بروس هوفمان : كيف يعود تنظيم القاعدة من جديد إلى الساحة الدولية؟
بقلم: بروس هوفمان، مجلس العلاقات الخارجية– 6/3/2018
في حين استحوذ تنظيم داعش على العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام وشَغَل كبار مسئولي الأمن القومي على مدار الأربعة أعوام الماضية, كان تنظيم القاعدة يعيد بناء نفسه في هدوء تام؛ فالإعلان الذي أصدره التنظيم في الصيف الماضي حول بروز فرع جديد له يتولّى مهمة تحرير إقليم كشمير, إلى جانب إحياء التنظيم لمكانته في أفغانستان وترسيخ نفوذه في سوريا, اليمن والصومال, كل ذلك أكّد على صموده وحراكه المتواصل.
وعلى الرغم من أن عمليتي إعادة البناء والتنظيم سبقت الربيع العربي في عام 2011, إلا أن الاضطرابات التي تبعت هذا الربيع ساعدت بالفعل تنظيم القاعدة في إحياء نفسه مجددًا. فعند اندلاع الربيع, قضت حالة من التفاؤل لدى النشطاء الحقوقيين المحليين والإقليميين وكذلك الحكومات الغربية، أن الإرهاب أصبح وسيلة عتيقة واستُبدل بالاحتجاج الشعبي والتمرد المدني ووسائل التواصل الاجتماعي, وأن التلهف على الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي تفوّقان بشكل حاسم على القمع والعنف، إلى جانب أن مقتل كلٍ من أسامة بن لادن وأنور العولقي, كبير المروّجين, وأبو يحيى الليبي, الرجل الثاني بالتنظيم, خلال عامي 2011 و2012 على التوالي أعطى ثقلاً جديدًا لتنبؤات المتفائلين بأن تنظيم القاعدة أصبح قوة مستنفدة.
ومع ذلك, حيثما توقع المتفائلون بروز تغيير إيجابي لا رجعة عنه، اكتشف تنظيم القاعدة فرصًا جديدة, حسبما أفاد المقال, جعلته من بين القوى الإقليمية التي استفادت من اندلاع الربيع العربي، فبعد مرور سبعة سنوات, يظهر أيمن الظواهري كزعيم قوي لديه رؤية استراتيجية نفذها بشكل ممنهج.
القوات الموالية للقاعدة والمنتمية إليها وصل عددها في الوقت الحالي إلى عشرات الآلاف وأصبح لديها القدرة على الإخلال بالاستقرار المحلي والإقليمي وعلى شن هجمات ضد خصومها في الشرق الأوسط, وأفريقيا, وجنوب آسيا, وجنوب شرق آسيا, وأوروبا وروسيا، كما ربطت القاعدة نسيجها من شمال غرب أفريقيا إلى جنوب شرق آسيا لتشكيل حركة عالمية تضم أكثر من 24 فرع تابع حول العالم, فسوريا وحدها تضم ما يزيد عن 20000 مسلّح تابع للتنظيم, إلى جانب حوالي 4000 آخرين في اليمن ونحو 7 آلاف في الصومال.
قرار الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي بإطلاق سراح الآلاف من مقاتلي التنظيم المتشددين من السجون عامي 2012 و 2013، حفّز التنظيم في وقت حرج, حيث ساد حينها مناخ من انعدام الاستقرار, وبلا شك زوّد الإفراج عن هؤلاء المقاتلين, الذين لديهم دراية بالإرهاب والتدمير, من قدرتهم على إغراق الدولة بشكل خاص والمنطقة بشكل عام في الفوضى.
وسواء توجه هؤلاء المتشددون إلى ليبيا, تركيا, سوريا أو اليمن, كان وصولهم إلى أي من هذه الدولة فرصة ذهبية لتعزيز مصالح التنظيم وزيادة نفوذه، ومن ثم, أثبت الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس مرسي صحة تحذيرات الظواهري المتكررة بعدم تصديق الوعود الغربية سواء المتعلّقة بثمار الديمقراطية أو تلك المتعلقة بقدسية الانتخابات الحرة والنزيهة.
سوريا هي المكان حيثما كان تسلل القاعدة إليها نتيجة محتومة, وأشار إلى أولى التحركات الرسمية للظواهري بعد خلافته لأسامة بن لادن, إصداره أمر لـ “أبو محمد الجولاني”, أحد المحاربين السوريين المخضرمين في العراق بالعودة إلى سوريا وإقامة فرع لتنظيم القاعدة– وهو جبهة النصرة في الوقت الحالي.
زوّدت الرسائل الطائفية السافرة للتنظيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي من حدّة الخلافات التاريخية بين السنة والشيعة, ووفرت للتنظيم صلاحية الدخول إلى السياسة الداخلية لسوريا, حيثما هو بحاجة إلى توطيد وجوده، وكانت جبهة النصرة, وهي نتاج مبادرة مشتركة بين التنظيم وبين فرعه في العراق “دولة العراق الإسلامية”, وسيلة التنظيم لزيادة النفوذ في سوريا، لكن مع تعاظم نفوذ جبهة النصرة, نشأ نزاع بين “دولة العراق الإسلامية” والقاعدة حول زعامة الجبهة.
أبي بكر البغدادي, زعيم “دولة العراق الإسلامية”, انتزع السلطة بجرأة حيث أعلن عن الدمج القسري لجبهة النصرة مع “دولة العراق الإسلامية” في تنظيم جديد سُمي بـ”الدولة الإسلامية في العراق وسوريا (داعش)”، ورفض الجولاني هذا الاندماج أحادي الجانب, وبعدما اشتد الخلاف بين التنظيمين, فصل الظواهري داعش عن شبكة تنظيم القاعدة.
وبينما كان يسلّط الضوء على داعش, أعاد تنظيم القاعدة بناء فروعه المختلفة وتحصينها بهدوء، فقد نفذت القاعدة بشكل ممنهج استراتيجية طامحة ترمي إلى حماية كبار قياداتها المتبقين, وتمتين نفوذها بسرية وحذر تام في المواقع التي لا زال للتنظيم وجود بارز فيها، وبناءًا على ذلك, تم توزيع قادة التنظيم في سوريا, إيران, تركيا, ليبيا واليمن, مع استمرار وجود عدد قليل من كبار القادة المتشددين في أفغانستان وباكستان. وساهم التقدم في أدوات الاتصال الرقمي والكشف المتتابع عن قدرات التجسس لدى الولايات المتحدة وأجهزة الاستخبارات الأخرى المتحالفة معها, في تمكين قادة التنظيم من الحفاظ على تواصلهم مع بعضهم البعض عبر تقنية تشفير آمنة.
إرسال عدد كبير من أبرز قادة التنظيم إلى سوريا طيلة السنوات الست الماضية يؤكد على الأولوية القصوى التي يوليها التنظيم لهذا البلد، واستشهد الكاتب بالبعض من هؤلاء القادة:
• «محسن الفاضلي»، أحد المقرّبين لبن لادن, قاد جماعة خراسان حتى وفاته خلال غارة جوية أمريكية عام 2015، وأُسند للفاضلي مهمة محاولة إذابة الجليد بين القاعدة وداعش, حيث اعتُبر المبعوث المحلي للظواهري.
• «حيدر كيركان»، مواطن تركي يعد من كبار عناصر التنظيم, أرسله بن لادن إلى تركيا عام 2010 لتمهيد الطريق أمام توسعة التنظيم إلى بلاد الشام، قبل أن يهيئ الربيع العربي هذه الفرصة بدقة، وكان كيركان مسؤولاً أيضًا عن تسهيل انتقال كبار عناصر التنظيم من باكستان إلى سوريا هربًا من غارات الطائرات دون طيّار المتزايدة التي أمر بها الرئيس باراك أوباما, ثم قُتل في عام 2016 في غارة جوية أمريكية.
• «سيف العدل», قيل أنه أكثر القادة المتمرسين في التنظيم, وبرز اسمه من جديد في الخريف الماضي, وهو قائد سابق في الجيش المصري, ويعود سجل تاريخه الإرهابي إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، واشتمل على مؤامرة اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات، وتفجيري السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، والحملات الإرهابية التي شنها التنظيم في السعودية وجنوب آسيا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما أنه لعب دور الموجّه أو المرشد لوريث بن لادن المفترض, حمزة بن لادن, عندما سعى كلٍ منهما للحصول على ملاذ آمن في إيران بعد بدء العمليات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة في أفغانستان أواخر عام 2001، ويعد ظهور نجل ابن لادن الأصغر في سوريا في الصيف الماضي دليلاً جديدًا يصدّق على تمكين التنظيم داخل دولة أصبحت أكثر الأماكن المألوفة لشن الحرب المقدسة منذ بداية الجهاد الأفغاني في فترة الثمانينيات.
وجود تنظيم القاعدة في سوريا يعد أكثر دمارً من وجود تنظيم داعش, حيث تعتبر هيئة تحرير الشام, وهو آخر لقب تبناه الفرع المحلي للقاعدة, أكبر جماعة متمردة في سوريا, وعززت قبضتها العام الماضي في إدلب وعلى طول الحدود السورية التركية، وقد توّج تأسيس هذه الهيئة عملية قد بدأتها القاعدة قبل أكثر من ثلاث سنوات لسحق الجيش السوري الحر وأي جماعة أخرى تتصدى للتطلعات الإقليمية لتنظيم القاعدة.
التحركات التي ينفّذها تنظيم القاعدة بمثابة محاولات لملأ الفراغ الذي خلفه تنظيم داعش، فداعش لم يعد بإمكانه التنافس مع تنظيم القاعدة من حيث النفوذ, الانتشار, العمالة البشرية أو التماسك، بينما رأى الكاتب أن داعش في الوقت الحالي تتفوق على القاعدة في مجاليْن فحسب: قوة شعارها, وقدرتها على شن هجمات إرهابية خطيرة في أوروبا.
السبب وراء هذ التفوق هو قرار الظواهري الاستراتيجي بحظر تنفيذ عمليات إرهابية في الدول الغربية بحيث يتمكن التنظيم من مواصلة عملية إعادة البناء دون تدخل خارجي، بينما تقدّم بعض الاستثناءات لهذه السياسة– مثل هجمات شارلي إيبدو في باريس عام 2015 وتفجير مترو سانت بطرسبرغ في روسيا عام 2017– دليلاً قاطعًا على إمكانية إحياء قدرات التنظيم على شن العمليات الخارجية بسهولة، وفي هذا السياق, كشفت صحيفة نيويورك تايمز مؤخرًا النقاب عن قدرة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي يتخذ اليمن مقرًا له على تنفيذ أعمال الإرهاب الدولي, خاصةً استهداف الطيران التجاري.
ويعزى نجاح القاعدة في إحياء شبكتها العالمية إلى ثلاث خطوات استراتيجية اتخذها الظواهري:
• تعزيز نهج لامركزية أفرع التنظيم, ما سهّل بقاء التنظيم على قيد الحياة، وعلى مر الأعوام, تم دمج قادة ونواب أفرع التنظيم النائية في عمليتي التداول والتشاور، واليوم, أصبح التنظيم “محلي وعالمي” بالفعل, حيث أدرج المظالم والمخاوف المحلية بشكل فعّال في سياق دولي يشكّل الأساس لاستراتيجيته الهائلة والشاملة.
• إصدار الظواهري عام 2013 أمرًا بتجنب تنفيذ هجمات القتل الجماعي خاصة الهجمات التي قد تودي بحياة المدنيين المسلمين، ومن المفارقات أن القاعدة بموجب هذا القرار كانت قادرة على تقديم نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها تنظيم “متطرف معتدل”, وباعتبارها ظاهريًا مستساغة أكثر من داعش.
• ترك داعش تتلقّى الضربات كافة من التحالف الدولي في الوقت الذي تعزز فيه القاعدة قوتها العسكرية في الخفاء، وقد حذّر ثيو بادنوس (بيتر ثيو كورتيس), الصحفي الأمريكي الذي قضى عامين كرهينة لدى جبهة النصرة, من هذه الحيلة بالتحديد, كما روى عام 2014، كيف أن كبار قيادات التنظيم الذين دعوا الموالين لهم في الغرب للجهاد لم يعززوا فكرة قدوم هذه العناصر الغربية الموالية إلى سوريا, ليس لأن التنظيم في غير حاجة إلى جنود على الأرض بل لأن قادة التنظيم يريدون إرشاد الغربيين لنقل النضال إلى بلدانهم.
وذكر دانيال كوتس, مدير الاستخبارات القومية الأمريكية, حول تنظيم القاعدة الذي أصبحت تهديداته مقتصرة على فروعه, حيث شبه كوتس هذا الوضع بالحرب المتوقفة في غرب أوروبا في الفترة بين سبتمبر 1939 ومايو 1940، عندما كان هناك سكون مريب في القتال عقب الغزو الألماني لبولندا وإعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا, حينها توجه نيفيل تشامبرلين, رئيس الوزراء البريطاني, بزيارة إلى القوات البريطانية المتواجدة على طول الحدود الفرنسية– البلجيكية في عيد الميلاد المجيد, ووجه تشامبرلين سؤالاً للقائد برنارد لو مونتغومري, قائد كتيبة المشاة المدافعة عن الجبهة, ذاكرًا: “لا اعتقد أن الألمان لديهم أي نية لمهاجمتنا, أليس كذلك؟”, وأجاب مونتغومري بشكل فظ, قائلاً: “الألمان سيهاجمون عندما يناسبهم ذلك”.
ضرورة الأخذ في الاعتبار أن القاعدة منشغلة بإعادة بناء وتعبئة قواتها لمواصلة الحرب التي أعلنتها قبل 22 عاما ضد الولايات المتحدة.