أقلام وأراء

بشير عبد الفتاح يكتب – ترامب يرهن تطوير الشراكة مع لندن بانجاز «بريكزيت»

طرحت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة لبريطانيا، أسئلة عدة بشأن مستقبل العلاقات بين واشنطن ولندن في ضوء تعثر إجراءات الطلاق البريطاني الأوروبي. ففي وقت يأبى ترامب إلا تعليق أي دعم أميركي لبريطانيا بإتمامها خطة خروجها من الاتحاد الأوروبي، تبرز إشكالية السيادة، التي طالما مثّلت مرجعية حاكمة لعلاقات بريطانيا مع محيطها الإقليمي وفلكها الدولي. ففي خضم «صيحة النهايات» التي اجتاحت عالمنا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي، يهيمن الحديث عن «نهاية مبدأ السيادة»، الذي يرتكز أساساً على عدم التدخل في شؤون أي دولة، والامتناع عن استخدام القوة ضد وحدتها واستقلالها السياسي.

ولطالما عكف محللون على الترويج لأطروحة أن العالم يشهد حالياً ما يمكن أن يسمى «أفول السيادة»، فيما دأب نفر آخر على زعم أن النظام العالمي انتقل بالفعل إلى حقبة «ما بعد السيادة». وهو ما يؤكده روبرت جاكسون في كتابه «ميثاق العولمة»، حيث سلط الضوء على أبرز مظاهر التدخل في شؤون الدول والتي تحد من السلطات والصلاحيات السيادية لها، كميثاق الأمم المتحدة، الذي جعل صلاحيات واختصاصات هذه المنظمة تشمل النواحي السياسية والأمنية والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والبيئية… وغيرها، التي كانت تعتبر تقليدياً من صميم الاختصاص الداخلي للدول، هذا إضافة إلى معاهدة ماسترخت المنشئة للاتحاد الأوروبي في العام 1991، فضلاً عن نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي جعل أصحاب السيادة في الدول المصدقة على هذا النظام من رؤساء الدول ورؤساء الحكومات والوزراء والنواب والموظفين الرسميين خاضعين لاختصاص المحكمة حال ارتكابهم جرائم دولية. وتبدو مظاهر أفول سيادة الدول عند صياغة الدساتير والقوانين الداخلية وضرورة تضمينها الكثير من القوانين الدولية والأممية كقوانين حقوق الإنسان والإرهاب وحماية الدول من العدوان الخارجي وحقوق اللاجئين، على سبيل المثال لا الحصر.

وبإصرارها على الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدت بريطانيا وكأنها تسبح عكس هذا التيار، فبذلك الخروج الصادم، نحت لندن منحى مغايراً تماماً، بأن كرّست مسعى استعادة السيادة بمفهومها التقليدي، مؤكدة أن تطورات دولية من قبيل تفجر النعرات القومية وما صاحبَ ذلك من تفاقم الصراعات والنزاعات والحروب على نحو أفضى إلى إرباك الاقتصاد والأمن العالميين، واشتعال أزمة اللاجئين، كان من شأنها أن تستحث بعض الدول على معاودة التشبث بالسيادة بمفهومها التقليدي، وأن تدفع بالبريطانيين إلى البحث عن «الاستقلال» عبر فك الارتباط المؤسسي مع الاتحاد الأوروبى والنأي بالنفس عن الذوبان فى أتون اتحاد فيدرالى أوروبي طالما حرصوا على تلافيه.

فعلاوة على تحدي الهجرة، إلى جانب اعتبارات اقتصادية، لم يخف البريطانيون استياءهم مما يعتبرونه انتقاصاً من سيادة بلادهم لمصلحة الاتحاد الأوروبي، الذي يدار من بروكسيل، بما يشكل قيداً على إرادة بلادهم واستقلال قرارها. فمعاهدة ماسترخت أوجدَت، مؤسسات اتحادية صارت فوق المؤسسات الوطنية للدول الأعضاء. بموازاة ذلك، استبد بكثير من البريطانيين شعور بتواضع تأثير ونفوذ بلادهم التي تعد، خامس أكبر اقتصاد في العالم وثاني أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا، داخل الاتحاد الأوروبي منذ انضمامها إليه في 1975. كما شكا آخرون من تغلغل قوانين الاتحاد الأوروبي في الحياة اليومية للبريطانيين وتغيير بعض معالمها، على نحو فج. ولم يخف بعض البريطانيين المعنيين بقضية الديموقراطية قلقهم من احتمالات تراجعها جراء عضوية بلادهم في النظام الأوروبي، إذ تصدر القرارات والسياسات الأوروبية بعيداً مِن لندن، فيما يضعها بيروقراطيون لا يخضعون لرقابة بريطانية، فضلاً عن أنهم يفرضون ضرائب وواجبات مالية لم يستشر فيها الشعب البريطاني. كذلك يعترض البريطانيون على وجود محاكم أوروبية تفصل في النزاعات ويعتبرون مجرد وجودها انتقاصاً مِن السيادة البريطانية. وبناء عليه، يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي لم ينجح في إخماد جذوة الهوية البريطانية المتوهجة وإحلال هوية «أوروبية» محلها، الأمر الذي تزامن مع فشل رهان بعض القادة الأوروبيين على أن يفرز الاتحاد مصالح اقتصادية تبث في نفوس البريطانيين ثقة جديدة إزاء أوروبا والأوروبيين وتبدد الشكوك الإنكليزية التاريخية تجاه القارة ومشكلاتها وتقلباتها، ومساعي بعض قادة مشروعها الاتحادي كألمانيا لتحويله إلى فيدرالية أوروبية يكون لها فيه القول الفصل. وعلى خلاف استفتاء مماثل سبق أن أجري في الخامس من حزيران (يونيو) عام 1975، وأيّد خلاله 17 مليون بريطاني البقاء فى الاتحاد الأوروبى مقابل رفض ثمانية ملايين، أظهر الاستفتاء الأخير موافقة قرابة 52 في المئة من البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبي على رغم أنها كانت تتمتع بوضع خاص داخله، وكانت تحظى باستثناءات كثيرة كعدم المشاركة في العملة الأوروبية الموحدة «يورو»، وعدم الانخراط فى معاهدة «شنغن» الخاصة بإزالة الحدود بين دول الاتحاد. كما كانت تحرص على اختزال الاتحاد في نشاط تجاري واقتصادي، مع الحيلولة دون تبني سياسة خارجية أو دفاعية موحدة.

ولطالما اكتسى موقف بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي بمِسحة من الحذر وعدم الارتياح، إذ ظلت منذ البداية مترددة بشأن تلك العضوية، فعلاوة على أنها لم تكن من بين الدول الست التي أخذت على عاتقها تأسيس السوق الأوروبية المشتركة سنة 1957، لم تحاول بريطانيا الانضمام في البداية. وحين عدلت عن موقفها وحاولت الدخول رفض الجنرال شارل ديغول، الرئيس الفرنسي في حينه، دخولها، لكن بعد وفاته عام 1970، بدأت بريطانيا الولوج إلى السوق الأوروبية المشتركة سنة 1973، وهي السوق التي تحولت إلى الاتحاد الأوروبي عام 1993. ومنذ انضمامها إلى تلك السوق، سعت بريطانيا إلى تعديل شروط عضويتها فيه، وخاضت مفاوضات معقدة، وتوصلت إلى اتفاق لتغيير صيغة عضويتها، ومُنحت بموجبه «وضعاً خاصاً».

وعلى رغم التخبط وسوء الفهم الذي اعترى تصريحات ترامب إبان زيارته الأخيرة بريطانيا، على نحو ما بدا في استفزازه البريطانيين، عبر محاولته تقويم كفاءة رئيسة الوزراء تيريزا ماي في إدارة عملية «بريكزيت»، ثم تعليقه أي تفعيل مراوغ للشراكة الأميركية البريطانية بإسراع لندن فى إتمام الطلاق الأوروبى، تظل غالبية الإنكليز تراهن على توثيق وشائج الشراكة والتعاون بين لندن وواشنطن على مختلف الأصعدة، باعتباره طوق النجاة لبلادهم عقب خروجها من الاتحاد الأوروبى، لا سيما وأن تجارب الماضي تبرز أيادي الأميركيين البيضاء على البريطانيين، فلولا الولايات المتحدة لضاعت بريطانيا فى طيات الطموحات النازية الجامحة ولما صمدت إبان الحربين العالميتين. ولولا خطة مارشال الأميركية لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب الكونية الثانية، ما تسنى لبريطانيا ولا لأوروبا قاطبة تجاوز تداعياتها المريرة وآثارها المؤلمة، والعودة إلى التاريخ مجدداً من أوسع أبوابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى