أقلام وأراء

بكر أبوبكر يكتب – الأقانيم الثلاثة والقصور العقلي

 بكر أبوبكر – 11-10-2020

ليس من السهل على القاريء بين بطون الكتب أن يستدل على مكامن الخلود للعبارات والفقرات والرؤى إلا متى ما قارن القديم بالحديث أوالتحليل النظري بما أصبح واقعًا اليوم، أو حين رؤيته لوجه الكاتب يضحك من حال الأمة المغبَرّ؟

وأراك يا اخ أبوالسعيد تضحك! ولربما أنت تبتسم بحرقة الذي حذّر ولم يستمع أحد لتحذيره.

في لقائه بصحيفة الأنباء الكويتية عام 1981 أي قبل عام واحد من اجتياح لبنان وبيروت، كان أبوالسعيد يحذّر من اتساع الخطر الأمريكي الذي لا يبتغي إلا زرع “إسرائيل” دولة قائدة ومهيمنة في المنطقة، وها هي النبوءة تتحق !

النبوءة تتحقق مع “الشرق الاوسط الجديد”[1] لشمعون بيريز ومع “مكان تحت الشمس”[2] لبني يامين نتنياهو الذي أراه احتكر الشمس، شمسنا، يوزع أشعتها على سائر المنطقة كما يشاء!

أنت من قال أن أمريكا تنظرُ لنا وتقول (أنتم صفر و”إسرائيل” هي الرقم)، وقد صدقت فها هي “إسرائيل” تجتاح البلاد والعباد وتمتلك كل الأرقام على الطاولة.

 لماذا يا أخ أبوالسعيد؟ بتنا نعلم أنه لتخاذلنا، ولأننا رفضنا امتلاك مبرر وجودنا الذي لا يقوم إلا بقوتنا السياسية-الثقافية-الاقتصادية الموحدة؟

في قراءتي في كتاب أبوالسعيد المعنون من يحكم الآخر كثير فقرات تحتاج التركيز، وهكذا هو الحال مع أصحاب القول الثقيل والفكر الراجح والحكمة الصارخة، لذا فكلما غصنا فيما وراء الكلمات كلما وجدنا الكثير.

وكأنك بالقراءة العميقة تبحث في طبقات الأرض وعلم الآثار التي مهما نقّبتها في فلسطين وجدتها كلها تقول أنا فلسطين، فقط وليس أولئك المدّعون الذين لم يمتلكوا شرف أن يكونوا هباءً في أي طبقة من طبقات أرضها فكيف بالسماء!

اشتهر أبوالسعيد باجتراح المصطلحات والتي منها يصادفنا بهذا الكتاب مصطلحي الموت السياسي والقصور العقلي فلقد رأى الموت السياسي عند العرب بالعزل الغبيّ بين القطاعات حيث قال: (أن حركة المجتمع والدولة، تتداخل فيها كل القطاعات الاقتصادية والسياسية، وأي عزل بين الاقتصاد والسياسة، هو الوقوع في الموت السياسي).

يقول أبوالسعيد حين الحديث في متن كتابه عن حرب العام 1956م أي العدوان الثلاثي على غزة ومصر وموضحا السياسة الأمريكية الثابتة: (منطلق التفكير الأمريكي هو مصلحة أميركا في توسيع واستمرار نفوذها ومصالحها احتكاريًا لمنطقة الشرق الأوسط ودعم “اسرائيل” يمثّل نهجا أساسيًا في نجاح هذه الاستراتيجية التي لا يمكن أن تستمر إلا بالقوة، ولا يمكن أن تواجه إلا بالقوة)[3].

وهل تُرانا فهمنا ذلك اليوم بأن المواجهة لا تكون إلا بالقوة بأقانيمها الثلاثة[4] (جوهرها الثلاثي) مما قاله أبوالسعيد بوضوح؟

القوة ليست فقط مقتصرة على القوة العسكرية على أهميتها القصوى وضرورتها لمن يبغي إنشاء دولة قوية ومنيعة وممتدة، وأنما حال تذبذب أوضعف القوة العسكرية التي لا غنى عنها، رأي أبوالسعيد اقترانها الثلاثي الأركان حيث يجب أن يتكامل  السياسي والاقتصادي والثقافي.

الثلاثة أقانيم اليوم منهارة يا أخ أبوالسعيد، فالسياسي الإنعزالي عن أمته قد فقد البوصلة المبدئية والأخلاقية فتاهَ ومالَ وترنّح ثم سقط وخنعَ.

والاقتصادي بيعَ للامبراطورية الإسرائيلية المهيمنة، فيما أسمى التعاون الاقتصادي الموهوم بين العرب القابلين للغزو، وبين الغزو الصهيوني المهيمن. 

أما الثقافي الفكري فلقد اخترقه “نتنياهو” الذي صنع بالسلام بالقوة، كما قال متبجّحاً وبالنص الصريح في واشنطن 15/9/2020م بالقوة فقط ولا غير جئتم!

قال كبيرهم الذي علّمهم السحر “بني يمن نتنياهو” يا اخ أبوالسعيد في الحفل الامريكي أن :”السلام الذي نؤسس له اليوم سوف يستمر، لأنه مبني على القوة”! وهل هناك اوضح من ذلك!؟

 

مستطردا “عملت على تعزيز ركائز “إسرائيل” لكي تصبح قوية جدا لأن القوة تفضي إلى السلام”؟! تأكيد لا بد منه لدول الضعف والاستسلام والانعزاليين العرب.

الى ذلك لم يستطع الساحر في توقيع التطبيع في واشنطن مع بعض العرب إلا أن يتبجح مبتهجًا بغسيل دماغ أهل التطبيع الانعزاليين وباختراقه عقل الأمة التي ستلحق به كما قال كالقطيع يتبع الراعي.[5]

لقد تحطم الحائط، لتجد اليوم بين مثقفينا ومفكرينا من يصفقون للسلطان السياسي المستبدّ، ولنظرتهم الدونية الاستهلاكية غير القيمية فيبعون فلسطين وعروبتهم وقيمهم فيما كان العكس من الإسرائيلي الذي أعلن جهارا تمسكه بالقيم والمباديء الصهيونية وبالقوة.

يقول خالد الحسن عن النظرة الاستخذائية (الضعيفة والذليلة)لأمريكا: (إن هذه النظرة العربية لا تدعو إلى الألم فحسب، بل إنها تدعو الى الحزن الشديد لهذا القصور العقلي، أو الموقف التبريري للصداقة مع واشنطن.)

لقد سقطت الأقانيم الثلاثة يا أبوالسعيد، وبات قصورنا العقلي، والتبريري جليًا.

 الهوامش: 

[1] ببراعة سياسي خبيث رسم شمعون بيرز رئيس الوزراء الصهيوني-ثم رئيس الدولة-الأسبق في كتابه المعنون: الشرق الاوسط الجديد الصادر عام 1994م نظاماً إقليمياً بوجه قومي، وبخطط إقتصادية ضخمة وطمس تاريخي ساذج لكل تركيبة الشعوب العربية، داعياً بذلك إلى “من اقتصاد الحروب إلى اقتصاد السلام”. ويدّعي شمعون بيريس بالكتاب أيضا: بأنه لن تقوم تنمية اقتصاديه في الشرق الأوسط من غير دولة “اسرائيل”! وبأن هذه التنمية لن تتحقق ألا عن طريق (السلام) ، وبالكتاب يعظّم في الأقتصاد المشترك بين”اسرائيل” والدول العربية والفوائد التي سيجنونها منها،ومن جانب آخر يعمل على تقزيم القضية الفلسطينية. ويبدو أن منهج بيرزالمخادع هذا قد أصبح واقعا منذ عام الكورونا والتتبيع مع العرب عام 2020م.

[2] مكان تحت الشمس هو كتاب رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني المتطرف والكاره للعرب “بنيامين نتنياهو” الذي صدر بالعبرية عام 1993م،وترجم للعربية من قبل دار الجليل عام 1996م، وتقول نبال خماش عن الكتاب أنه: يعدّ نموذجًا واضحًا للصيغة الواقعية المتطرفة، التي تعرف بـ ” الواقعية الهجومية “، وهي نظرية تعكس تصورا مقدمًا بالأساس للدول العظمى بهدف تعظيم معالم قوتها وسيطرتها ضمن مبدأين أساسيين: توازن القوى، وإلقاء التبعات على الآخرين. وهما عنصران يلمس القارئ حضورهما في كل صفحة من صفحات الكتاب الذي يقع في 438 صفحة. والكتاب يعبر فيه نتنياهو عن اهمية التمسك بالمباديء والقيم الصهيونية لتشكيل الهوية اليهودية أولا، كما يعبر عن احتقاره للعرب والفلسطينيين الذين لا حق لهم، وثالثا يرى التعامل مع أمة العرب بالقوة فقط وصولا للسلام! “قوة الردع المعتمدة على قوة الحسم”،وهو ما حققه بكفاءة المصرّ على مبادئه وقيمه الصهيونية! في زمن التخلي العربي عن المباديء والقيم العربية الأصيلة.

[3]  ]القوة[ فقط هي ما تغنى بها “نتنياهو”وقبل تسلمه رئاسة الوزراء في كتابه مكان تحت الشمس، وما فعله عدوانًا وممارسة يومية على أرض فلسطين، وفي مواجهته لاقناع أمة العرب الخائفة والنطيحة بالاستسلام، حيث ذكرعند التوقيع مع بعض دول العرب على ما أسمي بالتطبيع في 15/9/2020 أن:”السلام الذي نؤسس له اليوم سوف يستمر، لأنه مبني على القوة”، مستطردا “عملت على تعزيز ركائز إسرائيل لكي تصبح قوية جدا لأن القوة تفضي إلى السلام”.

[4] الأقانيم الثلاثة مصطلح ماخوذ عن الديانة المسيحية في الثالوث الإلهي، وكلمة الاقنوم اليونانية: تعني ما يقوم عليه أو فيه الجوهر. من الأقانيم الثلاث لبيان لينين الشهيرعام1917 كان:“الخبز السلام والأرض للجميع”.

[5] أكد نتنياهو نجاح عملية غسيل الدماغ العربي، واختراقه العقل العربي حتى العمق فيما صرّح به علنا في 15/9/2020 حين قال في واشنطن: “السلام الذي نشهده اليوم ليس فقط بين القادة بل بين شعوب إسرائيل والإمارات والبحرين”!، يقول بين الشعوب-ويفترض المحتلين شعبا- ألاحظتم حجم الاختراق الذي لم يحصل لا في مصر ولا الأردن الموقعتان لاتفاقيات السلام!؟ ونحن نقول: نعم، سقط الانعزاليون من المثقفين والسياسيين والاعلامين العرب في حضن نتنياهو-ترامب إذلاء منكسرين، وها هو يعلن أسماءهم جهرًا! ولكن أمة الكرامة والإباء والهمة العالية لاتموت أبدا بإذن الله.

1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى