بشار مرشد: الفصل بين الفكرة وذات الإنسان… جدلية النقد والتجريح

بشار مرشد 2-10-2025: الفصل بين الفكرة وذات الإنسان… جدلية النقد والتجريح
المقدمة:
النقد هو أداة معرفية أساسية تهدف إلى تحليل الأفكار والسلوكيات والنهج والأسلوب بهدف تصويبها وتطويرها. إنه ليس مجرد إبداء رأي أو التعبير عن الاستياء، بل عملية منهجية تتطلب تمييزًا دقيقًا بين الفكرة والشخص، بين السلوك والهوية. ما يميّز النقد البنّاء عن التجريح الشخصي هو شعرة دقيقة فاصلة لكنها جوهرية: القدرة على الفصل بين الشخص ذاته، بصفته إنسانًا، وبين شخصيته الاعتبارية التي تمثل أفكاره وأفعاله ونهجه وأسلوبه في العمل.
عندما يُوجَّه النقد إلى النهج أو الفكرة أو السلوك، فإنه لا يتجاوز حدود العقل والمنطق، ويخدم الغرض من التحليل والتصويب، ويتيح للفرد والمجتمع فرصة التعلم والبناء. أما إذا انزلق النقد إلى استهداف الشخص ذاته، إلى كرامته أو نواياه، فإنه يتحول إلى تجريح وهجوم، يفقد مصداقيته ويصبح أداة انفعال لا تصويب.
ببساطة، الفرق بين النقد والتجريح ليس في قسوة الكلام أو صرامته، بل في الاتجاه الذي يصوبه الكلام، نحو البناء والفكرة، أم نحو الشخص وكرامته. ومن هذا المنظور، يصبح النقد فعلًا معرفيًا ووسيلة للنمو والازدهار، بينما التجريح انحراف عن الهدف الأساسي للتحليل والتصويب.
عوامل انجراف النقد نحو التجريح الشخصي:
رغم أن النقد البنّاء يلتزم بالموضوعية والعقل، إلا أن العديد من المنتقدين في بعض المجتمعات ينجرفون نحو التجريح الشخصي لأسباب مترابطة، يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. غياب التخصص والخبرة: كثير من المنتقدين يفتقرون إلى معرفة دقيقة بالموضوع، فينتقل النقد من الأداء أو الفكرة إلى الشخص ذاته. مثال: رياضي ينتقد رساما أو تاجر ينتقد مزارعًا.
2. الانفعال الشخصي وإثبات الذات: يُنظر أحيانًا إلى النقد كمعركة شخصية، فيستخدم الناقد لغة عاطفية وانفعالات قوية، معتقدًا أن كثرة الشتائم دليل على قوة حجته أو تفوقه.
3. السعي للشهرة من خلال الخلاف: بعض المنتقدين يبحثون عن الانتباه والشهرة، فيصبح إثارة الجدل أو الصدام هدفًا بحد ذاته، ويغلب على خطابهم التجريح الشخصي.
4. مجاراة الجمهور والتوجه العام: خوف المنتقد من السخرية أو رفض الجمهور إذا لم يتبع الشكل المألوف للنقد، يدفعه للانزلاق نحو التجريح لضمان القبول الاجتماعي.
5. غياب القدرة على الفصل بين الشخص والنهج: في بعض السياقات، يميل المنتقدون إلى ربط الفرد بفكرته أو موقعه، فلا يرون إمكانية نقد الفكرة دون المساس بالشخص.
6. الجو العام المشحون والمكبوت: عدم الاعتراف بأن المسؤولية جماعية وأن الخيار يعود للجمهور، يجعل النقد يتحول إلى تفريغ للغضب على الشخص بدل التعامل مع المشكلة بموضوعية.
7. ضعف التربية النقدية والتعليم على التفكير المنطقي: غياب التدريب على النقد الموضوعي والتحليل المنهجي منذ المراحل التعليمية المبكرة يسهم في انزلاق الأفراد نحو التهجم الشخصي، إذ يفتقدون أدوات التفريق بين الفكرة وصاحبها.
الثغرة التي تكشف براعة الناقد:
يمكن القول إن الثغرة البسيطة التي تكشف مدى براعة وصدق الناقد تتجلى في قدرته على التركيز على الفكرة أو النهج مع الحفاظ على احترام الشخص كإنسان. الناقد الماهر لا ينجرف نحو الشخصنة، ولا يبحث في السجل العائلي أو الصحي أو العلاقات الخاصة للفرد لتقوية موقفه، بل يبقى النقد ضمن حدود العمل أو الفكرة فقط. هذه القدرة على الترميز الدقيق للفكرة والنهج مع الابتعاد عن المساس بالشخص نفسه هي ما يميز النقد البنّاء عن التجريح، وتكشف عن نية صادقة في الإصلاح والبناء لا الانفعال أو الصراع الشخصي.
الخاتمة:
خلاصة القول، النقد البنّاء يظل أداة معرفية قيمة إذا التزم بالموضوعية والفصل بين الشخص والفكرة، إذ يتيح تصويب الأخطاء وبناء الفهم دون المساس بالكرامة الإنسانية. الانزلاق نحو التجريح الشخصي يحوّل النقاش إلى ساحة صراع شخصية، ويضعف قيمة النقد كوسيلة للتعلم والبناء. لذلك، إدراك الشعرة الدقيقة بين نقد الفكرة ونهج الشخص من جهة، واستهداف الشخص ذاته من جهة أخرى، يعد المفتاح لتطوير ثقافة نقدية صحية، تعزز القدرة على التعلم والتقدم الفردي والجماعي.