أقلام وأراء

بكر أبوبكر يكتب – لم يعد الاستغناء ممكنا؟

بقلم بكر أبوبكر

كنا نخرج صباحًا نفتش على صحيفة اليوم ونتعارك على من يقرأ أولاً، وكنّا نذهب الى المكتبات لنستعير كتابًا، لنناقشه مع جمع من الأصدقاء، أو نذهب لمحل بيع الكتب فنشترى رواية، أو كتابًا تثقيفيا هامًا!

 وكنا نذهب لحضور الندوات الشعرية واللقاءات الفكرية بشغف، ولا نملّ حضور الاجتماعات السياسية الي الدرجة التي نتمنى أن تطول، حيث كنا نضع من أفكارنا وعقولنا، ومن مشاعرنا الكثير ما بين الإصغاء الدقيق والكلمات والنظرات والتعبيرات وصاخب الكلمات! 

وكنا نحضر المعارض الفنية من لوحات وتراكيب ومنحوتات، ومعارض الألبسة والأسواق الخيرية، ونتذوق الأطعمة وصوت الأغاني الشجيّة مع لقاء الأصدقاء يطربنا. 

كنا ندرس بجد، وكنا نعمل بدأب مع المذياع ومع الكتاب ومع الصديق ومع القلم والورقة التي نسيناها هذه الأيام! فهأنذا أكتب لكم مباشرة عبر لوحة المفاتيح على الحاسوب!

لم يكن الاستغناء ممكنًا عن الكتاب الورقي والصحيفة الورقية والمجلة الاسبوعية والدوريات لمراكز الأبحاث! كما لم يكن لنا أن نتخلى عن اللقاءات التثقيفية، وعن جذب واستقطاب الآخرين بالنقاش والحوار والاقناع مواجهة! ولم نتخلى عن الاجتماعات التنظيمية الاتصالية، وكان بيننا خالص الأمنيات التي نتبادلها ما بين لقاء ومعرض ومسرحية أو شريط سينمائي أو فعالية نضالية أو مظاهرة أو مقاومة جماهيرية ميدانية!

ضعوا جائحة الفيروس التاجي (كورونا) جانبا، فأنا أتكلم عن عدم القدرة عن الاستغناء عن الشابكة (انترنت)، وبالأساس عن وسائل التواصل الاجتماعي التي كلّبت بأظفارها في أعناقنا!

لم يعد الاستغناء عن الشابكة وعن وسائل التواصل الاجتماعي سهلاً! رغم معرفتنا جميعا بالفوائد الكثيرة التي لا تعني اختزال الحياة فيها، ومعرفتنا بالمخاطر والثانية التي تزداد كلما أغرق المرء بالالتصاق بهذه الوسائل الى درجة الإدمان والانقلاب الذهني والنفسي والفكري، فغسيل الأدمغة وصنع الاتجاهات الجديدة بل والى درجة تشكيل العقل من جديد لدي الكثيرين.

ماذا يحصل مع كثير منّا في الرحلة الطويلة على منصّات ما يسمى “وسائل التواصل الاجتماعي” (social media)، وهي الخاضعة حُكما لمشغليها من الرأسماليين الذين تحكمهم أيديولوجيتهم القيمية والفكرية من جهة، ونَفَسهم الاستهلاكي الذي يجلب لهم الأموال، والتحكم والسيطرة الكاملة.

في تفكر طويل حول مجالات التأثير السلبي-والإيجابي كثير بالطبع- لمستنزفي أوقاتهم في استعمال ما تسمى “وسائل التواصل الاجتماعي” لاحظنا عند هؤلاء التالي:

 1-قبول السقط من الأحاديث وسخافات الكلام، والتفاهات إما مجاملة للشخص أوتساوقًا معه، أولخلو الدماغ أصلاً، ومن أين يمتليء هذا الدماغ وهو يفتقد المرجعية الفكرية أوالمنهج الذي يحدد الصالح من الطالح وينخّل ويفرز ويقرر، والى ذلك افتقاد العمق أوالمرجعية الثقافية مثلاً.

2فقدان عقلية المطالعة والقراءة الرأسية العميقة، واستبدالها بالقراءة الأفقية السطحية ما كنا نسميه قديما (قراءة جرائد) أي القفز بين العناوين دون تركيز، ما يمثله على (فيسبوك) ما يسمى المنشور post الذي يكتبه من هبّ ودب.

3فقدان ثقافة المرجعية والمصدرالموثوق (الرجوع لشخص موثوق أو مؤسسة وازنة أو كتاب أومرجع موسوعي، أومفكر ذو صلابة أو أستاذ معروف…الخ)، أوانعدام مهمة التحقق والتيقن الذاتي من المنشورات الكثيرة غير معروفة المصدر أو المذيّلة منقول مثلًا.

4- التعلق بزر الاعجاب (like) باعتباره رقمًا يدلل على التفوق أو الشهرة أوالصحة (صحة الكلام) أو النفوذ! وذلك بديل الموضوعية، أو الكلام المستقيم والموثوق والمفيد.

-5  افتقاد الاهتمام بمكونات الحضارة وبالثقافة عامة، من فنون وشعر وأدب وقصص وروايات ودراسات وأبحاث وأفكار وكتب فكرية، وكتب إدارة وعلوم تجريبية أواجتماعية… واللجوء الى  تناقل السهل فقط، والقصير والمثير، وتناقل ما نُهي عنه: خاصة ما نسميه العلم الذي لا ينفع.

إضاعة الوقت بالتنقل بين الحسابات المختلفة، والمنشورات بعبثية وبلا هدف.

7الاسترخاء اللذيذ بين الصور واللقطات المرئية (فيديو)، بدلًا من الصناعة والجهد الإبداعي أوالعضلي.

8إهمال ثقافتنا المتميزة بل والتهكم عليها!أو التساهل مع التهكم عليها من مشغلي الوسائل المؤدلجين! وإهمال لغتنا العربية وكثير من قيمنا الدينية وليظهر تكسير اللغة العربية والإهمال الفاقع على تطوير الذات والتعلم، وتدمير الثقافة الحضارية الملتزمة في أمتنا، مقابل الحشو والتفاهات والسفاسف.

10الانشغال عن الفعل باللافعل والظن أنه فعل! بإيراد أخبار أو منشورات أوتغريدات بلا قيمة لا خلقية ولاعقلية ولاجمالية.

10 فقدان حاسة النضال المنظم (عبرالانخراط في التنظيم السياسي أو المجتمعي…) ضد الظلم وضد الاحتلال وضد الاستهلاكية المرضية وضد الاستبداد وضد الأنظمة الامبريالية المسيطرة ، والى ذلك مساواة النضال الالكتروني بالميداني!

11التعلق بالمنشورات على فيسبوك وغيره عند حدود أيقونات الاعجاب والتعليق والمشاركة وكأنها دليل الشخصية الافتراضية، وعامل قوتها!

12العيش في قبو/سرداب فضائي، أو في داخل فقاعة ذهنية افتراضية تشعر الشخص بالأهمية! وهي بالحقيقة مجرد وهم لا يفيد ولا نستفيد منه ، مقابل حقيقة الابداع الانساني على الأرض وفي العقول ومع الناس والصناعة والزراعة والعلم والاتصالات المباشرة والانسانية. 

16- سوء الفهم وحصول التشاكل بين الأصدقاء نتيجة عدم الفهم لردود الأفعال عبر الشابكة أو عبر وسائل الاتصال الكتابي بل ومنه حتى الصوتي أو المرئي.

17-تبلد المشاعر عند البعض، أو فقدان الأحاسيس الحقيقية التي لا يمكن الإحساس بها أو التعبير عنها بالحقيقية الا باللقاء.

18فقدان الإحساس بالزمن والوقت حال الإدمان على الوسيلة الفضائية خاصة متى ما ارتبطت بالالعاب الكثيرة المدمرة للوقت والعقل والانتباه للأهم، والملهيات الدعائية والأعلانية والتطبيقات غير المفيدة.

19التخلي عن الحذر والانكشاف الكلي أمام الأخرين من الجهات المعادية الكثيرة خاصة التي تترصدنا نحن العرب والفلسطينيين المناضلين، وأيضًا الانكشاف أمام  شركات الدعاية وأمام البث الايديولوجي السافر عبر بطاقة الشخصية  profile والمعلومات الشخصية الكثيرة الاخرى بالمنشورات والمعلومات المتعلقة بالمؤسسة أو المنظمة الخ. 

20-لاحظوا أننا كنا في الأعياد نتزاور عبر الدخول والخروج من والى البيوت، وأصبحنا نتبادل الاتصالات الهاتفية، ثم استعضنا عن الكلام الهاتفي بالرسائل القصيرة من الهاتف النقال، واليوم أصبحت الجُمَع المباركة واليوم السعيد وكل عام وانتم بخير في الأعياد عبر التطبيقات الجديدة بديلا للقاء!؟ فهل نستغني عن بعضنا البعض ونختلق لنا شخوصا أو فقاعات فضائية تتبادل القُبَل والأحضان والتهاني! والى ذلك تقوم بهزيمة العدو الصهيوني أيضا! 

نعم، لم يعد الاستغناء ممكنًا، وقلنا بلا شك أن الشابكة لها من الفوائد الكثير ولا بأس من استخدام ما تسمى “وسائل التواصل الاجتماعي”، فهي وسيلة ممتازة بحذر لأنها كالسيف ذي الحدين، حيث قربت البعيد وجعلت العالم بين يدي من يُحسن استغلال هذا العالم، ولكنها ليست هي العالم. 

 وعليه يجب أن نطوّر مقدرتنا على تحقيق توازن حياتنا بالوقت والمكان والأشخاص والأفكار، وبالاهتمام بشؤوننا الشخصية والعائلية والوطنية والحضارية والثقافية المعاشة ماديًا وليس فقط الكترونيا، وعبر منهج حياة منظّم ومتناغم يبدأ بالدعاء شكرا لله، وبالعمل والتفكر والعلم وديمومة الصالحات، أو الأعمال المنجزة والابداعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى