شوؤن دولية

الولاية الرابعة للرئيس بوتين .. دبلوماسية أقل في حرب باردة جديدة؟


بقلم : د. احمد قنديل، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ١٨-٣-٢٠١٨م
يتوجه الروس اليوم، الأحد (18 مارس 2018) إلى مراكز الاقتراع لاختيار رئيسهم، من بين ثمانية مرشحين أبرزهم الرئيس الحالي فلاديمير بوتين. وما لم تحدث مفاجأة كبرى، فسوف يتم إعادة انتخاب الرئيس بوتين للمرة الرابعة، وهو ما يعني أنه سيبقى في الحكم حتى عام 2024، إن لم يكن مدى الحياة، على غرار ما هومتوقع في الصين على خلفية التعديل الدستوري الأخير. ويدعم من هذا التقدير استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقدم كبير في شعبية الرئيس بوتين على كافة منافسيه نتيجة وجود مزاج عام مؤيد له ولنجاحه في استعادة صورة “روسيا العظمى” على الساحة العالمية، وهو ما يبدو أنه يغطي على الأزمة الاقتصادية وقضية الحريات، وتداعيات التوتر مع الغرب.
يتقدم بوتين إلى ولايته الثانية على التوالي، والرابعة منذ أن تربع للمرة الأولى على عرش الكرملين في عام 2000، بشكل يليق بـ”القياصرة” خصوصا أن إنجازاته خلال السنوات الماضية وضعته بين “صانعي الأمجاد”؛ فهو صاحب قرار ضم شبه جزيرة القرم ذات الأهمية الاستراتيجية. كما أنه تمكن من تحدى العالم في أوكرانيا مانعا حلف شمال الأطلنطي من التقدم نحو حدود بلاده، بعدما كانت جارته على بعد خطوة من الانضمام إلى محور “الأعداء”. كما اقتحم البحر المتوسط عبر البوابة السورية، مغيرا معادلات المنطقة والعالم، وتربعت أساطيله في المياه الدافئة، معيدا إلى الروس حلمهم القديم. وبالتالي، أصبح كثير من الروس ينظرون إليه باعتباره الزعيم المجسِّد للقوة الوطنية والدولية الروسية.
وفي ضوء ذلك، من المتوقع أن يمد الرئيس بوتين، خلال فترة ولايته الرابعة، وجوده إلى الخارج من أجل تحقيق المصالح القومية الروسية، خاصة أنه استطاع إقامة قاعدة جوية في حميميم، وقاعدة بحرية في طرطوس السوريتين، مما يعني قدرته على فتح جبهة مواجهة دائمة ومفتوحة يحارب بها في أوكرانيا، ويواجه بها الانتشار العسكري للناتو على حدود روسيا، ويساوم بها أوروبا والولايات المتحدة في ملف العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا. بوتين، الرجل العسكري الاستخباراتي الذي عمل في جمهورية ألمانيا الشرقية في الحقبة الشيوعية، يدرك قواعد المواجهة مع الغرب عن قرب. كما أن قيادة روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي علّمته مناورة الصراع مع منافسيه في العواصم الغربية عن بُعد.


تفاقم التوتر مع الغرب
إعادة انتخاب الرئيس بوتين لسنوات ست جديدة، على الأقل، تأتي في ظل سلسلة من المواجهات الدبلوماسية الساخنة بين موسكو وعدد من العواصم الغربية المهمة، مما أدى إلى وصول الخلاف بين روسيا والغرب إلى “أسوأ مستوى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”، الأمر الذي ينذر بنشوب “حرب باردة جديدة” خلال الولاية الرئاسية الرابعة لبوتين، على حد وصف عدد من المراقبين. فقدأعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا فرض عقوبات على أبرز أجهزة الاستخبارات الروسية، بينهم جهاز الأمن الفيدرالي، وجهاز الاستخبارات العسكرية، وشخصيات متهمة بمحاولة التأثير على نتيجة الانتخابات الرئاسية عام 2016 والضلوع في هجومين معلوماتيين منفصلين. وكانت العلاقات بين موسكو وواشنطن قد ازدادت تأزما في عهد الرئيس الأمريكي ترامب، بعدما أغلقت الولايات المتحدة القنصلية العامة الروسية في سان فرانسيسكو، ومباني الممثلية التجارية الروسية في نيويورك وواشنطن، ردا على تقليص عدد الموظفين في البعثة الدبلوماسية الأمريكية لدى روسيا، الذي جاء بدوره رداً على مصادرة الولايات المتحدة بعض المباني الدبلوماسية الروسية على أراضيها. كما أعلنت واشنطن في 7 فبراير 2018 أنها قتلت في سوريا ما لا يقل عن 100 مقاتل مؤيد لنظام دمشق بينهم العديد من المرتزقة الروس. ورأى البعض في هذا الحادث مواجهة مباشرة ونادرة بين القوات الروسية والأمريكية. ومن جهة أخرى، أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي طرد 23 دبلوماسيا روسيا على خلفية محاولة مفترضة لقتل الجاسوس الروسي السابق سيرجي سكريبال، العميل المزدوج الذي عمل لحساب البريطانيين، بغاز أعصاب في غرب لندن. كما ألمحت لندن إلى عمل أجهزة الاستخبارات الداخلية البريطانية على تفكيك شبكات تجسس روسية تعمل في بريطانيا، وإمكانية تجميد أصول روسية، إذا وجدت أدلة على أنها قد تستخدم لتهديد حياة أو ممتلكات المواطنين أو المقيمين في المملكة المتحدة. ومن المنتظر أن تقاطع الأسرة الملكية والوزراء البريطانيون كأس العالم لكرة القدم في روسيا، المقررة في وقت لاحق من هذا العام، إلى جانب تعليق جميع الاتصالات الثنائية عالية المستوى بين المملكة المتحدة وروسيا. وردا على العقوبات البريطانية الأخيرة، قررت موسكو طرد 23 دبلوماسيا بريطانيا وإغلاق المركزالثقافي البريطاني في البلاد.
وازدادت حدة التوتر بين موسكو والغرب في مطلع شهر مارس الحالي (2018)، عندما أشاد بوتين بالأسلحة الاستراتيجية الروسية الجديدة في خطاب له أمام البرلمان، والذي كان من أكثر خطاباته عدائية تجاه الغرب خلال السنوات الـ18 من حكمه، حيث أشار إلى أنه إذا تعرضت روسيا أو أحد حلفائها لهجوم نووي “سيكون الرد فوريا” مؤكدا على وجود أسلحة روسية جديدة “لا تُهزم”، في مقدمتها الصاروخ الباليستي العابر للقارات المعروف باسم “سارمات” (ساتان، بحسب مصطلحات حلف شمال الأطلنطي – ناتو)، والذي اعتبرته وسائل إعلام متعددة وسيلة رادعة تمنع الولايات المتحدة من توجيه ضربة استباقية ضد روسيا، لأن القدرات العملياتية لهذا الصاروخ تتيح له القيام برد خارق متجاوزا الدرع الصاروخي الأمريكي. كما نجحت روسيا، تحت قيادة بوتين، أيضا في تطوير غواصات نووية بلا طواقم، وهي قادرة على ضرب قواعد العدو البحرية وسواحله وحاملات طائراته، وهي سلاح بالغ التهديد لما تمتلكه من قدرات عملياتية وما تمثله من خطورة على أمن الولايات المتحدة. وبذلك، تبدو موسكو قادرة على الحفاظ على أمن روسيا وسيادتها لعقود قادمة من الأخطار والتهديدات المحتملة من جانب الغرب، وفقا لوزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو.
ويرى كثير من المراقبين أن المواجهة مع الغرب تصب على الأرجح في زيادة شعبية الرئيس بوتين في ظل المصاعب الاقتصادية المتزايدة في روسيا بسبب العقوبات الغربية التي استهدفت روسيا، مما أدى إلى اندلاع أزمة اقتصادية، هي الأسوأ للروس منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث هبط سعر العملة الروسية الروبل بشكل حاد أمام الدولار واليورو. في هذا السياق، تشكل صورة روسيا المحاصرة والمستهدفة من الغرب عاملا يبعث على توحيد الروس من حول الرئيس بوتين، رغم تراجع المستوى المعيشي خلال ولايته الأخيرة.
في هذا السياق، من المرجح أن تكون سياسات بوتين تجاه العالم الخارجي، خاصة الغرب، خلال فترة رئاسته الرابعة “أقل دبلوماسية وأكثر تصادمية”. ففي أثناء حملته الانتخابية الأخيرة، وعد بوتين أنصاره بـ”قرن من الانتصارات”. كما تحدث عن “روسيا القوية المجيدة”، وعن “بناء الدولة العظمى الساطعة”، وعن “قوة عسكرية خارقة تتحدى الغرب وتدافع عن البلاد”. إلا أن هذه الوعود، وما قد يترتب عليها من الدخول في “حرب باردة جديدة” مع الغرب، لاقت ردود فعل متباينة بشدة داخل روسيا، بين موالين أشادوا بها واعتبروها تمهد لانتصارات متتالية ستفرضها روسيا العائدة بقوة إلى المسرح الدولي، ومعارضين رأوا فيها مقدمات لتقوقع روسيا على نفسها، وبدء مرحلة قاسية من العزلة الدولية، وبناء سياج حديدي جديد حولها. ومما يزيد من مخاوف المعارضين إنفاق روسيا حاليا حوالي ثلث ميزانيتها على الدفاع، حيث قرر الرئيس بوتين في نوفمبر 2017، تخصيص مبلغ 324 مليار دولار لبرنامج تسليح حكومي للفترة (2018- 2027)، مشيراً إلى أن “قدرة الاقتصاد على زيادة حجم المنتجات والخدمات الدفاعية بسرعة وفي الوقت المناسب، هي إحدى أهم الشروط اللازمة لضمان الأمن العسكري للدولة”.
دور روسي أكبر في الشرق الأوسط
في ظل الولاية الجديدة لبوتين، سيبقى الشرق الأوسط على الأرجح مسرحا للتنافس مع الغرب ولتوسيع النفوذ الروسي. ففي الشأن السوري، من المتوقع أن يحافظ الرئيس بوتين على التواجد العسكري والاقتصادي الروسي. كما ستضطلع روسيا باستثمارات كبيرة في البنية التحتية للطاقة والموارد الطبيعية في سوريا. ففي ظل غياب أي بدائل أخرى، ستبقى موسكو في الموقع المناسب للتحكم بوجهة مسار الإعمار في سوريا حتى إذا افتقرت إلى الموارد المالية اللازمة لذلك. وفي الوقت ذاته، ستميل روسيا إلى إضفاء الطابع المؤسسي على آلية التشاور بين سوريا من جهة وتركيا وإيران، من جهة أخرى.
أما فيما يخص شراكة موسكو مع طهران، فلن تشهد ولاية بوتين الرابعة أي بوادر على تراجعها في المدى القريب. بل ستتجه الدولتان على الأرجح إلى توسيع التعاون، خاصة في المجال الاقتصادي. وتفيد التقارير أن شركات النفط الروسية تناقش حاليا العقود التي تتيح لها العمل في حقول النفط الإيرانية. ويبقى أن نرى ما إذا كان التعاون الاقتصادي الثنائي الأوسع نطاقا سينمو حقا، ولكن التعاون السياسي يبقى ذا أهمية في حد ذاته.
من جهة أخرى، سوف تتعاظم المكانة العسكرية الروسية في منطقة الشرق الأوسط إلى ما يتخطى حدود سوريا وإيران، لا سيما في مجال الدفاع الجوي. فاستعراض القوة وصفقات بيع الأسلحة سيبقيان أمران مهمان لموسكو بعد الانتخابات الرئاسية، باعتبارهما مصدرا ربح مادي ووسيلة للتأثير.
بالإضافة إلى ذلك، سيعمل “القيصر” بوتين على الوصول إلى المرافئ الإقليمية المهمة في هذه المنطقة. فبناء موانئ جديدة أمر مكلف، لكن بوسع موسكو ضمان حقوق الإرساء [لسفنها] في مناطق مثل ليبيا لتجنب مثل هذه التكاليف. وقد يتدخل بوتين أيضا في ليبيا كصاحب نفوذ فيكسب بذلك الاهتمام الدولي الذي يتوق إليه عبر التوسط بين “الجيش الوطني الليبي” الخاضع لإمرة المشير خليفة حفتر في الشرق و”حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها دوليا في طرابلس.
الأمر الآخر الجدير بالانتباه هو إمكانية سعي موسكو، تحت قيادة الرئيس بوتين، إلى زيادة نفوذها في الخليج العربي والتدخل لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. صحيح أن هذه المساعي وغيرها من الخطط الإقليمية الروسية قد لا تؤول إلى نجاح، ولكن في غياب استراتيجية غربية متماسكة تجاه روسيا أو إعادة إحياء القيادة الأمريكية في المنطقة، فلن يوجد ما يحد من جهود بوتين في مساعيه الرامية لتوسيع النفوذ في المنطقة في إطار حربه الباردة الجديدة مع الغرب.
على أية حال، ورغم تعمد الرئيس بوتين إبقاء الأمور غامضة حول قراراته التي ستلي الانتخابات الرئاسية الحالية على الصعيد الداخلي، فإن تكهنات بدأت تنتشر حول احتمال عدم تمديد الثقة لرئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف، وإجراء تغييرات واسعة في مؤسستي الخارجية والدفاع، وهما المؤسستان اللتان شكلتا العماد الرئيسي لسياساته خلال السنوات الأخيرة.ومهما كانت الخطوات التي سيتخذها بوتين في بداية ولايته الجديدة، فهي ستحمل، كما يشير مقربون من الكرملين، تأثيرات مهمة على كل الملفات الساخنة التي تلعب فيها روسيا أدورا مهمة على الصعيدين الداخلي والخارجي، مما يعني أن سياسة الكرملين ورغم أنها ستحافظ على استقرار وثبات في ملامحها العامة، ستشهد تغييرات تكتيكية كبرى في أكثر من ملف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى