شوؤن عربية

انهيار الدولة اللبنانية ينطوي على انعكاسات استراتيجية كثيرة محتملة، سلبية بالأساس، بالنسبة لإسرائيل !

سليم سلامة *- 11/10/2021

 تثير الأزمة السياسية والاقتصادية الحادة التي تعصف بالدولة اللبنانية هذه الأيام والتي تشهد تفاقماً مستمراً منذ فترة طويلة دون أن تلوح في الأفق أية فرص جدية أو بوادر للحل، اهتماماً وقلقاً واسعين وعميقين في إسرائيل تعكسه، أكثر شيء، التقارير الإعلامية والبحثية التي تُنشر بوتيرة عالية، سواء في وسائل الإعلام الإسرائيلية أو ضمن إصدارات معاهد الأبحاث المتخصصة في الشؤون الاستراتيجية والأمنية والسياسية الإقليمية بصورة أساسية، إذ تركّز هذه التقارير على ما تسميه “تفكك الدولة اللبنانية وتأثيرات ذلك على إسرائيل”، حسبما ورد في عنوان أحدها، وهو ما يشي بالتأكيد بأن الأزمة اللبنانية تشغل بال المؤسسة الإسرائيلية الرسمية، السياسية والعسكرية وتثير قلقاً بالغاً لديها. ونعرض هنا لاثنين من أبرز هذه التقارير التي نُشرت في إسرائيل مؤخراً عن اثنين من أبرز معاهد الأبحاث المتخصصة.

على شفا الإفلاس الاقتصادي التام

التقرير الأول هو الذي أعدته الباحثة أورنا مزراحي، الباحثة الكبيرة في “معهد دراسات الأمن القومي” والنائبة السابقة لرئيس “مجلس الأمن القومي” الإسرائيلي ونُشر في الأسبوع الأول من تشرين الأول الجاري تحت عنوان “حكومة جديدة في لبنان ـ من دون بُشرى” وخلصت فيه إلى أن “الحكومة التي نجح الملياردير نجيب ميقاتي (الذي تقدر مجلة “فوربس” رأسماله بأكثر من ثلاثة مليارات دولار) في إقامتها بعد سنة كاملة من الجمود السياسي وعلى خلفية الأزمة الأكثر حدة التي شهدتها بلاد الأرز لن تستطيع التخفيف من حدة الضائقة الخانقة والمتعددة المجالات والمستويات التي يصارعها المواطنون اللبنانيون، ولذا فليس ثمة في الأفق مخرج لوضعهم التعيس”.

ترى مزراحي أن حكومة نجيب ميقاتي الجديدة لن تفلح في لجم ومنع انهيار الدولة اللبنانية، التي تعيش الأزمة الأخطر في تاريخها، “إلا إذا أحسنت تنفيذ الإصلاحات التي يطالب المجتمع الدولي بها شرطاً لتقديم التبرعات التي يحتاج إليها لبنان، بقيمة مليارات الدولارات”. لكنها تؤكد أن “هذا الاحتمال ضعيف جداً” نظراً لتركيبة هذه الحكومة التي “لا تبشر بالخير” لأنها تشكلت حسب النهج القديم القائم على المفتاح الطائفي، الأمر الذي أفضى إلى تعيين وزراء “تفتقر غالبيتهم الساحقة إلى أية تجربة في المجال الذي أوكلت إليهم معالجته، جرى اختيارهم من جانب رؤساء الأحزاب ويعملون بالنيابة عنهم، ناهيك عن أن حزب الله احتفظ بقوته وقدرته على التأثير على صنع القرارات، رغم أن رئيس الحكومة الجديد لا يتردد، حتى الآن، في توجيه النقد لهذا التنظيم (كما حصل في قضية جلب الوقود من إيران)، لكن المرجح أن يكون من الصعب جداً عليه تضييق مساحة تأثير هذا التنظيم وتقليصه، لا سيما في سياق الصراع مع إسرائيل، تحديداً”!

تخصص مزراحي الجزء الأكبر من تقريرها للحديث التفصيلي عن تشكيلة الحكومة اللبنانية الجديدة وتوزيعة حقائبها الوزارية، خلفياتها وتوازناتها الطائفية ثم أبعادها السياسية، لكنها تجزم بأن هذه الحكومة الجديدة “لن تكون قادرة على إخراج لبنان من أزمته الخانقة التي تفشت في جميع مناحي الحياة”، بعد سنتين من الانهيار المتواصل والسريع، الذي بلغ الوضع الاقتصادي والاجتماعي في أعقابه الحضيض حيث أصبح ما يزيد عن ثلث السكان دون “خط الفقر” يعيشون في أوضاع حياتية لا تطاق حيال النقص المزمن في الكهرباء، الغذاء، الوقود، الأدوية والعلاج الطبي والمواد الاستهلاكية الأساسية، حتى “أصبح لبنان على شفا الإفلاس الاقتصادي التام”، كما تقول.

فيما يخص التأثيرات المحتملة لتشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة على إسرائيل، تذهب مزراحي إلى التشديد على “حقيقة أن هذه الحكومة الجديدة حافظت على قدرة حزب الله ومعسكره على التأثير على عمليات صنع القرار؛ ما يعني أن حزب الله سيكون قادراً، كما يبدو، على مواصلة نشاطه في دفع أجندته حيال إسرائيل دون أي عائق، وخصوصاً مواصلة الصراع ضد إسرائيل وتعزيز العلاقة بين لبنان وإيران والمحور الشيعي، إضافة إلى تشديد الموقف اللبناني في مسألة العلاقات مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية، في حال استئنافها”.

تحديات خطيرة وفرص

يرى التقرير الثاني، الذي أعده الجنرال (احتياط) أودي أفنطال، الباحث في معهد “مِتفيم” (مسارات)، “المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية” وصدر عن هذا المعهد في نهاية أيلول الأخير تحت العنوان المشار إليه آنفاً، أن المهمة المركزية المناطة بالحكومة اللبنانية الجديدة هي “محاولة الشروع في اتخاذ إجراءات من شأنها لجم سيرورة انهيار الدولة، التي تتسارع بوتائر مذهلة”، كما يقول، لكنه يصل هو الآخر إلى الخلاصة ذاتها التي توصل إليها تقرير مزراحي أعلاه: “أمام الحكومة الجديدة في بيروت فرص ضئيلة جداً لانتشال الدولة من البئر التي سقطت فيها”!

يعرض التقرير، بصورة تفصيلية، لخلفيات الأزمة اللبنانية، السياسية والاقتصادية، أسبابها ومراحل تطورها، منذ بداياتها الأولى حتى تفاقمها الخطير بدءاً من قبل سنتين حتى الآن، ثم ينتقل للبحث في “تفكك لبنان والتأثيرات المحتملة لذلك على إسرائيل”، مؤكداً أن لانهيار الدولة اللبنانية في المنظور الإسرائيلي “انعكاسات استراتيجية كثيرة محتملة، سلبية بالأساس”؛ إذ يضع إسرائيل أمام جملة من التحديات الخطيرة “وخاصة على خلفية اندماج التهديد التقليدي الذي يمثله لبنان ـ وهو الأشد والأخطر الذي تواجهه إسرائيل ـ في واقع الدولة الممزقة على الصعيد الداخلي، التي قد تنضم إلى سورية كدولة ضعيفة عند حدودنا الشمالية”.

لكن التقرير ينوه هنا إلى أنه من الناحية الأمنية، بالإمكان الحديث عن بعض الفرص الكبيرة التي يخلقها الوضع المستجد، إلى جانب السلسلة الطويلة من المخاطر، إذ أن حزب الله “سوف يكون مضطراً إلى تركيز جهوده وقدراته على مواجهة التحديات الداخلية، كما سيكون عرضة لضغوط متزايدة من الداخل”، مما قد يؤدي إلى الحد من قدرته على تحدي إسرائيل وكبح رغبته في التدخل لدى حصول احتكاك أو تصعيد بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة أو بين إسرائيل وإيران، ناهيك بالطبع عن الدخول في مواجهة مباشرة وشاملة مع إسرائيل. ويعبر التقرير عن قناعة بأن هذه الضغوط الداخلية سوف تتسع وتشتد، عل الأرجح، بالبناء على أن “كثيرين في لبنان يعتبرون حزب الله: أ ـ أحد المركّبات المركزية في القيادة السياسية والطائفية التي تتشبث بالسلطة وترفض التخلي عن امتيازاتها، بالرغم من تفكك الدولة؛ ب ـ أحد الأسباب الأساسية التي تحرم لبنان من المساعدات الدولية الضرورية، على ضوء قدراته العسكرية الخارجة عن سيطرة الدولة؛ ت ـ أحد الجهات المركزية المتهمة بالمسؤولية عن انفجار حاويات الأمونيا المدمر في مرفأ بيروت؛ ث ـ تنظيماً فاسداً متورطاً في عمليات تهريب الوقود على حساب المواطنين؛ ج ـ الطرف الذي قد يجر الدولة بأسرها إلى حرب مدمرة خدمةً للمصالح الإيرانية”.

في موازاة ذلك كله، بل ورغماً عنه، تزداد احتمالات التصعيد والانفجار العسكريين ـ كما يرى التقرير ـ لأن حزب الله يربط ربطاً وثيقاً بين الضغوط الممارسة ضده وعليه في داخل لبنان وبين سلوكه تجاه إسرائيل. وهو يقيم هذا الربط مدفوعاً بتخوفه من “الدائرة المفرغة” التالية: إسرائيل تستغل وضعه الداخلي في لبنان لضرب مكانته السياسية وقدراته العسكرية. هذا الضرر الذي تسببه له إسرائيل يُفسَّر في لبنان بأنه ضعف لديه يستدعي تكثيف وتشديد الضغوط الداخلية عليه، وهكذا دواليك. استناداً إلى هذا المنطق، اعتبر حزب الله الغارات التي شنتها الطائرات الحربية الإسرائيلية (رداً على القذائف التي أطلقتها تنظيمات فلسطينية) محاولةً لاستغلال ضائقته الداخلية فردّ بإطلاق دفعة من الصواريخ نحو إسرائيل، يوم 6 آب الأخير، بغية تجنب الانزلاق في المنحدر الزلق والعودة إلى “الوضع القائم”.

إلى جانب إمكانية حصول بعض الأخطاء في السلوك أو في الفهم والتفسير والتي من شأنها جرّ إسرائيل وحزب الله إلى صدام عسكري لا يرغب أي منهما فيه، في هذه المرحلة على الأقل، قد يحصل التصعيد في ظروف أخرى ولأسباب أخرى، “منها على سبيل المثال”، كما يشير التقرير، “شعور حزب الله بأنه يُحشَر في الزاوية في الساحة الداخلية، مما قد يدفعه إلى توتير الأوضاع عند الحدود مع إسرائيل في محاولة من جانبه لحرف الأنظار عما يجري في الداخل وتحويله إلى الخارج، أي إلى التوتر مع إسرائيل، فيصدّ بذلك النقد الداخلي ضده، وسط ترسيخ شرعية سلاح المقاومة”.

يشير التقرير إلى أن إسرائيل ستجد صعوبة متزايدة في تحديد العنوان اللبناني السيادي الذي يمكنها إجراء الاتصال والحوار معه في كل ما يتعلق بمسألة الردع، كلما تقدمت الدولة اللبنانية في مسار تفاقم أزمتها الشاملة نحو التفكك والانهيار. وفوق ذلك، يتعين على إسرائيل الأخذ في الحسبان حقيقة أن عامل الردع المتشكل نتيجة ضرب البنى التحتية الأساسية اللبنانية آخذ في التآكل باستمرار، ما يعني أنها ربما تفقد قدرتها على الردع تماماً في حال تفكك الدولة اللبنانية وانهيارها. هذا، بالإضافة إلى أن المجتمع الدولي سوف يبدي، على الأرجح، قدراً أقل بكثير من التسامح مع عمليات عسكرية إسرائيلية تخلف أضراراً تدميرية في البنى التحتية والمنشآت الأساسية في لبنان الآيل للانهيار.

فوق هذا كله، يحذر التقرير من أنه في حال تفكك الدولة اللبنانية وانهيارها، سوف يتعين على إسرائيل الاستعداد لتوافد موجات من اللاجئين والمهاجرين الذين قد يُغرقون حدودها الشمالية، إلى جانب عمليات التهريب الجنائية والعمليات العسكرية “واحتمال إقدام التنظيمات الفلسطينية في لبنان على محاولة استغلال تفكك الدولة وغياب الحضور السلطوي الميداني لتصعيد عملياتها العسكرية ضد إسرائيل، وخاصة إطلاق القذائف على بلدات الشمال”.

ما من شك في أن تفكك أية دولة وتدهور الأوضاع الداخلية فيها نحو الانهيار الشامل يشكل بوابة واسعة وفرصة ذهبية للتدخلات الأجنبية المتعددة الأطراف والأوجه والأشكال. وأول ما يقض مضجع إسرائيل في سياق الأزمة اللبنانية، بالطبع، هو احتمال تكثيف إيران من حضورها وتدخلها في لبنان. وفي هذا، يرجح التقرير “أن تسبق إيران المجتمع الدولي في مجال تقديم المساعدات، بينما لا يزال الأخير يتردد ويحاذر في ذلك طالما أن الدولة اللبنانية لا تنفذ إصلاحات شاملة وجذرية”. وإذا ما نجحت إيران فعلاً في تعزيز حضورها وتكثيف تدخلها في شؤون لبنان الداخلية في موازاة تراخي وتفكك منظومات الرقابة الرسمية، فسيؤدي الأمر إلى توفير بيئة مريحة جداً لحزب الله وسيمنحه حرية فائقة في الحركة والتصرف، بما سيتيح له أساساً مواصلة بناء قوته العسكرية وتعزيزها، بدعم إيراني. معنى هذا أن حزب الله سيواصل، بل ربما يسرّع كثيراً، العمل في مشاريعه العسكرية المختلفة، وسط تركيز خاص على إنتاج الصواريخ القادرة على ضرب إسرائيل وتحقيق إصابات دقيقة، إضافة إلى تحسين وتطوير قدراته في مجال الدفاعات الجوية.

على خلفية المظاهرات الضخمة التي عمّت لبنان في أواخر العام 2019، انتهزت إسرائيل الفرصة للربط بين أية مساعدات دولية للحكومة اللبنانية وضرورة لجم تعاظم حزب الله العسكري. وعلى ضوء ذلك، طالبت إسرائيل كلاً من الولايات المتحدة وفرنسا وغيرهما باشتراط تقديم أية مساعدات مالية للبنان بإخراج الصواريخ الدقيقة التي يمتلكها حزب الله من الأراضي اللبنانية.

يقول التقرير إنه في ظل الظروف المستجدة، يبدو أن هذه السياسة لم تعد تخدم المصلحة الإسرائيلية، إذ أن تأخير المساعدات الدولية للبنان سيفتح الأبواب على مصاريعها أمام إيران وسيخلي لها الساحة اللبنانية تماماً لتعزيز وجودها، تكثيف تدخلها وتعميق دعمها لحزب الله. وعليه، يوصي التقرير بامتناع إسرائيل عن الربط بين الأمرين (المساعدات الدولية للبنان وتعاظم حزب الله العسكري) والاستعاضة عن ذلك بمطالبة الدول العظمى بالمراقبة والتأكد من أن المساعدات “لا تنزلق” إلى حزب الله أو غيره من الهيئات المنضوية تحت كنفه أو رعايته. أما فيما يتعلق بالجيش اللبناني، فإن التقرير يوصي بأن تعترف إسرائيل بدوره كعامل استقرار في لبنان، لكن العمل ـ بموازاة ذلك ـ على الصعيد الدولي لضمان رصد المساعدات الدولية لتغطية تكاليف قواته في مهماتها الداخلية، أي حفظ الأمن الداخلي، الذي يكتسب أهمية قصوى، وليس لامتلاك أسلحة هجومية متطورة “قد تنزلق” إلى الأيدي غير الصحيحة، وخاصة في ظل تفكك الدولة ومؤسساتها. ويوصي التقرير بإطلاق إسرائيل حملة سياسية دولية واسعة النطاق ضد تعاظم قوة حزب الله العسكرية، بما في ذلك المطالبة بفرض عقوبات اقتصادية على قادته السياسيين.

في كفة الفرص، يشير التقرير أخيراً، إلى مسألة الحدود البحرية والمفاوضات الإسرائيلية ـ اللبنانية بشأنها، التي توقفت ولا يبدو في الأفق ما يدل على إمكانية استئنافها قريباً. في هذا الموضوع، يرى التقرير أن الوضع المتفاقم في لبنان يشكل فرصة لاستئناف هذه المفاوضات وإنهائها باتفاق سريع ومُرضٍ بالنسبة لها. فالأزمة الخانقة التي تعصف بالدولة اللبنانية تعمق حاجتها إلى حل بشأن الحدود البحرية مع إسرائيل يمكّن الشركات الدولية من الشروع في استخراج الغاز من آبارها، بما يعود بفائدة اقتصادية كبيرة جداً عليها. وهنا يوصي التقرير بإبقاء الباب مفتوحاً أمام استئناف المفاوضات التمهيدية، التي بدأت في تشرين الأول 2020، في محاولة لإعادة الحكومة اللبنانية الجديدة إلى طاولة المفاوضات.

أخيراً، يوصي التقرير بأن “تعبر إسرائيل عن تعاطفها وتضامنها مع الشعب اللبناني في محنته والاستمرار في عرض المساعدات الإنسانية أو إتاحة نقل مساعدات إقليمية ودولية عبر الحدود المشتركة. وحتى لو قوبلت هذه العروض بالرفض التام من جانب قادة لبنان، إلا أن هذا ما يتعين على دولة ديمقراطية ليبرالية أن تفعله، علاوة على أنها تزكّي إسرائيل بنقاط إيجابية لدى أوساط من الشعب اللبناني وفي الساحة الدولية”!!

* عن مركز مدار – المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلي “مدار”.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى