الولايات المتحدة أصبحت جزءاً من “العالم القديم “
يبدو أن أوباما الذي طرح نفسه سابقا كمرشح مناهض للعنصرية يقسم البلد اليوم وفق معطيات عنصرية بشكل غير مسبوق منذ نصف قرن، فانقلب بذلك على النزعة التقدمية التي ترسي تكاملاً اجتماعياً حقيقياً وتتجاوز الاعتبارات العرقية في الحياة السياسية الأميركية.
كتب الخبر Janet Daley – الجريدة – 15/11/2012
حصلت أوروبا على الرئيس الأميركي الذي تريده: إنه الرئيس الذي لا يشكل أي تهديد على أوهامها الخاصة. أصبحت الولايات المتحدة رسمياً واحدة منّا الآن: إنها دولة من “العالم القديم” حيث اكتملت مظاهر الكره بين الطبقات، وسادت ظاهرة “البلقنة” الإثنية، وانتشرت مشاعر الذنب البرجوازية، ونشأت نخبة حاكمة مبنية على مبدأ الرعاية المفرطة للشعب.
على صعيد آخر، يبدو أن هذا البلد عالق أيضاً في دوامة الموت نفسها التي يواجهها الأوروبيون نتيجة ارتفاع الإنفاق العام وتطبيق سياسة انهزامية لإعادة توزيع الثروات. أهلاً بكم في عالم المستقبل وبداية ما قد يتحول إلى تراجع نهائي لنفوذ الغرب.
لقد اتضح السبب الذي يسهّل إطلاق أحكام خاطئة حول أهمية حملة أوباما الضعيفة ظاهرياً (تعددت المؤشرات التي كشفت عن مسار الانتخابات مثل تراجع أعداد الحشود بشكل لافت في المناسبات التي نظّمها الرئيس، والأداء الباهت والمتوتر الذي قدمه خلال المناظرات، وفشله في طرح أي خطة محورية لولايته الثانية). ربما جذب ميت رومني حشوداً أوسع وأكثر حماساً خلال خطاباته الأخيرة، لكن لم تكن تلك المنافسة في نهاية المطاف تتمحور حول الخطابات أو الحجج المطروحة، لم يأخذ عدد كبير من الأشخاص الذين أرادوا التصويت للرئيس الراهن عناء الحضور لرؤية مرشحهم أثناء جولاته في أنحاء البلد لأنهم لم يتأثروا بهذه الحملة: لطالما كان ولاؤهم الانتخابي معروفاً. لا علاقة للأمر بالأفكار السياسية بل بالهوية: من هو المرشح وما الذي يمثله على المستوى الشخصي (الانتماء العرقي والطبقة الاجتماعية والتحلي بالشخصية التي يعتبرها الناس ضرورية للوصول إلى السلطة)؟
لكن كان التطور المؤسف الذي شهدته هذه الحملة ضمنياً، يبدو أن أوباما الذي طرح نفسه في عام 2008 كمرشح مناهض للعنصرية يقسم البلد اليوم وفق المعطيات العنصرية بشكل غير مسبوق منذ نصف قرن، فانقلب بذلك على النزعة التقدمية التي تمهد لإرساء تكامل اجتماعي حقيقي ولتجاوز الاعتبارات العرقية في الحياة السياسية الأميركية.
صوّت 93% من الناخبين السود لأوباما في هذه الانتخابات، وقد صوّت له أيضاً 71% من اللاتينيين و73% من الآسيويين، لكن بينما اختارت الجماعات الإثنية تصنيف نفسها انتخابياً وتجاهل مصالحها الاقتصادية أو الاجتماعية، لم يقم البيض بالمثل، فقد صوّت 59% منهم فقط لرومني: هذه الأغلبية ليست ساحقة بأي شكل. نجمت تلك النتيجة عن صراع الطبقات: كانت الطبقة العاملة تعتبر رومني رجلاً رأسمالياً جشعاً قد يدمر معيشة الناس إذا فرضت عليه الميزانية العامة ذلك.
لكن كانت هذه الخيارات نتيجة مؤسفة لأداء هذا المرشح بالذات، فحصل تطور تاريخي دائم يبدو أكثر أهمية على الأرجح، وكسبت الولايات المتحدة اليوم طبقة برجوازية ليبرالية نافذة في الاستحقاقات الانتخابية وهي مقتنعة، مثل نظيرتها الأوروبية منذ أجيال عدة، بأن الإنفاق العام إيجابي وأن الفقر قابل للمعالجة من خلال منع اكتساب الثروات وأن التدخل الحكومي قد يرسخ “عدالة” اجتماعية، وذلك رغم توافر الأدلة التي تثبت عكس ذلك، لكن في اللحظة التي بدأت فيها بعض فئات الطبقة السياسية الأوروبية تقدّر حجم المخاطر التي ترافق هذه النظرية (من الناحية المنطقية، تؤدي هذه المقاربة إلى جمود اقتصادي وانقسام اجتماعي)، يبدو أن الولايات المتحدة قررت جعل هذه المقاربة جوهر سياستها الجديدة.
إنه النموذج الذي يحاول البريطانيون تجنبه والذي أعاق مسار الاتحاد الأوروبي (إنها رؤية غوردون براون التي أصبحت المقاربة الفاعلة الوحيدة لضمان “العدالة الاجتماعية”)، لكن يُفترض أن تتعارض هذه الرؤية مع جميع القيم الأميركية التقليدية المرتبطة بالاتكال على الذات والطموح الشخصي، كيف تتماشى مشاعر البغض التي رسختها حملة أوباما تجاه الأثرياء مع الحلم الأميركي القديم الذي يعتبر الولايات المتحدة مكاناً يضمن الثراء لأي شخص موهوب يعمل بجهد (حتى لو كان ذلك الشخص مهاجراً مفلساً حين وصل إلى البلد)؟ لا شك أن اعتبار “الأثرياء” طبقة بعيدة عن عامة الشعب ولا تستحق امتيازاتها هو جزء من مفهوم “العالم القديم” عن الثروات الموروثة في الطبقات الأرستقراطية المترسخة. نجمت معظم الثروات المكتسبة تقليدياً في الولايات المتحدة عن الجهد الذاتي.
لكن تغيّر أمر معين الآن. بدأت أخلاقيات العمل التي حكمت طفولتي تتلاشى، فحين كنتُ أرتاد الجامعة في الولايات المتحدة خلال حقبة الستينيات، كان أهالي بعض أصدقائي أثرياء، لكن كان الأولاد مضطرين دوماً لكسب مصروفهم. بعد التخرج، وحتى خلال عطلات الصيف، كان يجب أن يفتشوا عن عمل، وقد يعملون في نهاية المطاف ضمن شركة العائلة، لكن حتى في هذه الحالة كانوا يبدؤون من الصفر وصولاً إلى المراتب العليا. صدمتُ فعلاً حين اكتشفتُ أن الولايات المتحدة اليوم تضم جيلاً “اتكالياً”: يعتمد الأولاد على المدخرات التي يوفرها لهم أهلهم منذ الطفولة أو ما نسميه “المداخيل الخاصة”.
لم يعد الأهالي الأثرياء يطالبون أولادهم بشق طريقهم بأنفسهم، بل ظهرت فئة من الراشدين الذين يمتنعون عن العمل لكسب معيشتهم اليوم في الولايات المتحدة: ما كان أحد ليتصور هذا الوضع يوماً. من أسوأ الوقائع التي كُشفت عن جون كينيدي حين ترشح للرئاسة أنّ والده منحه مليون دولار كي يخصص كامل وقته للترشح لمنصب سياسي: اعتُبر ذلك السلوك مشيناً.
تترافق الثروات غير المستحقة مع شعور بالذنب يولّد بدوره سياسة الرعاية الأبوية، ما يعكس الاضطرار إلى انتخاب حكومة تكون مسؤولة عن جميع الأشخاص الذين يواجهون حالات صعبة (ولا يقتصر الأمر على منحهم الفرص كي يحسنوا وضعهم وفق الطريقة الأميركية التقليدية). يريد الناخبون الأميركيون فرص عمل جديدة حتى الآن (يستقطب جوهر حملة رومني نصف الشعب اليوم)، لكنهم أصبحوا أقل اقتناعاً بأن العمل هو السبيل الوحيد للخلاص. إنه أمر مؤسف بالفعل لأنه السبيل الدائم والأفضل للتخلص من الفقر. لطالما شملت الولايات المتحدة شريحة من الفقراء، لكن حتى الفترة الأخيرة (حين ولّد الاتكال على الرعاية الاجتماعية طبقة دنيا دائمة)، لم يبقَ الفقراء أنفسهم ضمن هذه الطبقة الدنيا من عقد إلى آخر. كان الهدف الأساسي يتعلق بإحراز التقدم والتخلص من المصاعب كما فعلت موجات متتالية من القادمين الجدد إلى البلد.
خلال الأيام البسيطة الغابرة، اكتشفت الولايات المتحدة الصيغة التي تضمن استمرارية اجتماعية عجيبة والقدرة الخارقة على تحويل الناس الذين بدؤوا من الصفر إلى مواطنين فخورين يقررون مصيرهم بأنفسهم.
كان البلد يقول لكل قادم جديد: “الولايات المتحدة موجودة فقط لمنحكم فرصة شق طريقكم، لذا ستعطيكم الحرية تحت حكم القانون وحق عيش الحياة واكتساب الأملاك الخاصة وشراء السعادة”. هكذا كانت الصفقة!
ربما لا مفر من أن يفقد البلد تلك الثقة العالية بالنفس وأن يتحول إلى مجتمع متصدع آخر، فينسحب من الساحة العالمية تزامناً مع ظهور قوى عالمية جديدة في الأفق، لكن بعد أربع سنوات إضافية، قد يعيد البلد اكتشاف جوهره الأصلي.