لتهدئة هجمات نتنياهو، حيث تقدم تنازلات للولايات المتحدة بشأن الملفات النووية وقضايا أخرى. في هذه الحالة، من المرجح أن يستغل الرئيس الأميركي الجديد هذه الفتحات الدبلوماسية لمعالجة الطموحات النووية لإيران وتشجيعها على التخلي عن استراتيجيتها الدفاعية المتقدمة المتمثلة في تسليح الميليشيات الحليفة في المنطقة.
أما السيناريو الثالث، فيمكن أن يشهد رد فعل إيران على الهجمات الإسرائيلية، ليس فقط بالانتقام من إسرائيل، ولكن أيضا بعرقلة طرق نقل الطاقة في الخليج ومضيق هرمز. قد يكون هذا تصرفا محسوبا من جانب إيران لإثارة أزمة طاقة عالمية، ما سيجبر أي رئيس أميركي على التركيز الفوري على الوضع وفرض ضغوط كبيرة على إسرائيل لتهدئة التوترات.
وفي حال فوز ترمب، فمن المرجح أن يدخل منصبه بتوجه إيجابي نحو حكومة نتنياهو اليمينية، وينتهج علاقة أميركية-إسرائيلية أكثر متانة، معتمدا على زهوه بقدرته على الخروج من السياسات الأميركية التقليدية وصنع “صفقات تحوّلية” كما يسميها. وفي مواجهة أي من هذه السيناريوهات الثلاثة، قد يعمد ترمب وفريقه إلى توطيد العلاقة مع نتنياهو أو إدارة إسرائيلية لاحقة. ولكن لا ننسينّ أن ترمب معروف برفضه الانخراط الأميركي المطول في الصراعات. ولذلك، مهما كانت الحروب التي يخبئها نتنياهو في جعبته في الأسابيع المقبلة، فإن ترمب سيرغب على الأرجح في الوصول إلى مرحلة “عقد الصفقات” ما إن يدخل البيت الأبيض. كما أن ترمب، الذي يعتبر نفسه الشخصية المهيمنة، سيرفض على الأرجح محاولات نتنياهو للضغط عليه أو تقويض مكانته كما فعل مع بايدن وهاريس؛ وسيتعين على نتنياهو أن يضع ذلك في الاعتبار عند التعامل مع رئاسة ترمب الجديدة.
أما إذا كان الفوز من نصيب هاريس، فمن المرجح أن تواصل إدارتها النهج الأميركي الذي تتبناه إدارة بايدن الآن، والتي كانت إلى حد كبير واقعة تحت نفوذ نتنياهو على مدار العام الماضي، واقتصرت على التعبير عن الاعتراض على بعض الإجراءات الإسرائيلية ومحاولة احتواء تبعاتها دون تأثير استراتيجي حقيقي أو فعّال. وستسعد هاريس على الأرجح بالاحتمالين الأول والثاني، ولكنها ستواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الاحتمال الثالث الذي سيتسبب بأزمة إقليمية وعالمية بسبب امتداد الصراع ليشمل تدفق الطاقة في الخليج.
ولسوف يسعى أي فائز من المتسابقين إلى اتفاق ثلاثي بين الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل، لكن ذلك يتطلب حكومة إسرائيلية مستعدة لمناقشة حل الدولتين. وفي جميع الحالات، سيُحدد مشهد السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، الذي سيرثه الرئيس الأميركي القادم في يناير/كانون الثاني 2025، بشكل أكبر من خلال القرارات التي تُتخذ في إسرائيل وإيران أكثر من تلك التي تُتخذ في واشنطن.