أقلام وأراء

بكر أبوبكر يكتب – الدبش يعتمر الحقيقة

بكر ابو  بكر ٢٦-٦-٢٠٢١م

الكاتب والمؤرخ والصديق الأستاذ أحمد الدبش يعتذر صراحة عن سلسلة من دراساته وكتبه التاريخية السالفة، حين اكتشف بعد عميق تفكر وتأمل ودراسة متجددة عدم الدقة في بعض الملامح وغموض الإشارات وضعف الأسانيد، وبالأخص عدم التطابق بين أحداث تاريخية سلفت وعلم الآثار.

الاخ أحمد الدبش الذي التزم الأمانة العلمية دربًا له، -تتفق مع أطروحاته أم تختلف- وقف مع الحق والحقيقة فقط منتصبًا، وليعلن على الملأ وبنفسه سقوط أطروحته القديمة، وبالحقيقة أطروحة آخرين ممن لم يذكرهم أيضًا، وألقى كل الملامة على أبحاثه هو فقط بشموخ العالم الذي لا ينحني الا للحقيقة فيعتمرها.

كل التحية والمحبة وشديد الاحترام لهكذا عالم ذكرني -وعلى العكس من موقفه هذا- بمن ذهبنا له (أستاذ تاريخ جامعي) لنشعره بوجود تاريخ لفلسطين يقرأ بطريقة مختلفة مفترضين أننا سندخل في حلقة نقاش، فإذ به يصدمنا بالقول: هل تريدونني أن ألغي كل ما درّسته لطلابي من 40 عامًا؟ إنه العناد والتحجر الذي لا يقبل بضوء نور جديد، وليس كما فعل عكسه الدبش.

في تاريخ فلسطين القديم في العصرين البرونزي والحديدي من 10 آلاف عام الكثير من الأحبار الجديدة والقديمة التي سالت، لكن البارز كان أن ما تسمى التوراة (التناخ) لم تصلح مطلقًا كدليل تاريخي اليوم، الا عند الذين سيّسوا التوراة لأهداف استعمارية حالية وفي الحد الأدنى منذ القرن الثامن عشر، وغزو فلسطين العربية.

الكهنة كتاب التوراة القدماء اختلقوا عديد الأحداث التي تُعدّ بالمئات، أو نسخوها من أمم أخرى ليسقطوها على قبيلتهم المقدسة (بني إسرائيل) أو بنوا على أحداث قائمة لا تشكل ربما 10% من المضمون أو الحدث، وكأن الدنيا آنذاك تشكلت حول هذه القبيلة المندثرة اليوم، مع العلم أن فلسطين كان بها 40 إقليما جغرافيا ب40 مشيخة (إمارة/مملكة) قديمة، أي عشرات القبائل وليس فقط قبيلتهم الغابرة (يراجع الماضي العصيّ لتوماس تومسون، ومصالحة وابوعامر وسخنيني).

الكهنة من كتاب التوراة نسجوا من خيالاتهم وأساطير الاقدمين والأمم والمالك المجاورة، ومن الأشعار والمرويات كتابًا كما تخيلوه هم، أو كما أملوا أن يكون مما يعجّ بالمقبول والمرفوض قيميا، وبالكثير مما لم يثبت علميا خاصة بسياق الممالك (المشيخات) التي كانت قائمة في فلسطين وخرافات الهيكل المزعوم وغيره.

تجد في التناخ (التوراة بأقسامها الثلاثة) مساحات كبيرة من الخرافة والأسطورة والآمال والاحلام والرغبات السياسية ليس كما أقول أنا فقط وإنما كما قال المؤرخ الإسرائيلي إسرائيل فنكلستاين ونيل أشر سبيلبرغ، وزئيف هرتزوغ كمثال، وكما قال أيضا العالم الدنماركي توماس تومسون وغيرهم الكثير.

لم تعد التناخ اليوم تشكل مصدراً تاريخيا محترمًا، فهي لا تتحصل على أدنى درجات الأمانة العلمية، والمدرسة التوراتية تتهاوى أمام صمود المدرسة الدنماركية التي تعيد بناء تاريخ فلسطين الحقيقي، ومدارس أخرى. كما تهاوت أمام المدرسة اليمنية (أن مسرح أحداث التوراة في اليمن القديم)، التي يعلن اليوم أحمد الدبش انسحابه منها لسبب عدم مطابقة الأحداث من زاوية الأداة العلمية (أي علم الآثار) لما ورد من خرافات بالتوراة لا في فلسطين ولا في اليمن، ولا في البرازيل.

يخوض المسلمون كما يخوض المسيحيون وأحرار العالم، ويخوض العرب عامة كما يخوض العرب الفلسطينيون حربًا ضروسًا ضد الرواية التناخية (التوراة بأقسامهاالثلاثة)الأسطورية التي يحاول سياسيو ومتدينو وعنصريو الكيان الصهيوني إظهارها كحقيقة تاريخية! ويفشلون منذ 100 عام حتى اليوم.

معظم العلماء اليوم يعتبرون التناخ (التوراة) كتاب ديني، وليس كتابًا تاريخيًا، وهو أقرب لوصفة ككتاب أدبي قصصي شعري وليس تاريخي.

عمدت المدرسة التاريخية التوراتية على استخدام الكتاب الديني/الادبي بإشعال الادعاءات المكانية الجغرافية في فلسطين ، وكأنها (وقف ديني) لهم!وهي الادعاءات التي تلبس اليوم ثوبًا استعماريا احتلاليًا زاهيا تحت اسم “اسرائيل” وبمحاولة عكس الاسم الحالي كأنه امتداد لإسرائيل القديمة المندثرة، وشتان قبليا وعرقيا وإثنيا بين محتلي فلسطين اليوم وأولئك القدماء من القبيلة المندثرة.

الرواية التاريخية المحقة لتاريخ فلسطين سواء من أصحاب المدرسة الجغرافية (اليمن أم فلسطين، أم غيرها) أو المدرسة اللاتوراتية الدنماركية تتقاطع كلها في كشف الاستخدام والتوظيف الاستعماري السياسي البغيض للسيطرة على العالم العربي من بوابة فلسطين، وهي تأتي بالأسانيد العلمية والآثارية التاريخية في إطار تكذيب المسار الاستعماري الأوربي الذي اتخذ من مقارنات التاريخ المختلقة منصة للتخلص من يهودهم أي يهود أوربا من جهة، وتقسيم العالم العربي، وفي تحامق الانجيلية المسيحية الصهيونية بقذفالأوربيين اليهود أساسًا في فلسطين انتظارا لمسيحهم الموعود.

يقول الإمام الشافعي المكي الفلسطيني الغزي:

أَخي لَن تَنالَ العِلمَ إِلّا بِسِتَّةٍ

سَأُنبيكَ عَن تَفصيلِها بِبَيانِ

ذَكاءٌ وَحِرصٌ وَاِجتِهادٌ وَبُلغَةٌ

وَصُحبَةُ أُستاذٍ وَطولُ زَمانِ

في دراسة علمية للأستاذين في علم النفس بجامعة الأقصى في غزة د.منير أبوالجديان ود.ديبة الزين وجدا من صفات العالم في الشافعي الكثير كان منها أولا وبنسبة طاغية الأمانة العلمية – كما حال نموذجنا اليوم أحمد الدبش- إذ كانت ضمن تحليلهم العلمي لكتبه تشكل لديه 53% بينما البلاغة 27,6% وهكذا بالنقاط الأخرى.

ختامًا دعوني أوجه كل المحبة والاحترام للأخ الأستاذ والصديق الباحث الكبير أحمد الدبش، فهو إذ يعتذر يكبر، وهو إذ يتبين ويصحح ويلتزم الامانة العلمية كما رآها يبرز بثياب العالم الحقيقي، وكما قال سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم (الكيس من دان نفسه).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى