النفوذ الأميركي يتراجع… والسياسة الخارجية تبدو بالية!
مركز الناطور للدراسات والابحاث
تواجه الولايات المتحدة مسائل ملحة كثيرة في المستقبل القريب، لكن لم يُخصَّص لها الوقت الكافي خلال مناظرة الاثنين الماضي بين الرئيس باراك أوباما ومنافسه ميت رومني، فقد بدا وكأن المرشحين عالقان في رؤية بوش العالمية وقد كشفا عن تراجع النفوذ الأميركي في العالم.
يعرف إيد لوشي، الصحافي الذكي في صحيفة “فاينانشل تايمز”، جميع المعلومات اللازمة عن تراجع القوى العالمية استناداً إلى تاريخ بلده. لوشي هو بريطاني يحب الولايات المتحدة وقد سعى إلى تقديم أفضل النصائح لها في الفترة الأخيرة عبر إصدار كتاب بعنوان “حان وقت التفكير” (Time to Start Thinking). يتألف الكتاب من 320 صفحة، وهو يدعو الولايات المتحدة كي تواجه أخيراً التحديات الاستراتيجية المستقبلية في ظل تغير النظام العالمي بوتيرة متسارعة (كي لا يتحول تراجع النفوذ الأميركي إلى سيناريو رعب).
بعد المناظرة التي دامت 90 دقيقة وتمحورت حول السياسة الخارجية عشية يوم الاثنين بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ومنافسه الجمهوري ميت رومني، بقيت أسئلة كثيرة من دون أجوبة، لكن اتضحت مسألة واحدة فقط: لم يقرأ أوباما ولا رومني كتاب لوشي!
يبدو أن المنافسَين على أهم منصب في العالم لم يخصصا وقتاً طويلاً للتفكير، كما أنهما فشلا في معالجة التحديات الجديدة التي تواجهها القوة العالمية الأميركية المتخبطة، مثل التغيير المناخي الذي لم يذكره أحد خلال المناظرات الرئاسية للمرة الأولى منذ عام 1984. تبرز أيضاً مشاكل تنامي نفوذ آسيا أو حتى غياب الاستثمارات المحلية في البنى التحتية وقطاع التعليم.
لكن أبرز مسألة امتنعا عن مناقشتها خلال المناظرة في بوكا راتون هي كيفية معالجة معضلة السياسة الخارجية التي يواجهها البلد: لم يعد الأميركيون يريدون أن يبقى بلدهم “شرطة العالم”، لكنهم يريدون الحفاظ على “الاستثنائية الأميركية”.
عالقان في عالم بوش
كان المشاهدون أمام ظاهرة سبق أن توقّعها لوشي: تبادل رومني وأوباما بكل حذر عبارات تقليدية ومحضّرة مسبقاً وكأنهما عالقان في نظام عالمي أنشأه لهما الرئيس الأسبق جورج بوش الابن.
تحدث الخصمان عن ليبيا وسورية وأفغانستان والعراق والشرق الأوسط عموماً. وقد خاضا طبعاً النقاش السخيف المتعلق بمن زار إسرائيل أو القوات الأميركية في الخارج في مرحلة أبكر.
إذا أراد أوباما ترك تلك المسائل الغابرة وراءه والتفرغ للتحديات الجديدة في أماكن أخرى، ولا سيما في آسيا، فيبدو أن رغبته انهارت في الأسابيع الأخيرة. منذ مقتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز خلال هجوم إرهابي مشبوه في بنغازي، شن رومني حملة هجومية واعتبر أن نتائج سياسة أوباما الخارجية فاشلة حتى لو كانت السياسة صحيحة في المبدأ. من وجهة نظر رومني، يتضح ذلك لأن شبكة “القاعدة” الإرهابية لم تضعف بأي شكل ولا تزال خطيرة.
يبدو أن مقتل ستيفنز خلال السنة الانتخابية 2012 كان كافياً لنسيان مقتل أسامة بن لادن وكبار الإرهابيين الآخرين من “القاعدة” وشبكات أخرى. كان ذلك الأمر كافياً كي تتمسك الولايات المتحدة بالحرب على الإرهاب وكي تنشغل بشؤون الشرق الأوسط.
لكن يشير تركيز المرشحين على تلك المسائل إلى أن أوباما ورومني لا يهتمان فعلياً بالعالم الإسلامي، فعلى الرغم من انفتاح الرئيس على المسلمين في بدايه عهده، فإنه لم يبذل الكثير لاحقاً لضمان إحراز ذلك التقدم الموعود. يبدو أن برنامج إيران النووي هو الموضوع الإقليمي الوحيد الذي يحتل الأهمية الكبرى بالنسبة إليه. في المقابل، يبدو أن خطة رومني في تلك المنطقة تقتصر على تقديم دعم كامل وغير مشروط لإسرائيل، فيريد المرشحان متابعة استعمال الطائرات بلا طيار من دون أي رادع.
سياسات من الثمانينيات
لكنّ أهم ما في الأمر هو أن أوباما اليساري ورومني اليميني يركزان على كسب تأييد الرأي العام الذي تعب من الحرب ويُجمع على ضرورة إعادة بناء الوطن الأميركي بدل بناء الأوطان في الخارج. إنه موقف مبرر في بلد يواجه أزمة، لكن هذه الأزمة تطاول وطناً عظيماً.
خلال مناظرة يوم الإثنين، مرت 80 دقيقة قبل أن يذكر أوباما، أثناء النقاش حول تنامي نفوذ الصين في العالم، أن الولايات المتحدة يجب أن تستثمر المزيد في مستقبلها أيضاً بدل أن تبقى عالقة في مستنقع الشرق الأوسط حيث ترتفع التكاليف.
لكن في تلك المرحلة المتأخرة من المناظرة، لا شك أن المشاهدين ما كانوا ينتبهون لما يُقال، إنه جزء من المعضلة الأميركية الراهنة. أصبحت وسائل الإعلام الأميركية التي تركز على موقع تويتر وتقلبات الحملة الانتخابية الطويلة تضجر بسرعة من تحليلات الوضع العام. ينطبق الأمر نفسه على المشاهدين أيضاً. كتب محلل الشؤون الخارجية بيتر بينارت على موقع تويتر خلال المناظرة: “إذا لم يضجر الأميركيون من السياسة الخارجية قبل هذه المناظرة، فهم سيضجرون منها بعد المناظرة حتماً”.
يدرك مستشارو رومني حقيقة المزاج العام في البلاد وقد أوصوا مرشحهم بتجنب المقاربة الهجومية وخوض النقاشات المفصّلة. الأهم من ذلك بحسب رأيهم هو أن يبدو المرشح سلمياً وبسيطاً. لقد بذل رومني قصارى جهده لتنفيذ تلك التوصيات. بدل تكرار عبارته الشهيرة التي تعتبر روسيا “أول خصم جيوسياسي”، ابتسم رومني بكل بساطة حين اتهمه أوباما بـ”استيراد السياسات الخارجية الخاصة بحقبة الثمانينيات”.
أراد الرئيس استعمال تلك العبارة لتوجيه اتهام ساخر، وربما ساهمت تلك المقاربة في تفوقه على خصمه في مناظرة يوم الاثنين من وجهة نظر المشاهدين، لكن يعكس ذلك الكلام سياسة بالية. بعد المناظرة التي دامت 90 دقيقة في بوكا راتون، بدت السياسة الخارجية الأميركية التي سادت خلال الثمانينيات عصرية وعالمية مقارنةً بما تقدم في تلك الأمسية.
كتب: Gregor Peter Schmitz – Spiegel
قسم الترجمة – الجريدة – 29/10/2012