أقلام وأراء

انطوان شلحت يكتب –  إعلان محكمة لاهاي وإسقاطاته السياسية

انطوان شلحت  8/3/2021

لا شك في أن إعلان المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بصورة رسمية، يوم 3 آذار 2021، أنها ستشرع في إجراء تحقيق لتقصي شبهات بارتكاب إسرائيل جرائم حرب في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، يضع أساساً مهماً أمام جهات عديدة لرؤية السياسة الإسرائيلية حيال الفلسطينيين على نحو أكثر انتقاداً. لذلك فإن إسهامه الأبرز قد يتمثّل في كونه يشكل سنداً لمزيد من فضح هذه السياسة وإدانتها في المحافل السياسية والقانونية الدولية.

وباعتراف حتى جهات إسرائيلية، فإن ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده ليسوا وحدهم الذين يجب أن تُقضّ مضاجعهم من هذا التحقيق، بل يُضاف إليهم رؤساء المستوى الحكومي والسياسي الذين وافقوا على الاستيطان في الضفة الغربية، ووزراء الدفاع الذين انشغلوا كثيراً في توسيع المستوطنات في الضفة، وكذلك رؤساء الحركات الداعمة للمستوطنين.

ربما ثمة حاجة لأن نعيد التنويه بأن انتقال التحقيق في شبهات ارتكاب ضباط وجنود إسرائيليين جرائم محددة يتطرّق إليها إعلان المحكمة الجنائية الدولية، إلى مرحلة تقديم لوائح اتهام ومن ثم مناقشتها وإصدار أحكام فيها أمام هيئة المحكمة، مشروط أساساً بما يقتضيه ما يعرف باسم “مبدأ التكاملية” بشأن اختصاص المحكمة، كما هو وارد في “ميثاق روما” والذي ينص على ما يلي: “لا تتدخل المحكمة الدولية في الحالات التي تقوم فيها الدولة المعنية نفسها بالتحقيق في هذه الحالات بصورة فعالة”. وفي هذا الصدد، كانت المدعية العامة الحالية لهذه المحكمة فاتو بنسودا أعلنت، في كانون الأول 2019، أنها “لا تزال تفحص ما إذا كانت الإجراءات القضائية التي اتخذتها إسرائيل حيال هذه الحوادث كافية وتنفي الحاجة القانونية وفق أحكام القانون الدولي إلى إجراء تحقيق جنائي دولي”. أما فيما يخص الاستيطان فقد أشير، حتى في الكثير من التحليلات الإسرائيلية، إلى أن هذا الشرط لا ينطبق عليه، حيث أن إسرائيل لا تتعامل معه أصلاً باعتباره جريمة حرب، كما أنه من ناحية نظرية صرفة يمكن جمع عناصر عديدة تثبت أنه جريمة حرب من دون الحاجة إلى تحقيقات تفصيلية تستلزم شهوداً ووجوداً في ساحة الجريمة، فضلاً عن وجود كم كبير من المستندات والوثائق التي تتضمن قرارات وسياسات وإحصائيات تعتبر بمثابة إثباتات للجريمة. وهذا ما أكدته كذلك الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة ومحكمة العدل الدولية ذاتها. ولذا سارعت جهات مقربة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو إلى القول إن على الحكومة إعلان أن الإسرائيليين الذين سيتعاونون مع إجراءات لاهاي ستتم مقاضاتهم جنائياً.

بطبيعة الحال ثمة لقرار محكمة لاهاي أبعاد قانونية مهمة، يصعب عليّ التخويض فيها. غير أن أبعاده السياسية لا تبدو أقل أهمية، آخذين في الاعتبار الظروف الراهنة وسياقاتها المختلفة.

ونشير هنا إلى بعض هذه الأبعاد التي ستظل مفتوحة على التطورات اللاحقة:

من شأن الإعلان أن يُكرّس في صلب وعي الأسرة الدولية الصورة الخاصة المرتسمة لإسرائيل منذ فترة طويلة، بصفتها دولة احتلال ترفض إجراء مفاوضات لوضع حدّ له، وتواصل قمع ملايين الفلسطينيين الذين يفتقرون إلى حقوق الإنسان الأساسية. كما أنه يعيد القضية الفلسطينية إلى الأجندة العامة في إسرائيل الغارقة منذ نحو عامين، كما سبق أن أشرنا مراراً وتكراراً، في جولة انتخابات إثر أخرى على خلفية شبهات الفساد الحائمة حول رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وتسببت بإقصاء الموضوعات السياسية جانباً، بقدر ما تسبّب بذلك تلاشي الفروق الجوهرية حيال تلك الموضوعات من طرف مختلف ألوان الطيف السياسي- الحزبيّ، وتداعيات جائحة كورونا. وأول هذه الموضوعات السياسية، التي تم إقصاؤها، هو الاحتلال، غير المطروح على جدول أعمال انتخابات الكنيست الـ24 التي ستجري بعد أسبوعين، كما أشارت صحيفة “هآرتس” مؤخراً في افتتاحية خاصة أكدت فيها أيضاً أنه في واقع الأمر كان الاحتلال في الأعوام الأخيرة خارج الحديث العام، فلا “يتجرأ أحد على التحدث عنه، ولا عن أجيال من الشباب التي يفسدها والأثمان الباهظة التي يحصدها. والجمهور الإسرائيلي في حالة إنكار مطلق إزاءه. لكن هذا لا يعني أن خلاياه الخبيثة لا تواصل انتشارها”!

كما أن هذا الإعلان يتماشى إلى درجة كبيرة مع مقاربة فحواها أنه حان الوقت كي يدرك العالم أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن إزالته عبر توجيه مناشدات مهذّبة إلى المحتلّ فقط، وإنّما أساساً بالعزم والخطوات الدوليّة الحاسمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى