منوعات

بشار مرشد: المطبخ العربي للسياسة… تَمَنٍ دون إعداد

بشار مرشد 17-11-2025: المطبخ العربي للسياسة… تَمَنٍ دون إعداد

المقدمة:

في عالم تحكمه معادلات الكفاءة، ويسوده منطق السببية الذي أرساه الفلاسفة، يظل مطبخنا السياسي العربي مساحة استثنائية محصورة داخل قِدر واحد. فرغم تنوّع مطبخنا العربي الحقيقي بما لذّ وطاب، يبقى مطبخنا السياسي عاجزاً عن إعداد طبق التنمية والنهوض. ومع أن علم الإدارة يقرّ بأن النجاح نتاج إعداد دقيق يتبعه تنفيذ مُركّز، فإن طهاة هذا المطبخ ابتكروا مدرسة جديدة: مدرسة التمني السببي.

نحن أمام ظاهرة تتحدى البديهة: كيف يمكن لعدد كبير من “الطهاة” أن يكرروا الوصفة الكارثية ذاتها لعقود، ثم ينتظروا نتيجة مختلفة؟ إنها معادلة ترفض الانصياع لأبسط القوانين المنطقية. فالسخرية ليست في الفشل بحد ذاته، بل في إصرار الطهاة على إلقاء اللوم على “ذوق الجمهور” (العامة الجوعى)، أو على المصادفات الكونية، بدلاً من مراجعة المكوّنات الأساسية. لقد أفرغ هؤلاء مفهوم الإعداد من محتواه، وباتوا يتمنّون أن تخرج “طبختهم” شهية بالصدفة لا بالجهد.

الطهاة المقاولون… إدمان الفشل والإصرار على الخطأ:

الأزمة في هذا المطبخ لا تكمن في نقص الموارد، بل في طغيان طهاة “المقاولة”؛ تلك الفئة التي احتكرت القِدر لعقود طويلة. هم ليسوا مجرد عديمي خبرة، بل يجسدون شكلاً أعمق من الخلل: إدمان الفشل الإداري.

يمتلك هؤلاء سنوات طويلة في المطبخ، لكنهم يخلطون بين طول التجربة وجودة الخبرة. أتقنوا فن تكرار الأخطاء لا فن إعداد الوصفة. بالنسبة لهم، النجاح ليس الهدف؛ الهدف هو البقاء فوق القِدر مهما كانت النتيجة مُرّة أو محروقة. الخطر في إصرارهم على التمسك بالوصفة الفاشلة ورفض أي تغيير جوهري. يمارسون “الإنكار المؤسسي”: فإن اشتكى الجائعون، فالخلل في “ذوقهم”، وإن تعفّنت المكوّنات، فالمشكلة في “الموردين”. هذا المنطق يمنع انتقال المطبخ من التمني إلى الإعداد، لأنه يرى في الوصفة الجديدة اعترافاً بفشل القديمة، وهو ما يهدد مكانتهم.

الطهاة الجدد… النوايا المعلّبة وسباق ملء البطون:

في هذا المطبخ المتعفّن جزئياً، يظهر جيل جديد يرفع شعار “التغيير” ويدّعي القدرة على إنقاذ الطبخة. سرعان ما ينكشف أن مشكلتهم ليست نقص المعرفة، بل أزمة النية. التحليل الدقيق يكشف أن هدفهم انحرف من “صلاح الطبخة” إلى “الجلوس قرب القِدر والأكل منه”.

نتيجة هذا الانحراف كارثية: لا يقدمون وصفة جديدة، بل يغيّرون طريقة التقديم، أو يضيفون زينة سطحية. يتبعون آليات الطهاة القدامى نفسها لأنها الطريق الأقصر للوصول إلى المغنم. يروجون لوهم أن “البركة” تصلح ما أفسده غياب التخطيط. وعندما يفشلون، ينضمون فوراً لمدرسة الإنكار المقاولة. يتحول الصراع إلى سباق على مقاعد الطهاة، لا على جودة الوصفة، وتستمر الطبخة التالفة في استنزاف الموارد والأمل.

الطهاة القدامى وورطة الآكلين:

يمثل الطهاة القدامى نموذج الجمود العقائدي في المطبخ. لا يطبخون ما هو صحيح، بل ما يعتقدون أنه يجب أن يكون صحيحاً، حتى لو لم يعجب الجائعين. ينتج تمسكهم هذا عن قناعة بأن أي نقد للطبخة هو طعن في أصالة المطبخ، ما يدفعهم إلى رفض التغيير والابتكار كلياً.

هذا التصلّب خلق ورطة للجمهور: إذ دفعهم نحو خيار مرّ، وهو القبول بالطبخة “المشعوطة” لأن البدائل جاءت أسوأ أو مماثلة في السوء. أصبح الجمهور يفضل “الشيطان الذي يعرفه” على مغامرة أثبتت التجارب أنها لا تحمل جديداً. أما من لم يجرب التغيير بعد، فيعود للتمني، متجاهلاً أن المشكلة في النهج، لا في الوجوه.

الخاتمة:

ما يجري في المطبخ السياسي العربي ليس سلسلة أخطاء، بل دورة فشل مغلقة. تبدأ بطهاة مقاولين أدمنوا الفشل وينكرونه، تغذيها نوايا الطهاة الجدد المعلّبة، وتستمر بجمود الطهاة القدامى، وتنتهي بجمهور منهك مقتنع بأن الطبخة المشعوطة قدر لا مفر منه.

لقد قادتنا “مدرسة التمني السببي” إلى طريق مسدود، ننتظر فيه معجزة تصلح ما أفسدته وصفات متعمدة. الخروج من هذا القِدر لا يكون باستبدال طاهٍ بآخر يكرر العقلية ذاتها، بل بالاعتراف الصريح بأن الطبخة قد تلفت.

كسر الحلقة يتطلب عودة جذرية إلى مبادئ الإعداد، واستبدال التمني بالمحاسبة، وتفويض طهاة منتدبين يمتلكون الخبرة لا النوايا، ويلتزمون بالنتائج أمام جمهور يجب أن يتوقف عن كونه آكلاً مستسلماً، ليصبح ناقداً فاعلاً يطالب بوصفة جديدة لا تقبل الترقيع.

و هنا يبرز التساؤل :

هل فساد الطبخة وفشل الطهاة ناتج عن خللٍ ذاتي داخل المطبخ نفسه، أم عن عوامل خارجية فرضت إيقاعها، أم أنه مزيج معقّد من الاثنين معاً؟

وهل نحن قادرون على كسر تلك الحلقة؟

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى