ترجمات أجنبية

النار والغضب : داخل بيت ترامب الأبيض" الحلقة الثالثة .. برج ترامب

تأليف: مايكل وولف *
يوم السبت الذي أعقب الانتخاب، استقبل دونالد ترامب مجموعة صغيرة من المهنئين في شقته المكونة من ثلاثة طوابق في “برج ترامب”. وكان حتى أصدقاؤه المقربون مصدومين ومرتبكين، وخيم على الحضور نوع من الذهول. لكن ترامب نفسه كان ينظر معظم الوقت في ساعة الحائط.
روبرت مردوخ، الذي كان حتى ذلك الحين متأكداً بلا أدنى شك من أن ترامب دجال مشعوذ وأحمق، قال إنه هو وزوجته الجديدة، جيري هول، سيقومان بزيارة للرئيس المنتخب. لكن مردوخ كان متأخراً -متأخراً جداً. وواصل ترامب التأكيد لضيوفه أن روبرت في الطريق، وسوف يصل قريباً. وعندما تحرك بعض الضيوف للمغادرة، رجاهم ترامب أن يبقوا فترة أطول قليلاً. “سوف ترغبون في البقاء لرؤية روبرت”. (أو، كما أوَّل أحد الضيوف: سوف ترغبون في البقاء لتروا ترامب مع روبرت).
كان مردوخ، الذي تواصل في السابق، مع زوجته آنذاك، ويندي، مع جاريد وإيفانكا في كثير من الأحيان، قد بذل القليل من الجهد في السابق لإخفاء عدم اهتمامه بترامب. وخلق غرام مردوخ بكوشنر شيئاً لافتاً في دينامية السلطة بين ترامب وزوج ابنته -دينامية استغلها كوشنر، بدهاء مبرر، لصالحه؛ حيث كان يلقي في كثير من الأحيان باسم مردوخ عرَضاً في حواراته مع والد زوجته. وعندما قالت إيفانكا ترامب لمردوخ في العام 2015 إن والدها سيترشح حقاً لمنصب الرئيس، استبعد مردوخ الإمكانية على الفور.
أما الآن، فكان الرئيس المنتخب الجديد -بعد الحدث الأكثر إقلاقاً وإدهاشاً في التاريخ الأميركي- ينتظر مردوخ على أحر من الجمر. “إنه واحد من العظماء”، قال لضيوفه وقد أصبح أكثر قلقاً بينما ينتظر. “حقاً، إنه واحد من العظماء، آخر العظماء. يجب أن تنتظروا لتروه”.
كانت تلك مجموعة متطابقة من الانقلابات الغريبة -تطابق ينطوي على مصادرة. كان ترامب، الذي ربما لم يدرك بعد الفارق بين كونه قد أصبح رئيساً وبين ارتفاع مكانته الاجتماعية، يحاول بكل الطاقة أن يماهي نفسه مع قطب الإعلام المترفع عنه والمزدري له سابقاً. ومردوخ، الذي وصل أخيراً إلى الحفلة التي كان متأخراً جداً عنها بأكثر من طريقة، كان مصدوماً ومأخوذاً مثل كل أحد آخر، وكان يناضل لتعديل نظرته حول رجل كان في نظره لأكثر من جيل أمير المهرجين والحمقى بين الأغنياء والمشاهير في أحسن الأحوال.
* * *
كان مردوخ بالكاد الملياردير الوحيد الذي يزدري ترامب. في السنوات التي سبقت الانتخاب، كان كارل إيكان، الذي كثيراً ما استشهد ترامب بصداقته، والذي اقترح ترامب أنه سيقوم بتعيينه في منصب رفيع، قد سخر علناً من زميله الملياردير (الذي قال عنه إنه ليس مليارديراً حتى من بعيد).
قلة من الناس الذين عرفوا ترامب كانت لديهم أي أوهام عنه. وكان هذا سر جاذبيته تقريباً: أنه ما هو عليه؛ بذلك التعبير السعيد على وجهه وكأنه يعرف سراً، وبذلك الانخطاف في روحه.
لكنه أصبح الآن الرئيس المنتخب. وقد غيَّر ذلك، بالمعنى الواقعي، كل شيء. وهكذا، مهما يكن ما تقوله عنه، فإنه فعلها. لقد سحب السيف من الصخرة. وقد عنى ذلك شيئاً. كل شيء.
كان على الملياردير أن يعيد التفكير. وكذلك فعل كل شخص في مدار ترامب. فريق الحملة، الذين أصبحوا الآن فجأة في وضع مثالي لتخاطف الوظائف في “الجناح الغربي” -وظائف من النوع الذي يصنع مهنة حياة ويصنع التاريخ- أصبح عليهم أن يروا هذا الشخص الغريب، الصعب، بل السخيف على السطح، وسيئ التأهيل، في ضوء جديد. لقد انتُخب رئيساً، وبذلك كان -كما أحبت كيليان كونوي أن تشير- بالتعريف، رئاسياً.
مع ذلك، لم يكن أحد قد رآه رئاسياً بعد -بمعنى الانحناء على الملأ أمام الطقوسية والامتلاك السياسي فيه -أو حتى ممارسة نوع من الضبط المعتدل للذات.
وثمة آخرون أصبحوا الآن مجنَّدين في الفريق، ووافقوا على الانخراط على الرغم من انطباعاتهم الواضحة عن الرجل. جيم ماتيس؛ الجنرال المتقاعد ذي الأربع نجوم، وواحد من القادة الأكثر احتراماً في القوات المسلحة الأميركية؛ ريكس تيلرسون، الرئيس التنفيذي لشركة “إكسون موبيل”؛ سكوت برويت وبيتسي ديفوس، المواليين لجيب بوش -أصبحوا كلهم يركزون الآن على الحقيقة المفردة: أنه في حين قد يكون ترامب شخصية غريبة، بل وحتى سخيفة ومنافية للعقل، فإنه انتُخب رئيساً.
نستطيع أن نجعل هذا يعمل، هي العبارة التي أصبح الجميع في مدار ترامب يرددونها فجأة. أو، على الأقل، ربما يمكن لهذا أن يعمل.
في الحقيقة، ليس ترامب في نهاية المطاف ذلك الرجل كثير الضجيج وعاشق الملاكمة الذي أثار الجماهير المسعورة في الحملة الانتخابية. إنه ليس غاضباً ولا مقاتلاً. صحيح أنه ربما يكون أكثر المرشحين للرئاسة تهديداً وإخافة ورعباً في التاريخ الحديث، لكنه يمكن أن يكون، بشخصه، مهدئاً ومريحاً تقريباً. لقد زال عنه رضاه المتطرف عن الذات. الحياة مشمسة. وترامب رجل متفائل -إزاء نفسه على الأقل. إنه ساحر ومحتشدٌ بالإطراء؛ إنه يركز عليك. إنه شخص مُسلٍّ، بل ومنتقد لذاته. وهو مليء بالطاقة بشكل لا يصدق -دعونا نفعل ذلك مهما يكن، دعونا نفعله. إنه ليس شخصاً قاسياً. إنه “قرد كبير دافئ القلب”، كما قال عنه بانون، بما يشبه المديح الباهت.
كان بيتر تيل، المؤسس المشارك لـ”بايبال” وعضو مجلس إدارة شركة “فيسبوك” -الصوت الوحيد المهم في وادي السيليكون الذي دعم ترامب- كان قد تلقى تحذيراً من ملياردير آخر وصديق لترامب منذ فترة طويلة، من أن ترامب سوف يعرض على تيل، في انفجار من التملق والإطراء، صداقته الأبدية التي لا تنتهي. “الجميع يقولون إنَّك عظيم، أنت وأنا سوف نقيم علاقة عمل مذهلة، أي شيء تريده أن يحدث، اتصل بي فقط وسنجعله يحدث!”. ونصح تيل بعدم أخذ عرض ترامب على محمل الجد. لكن تيل، الذي ألقى خطابا يدعم ترامب في المؤتمر الجمهوري في كليفلاند، ذكر أنه حتى بعد أن تم تحذيره مسبقاً، كان متأكداً تماماً من صدق ترامب وإخلاصه عندما قال إنهما سيكونان صديقين مدى الحياة -فقط شريطة أن لا يسمع ترامب منه مرة أخرى أبداً، أو أن لا يرد على مكالماته. ومع ذلك، فإن السلطة تقدم أعذارها الخاصة عن السقطات الاجتماعية. وثمة عناصر أخرى من شخصية ترامب تظل أكثر إشكالية.
كان معظم المهنيين الذين تم تحديدهم الآن للانضمام إليه يصطدمون وجهاً لوجه بحقيقة أنه بدا وكأنه لا يعرف شيئاً، أي شيء. لم يكن هناك ببساطة أي موضوع -ربما باستثناء الإنشاءات- يبرع في معرفته بشكل خاص. كان كل شيء بالنسبة له مُباغِتاً. وكلما عرف عن شيء، بدا كما لو أنه عرفه قبل ساعة فقط -وكانت تلك المعرفة نصف مخبوزة تقريباً. لكن كل فرد في فريق ترامب الجديد كان يقنع نفسه -أو نفسها- بخلاف ذلك، لأن ما يعرفونه هو أن الرجل انتُخِب رئيساً. لقد عرَض شيئاً، بكل وضوح. وفي الحقيقة، في حين أن كل شخص في دائرة الأغنياء الاجتماعية عرف عن هذا الجهل عريض النطاق -لم يكن ترامب، رجل الأعمال، يستطيع حتى أن يقرأ كشف الميزانية، وترامب، الذي خاض حملته على أساس مهاراته في إبرام الصفقات، كان، بعدم عنايته بالتفاصيل، مفاوضاً مريعاً- فإنهم وجدوه مع ذلك “فطرياً” بطريقة ما. كانت هذه هي الكلمة. إنه يجسد قوة الشخصية. إنه يستطيع أن يجعلك تصدق.
“هل ترامب شخص جيد، شخص ذكي، شخص قدير؟”، تساءل سام ننبيرغ، مساعد ترامب السياسي منذ وقت طويل. “إنني حتى لا أعرف. لكنني أعرف أنه نجم”.
في محاولة لشرح مزايا ترامب وجاذبيته، قال بيرس مورغان -رجل الصحف البريطاني ومذيع “سي. إن إن” قليل الحظ الذي كان قد ظهر في برنامج عن المشاهير وظل صديقاً مخلصاً لترامب -قال إن كل شيء موجود في كتاب ترامب “فن الصفقة”. كل شيء جعلَه يكون ترامب، وحدد دهاءه، وطاقته، وشخصيته الكاريزمية، موجود هناك. إنك إذا أردت أن تعرف ترامب، فما عليك سوى أن تقرأ الكتاب. لكن ترامب لم يكتب “فن الصفقة”. وقد أصر المؤلف المشارك، توني شوارتز، على أنه أسهم بالكاد فيه، بل وربما حتى لم يقرأه كله. ربما كانت هذه هي الفكرة. لم يكن ترامب كاتباً، كان شخصيةً فقط -شخصيةً رئيسية وبطلاً في رواية.
كمعجب بمصارعة المحترفين، والذي أصبح شخصية معروفة ومؤدياً لــ”عروض تسلية المصارعة العالمية” (واسمه مُدرج في قاعة الشهرة لاتحاد المصارعة العالمي)، عاش ترامب، مثل هولك هوغان، كشخصية قصصية تعيش في الحياة الواقعية. وفيما يشكل سبباً للتسلية لأصدقائه، ويشكل سبباً لعدم الارتياح بالنسبة للعديد من الناس الذين يستعدون الآن للعمل معه في أعلى مستويات الحكومة الفيدرالية، تحدث ترامب في كثير من الأحيان عن نفسه بصيغة الغائب. فعل ذلك حقاً. كانت قوية جداً هذه الشخصية الروائية، أو هذا الدور، بحيث بدا ترامب متردداً، أو غير قادر على التخلي عنهما لصالح أن يكون رئيساً -أو رئاسياً.
مهما كان الرجل صعباً، حاول الكثيرون من الذين حوله أن يبرروا سلوكه -حاولوا العثور على تفسير لنجاحه فيه، وأن يفهموه على أنه ميزة، وليس عيباً. بالنسبة لستيف بانون، كانت ميزة ترامب الفريدة هي كونه الذكر المهيمِن في المجموعة، ربما آخر الذكور المهيمنين؛ رجل من رجال الخمسينيات، من نوع أعضاء فرقة التسلية “رات باك”؛ شخصية مُستلة من دراما “الرجال المجانين”.
بل إن فهم ترامب لطبيعته الأساسية الخاصة كان أكثر دقة. ذات مرة، بينما كان عائداً في طائرته مع صديق ملياردير جلب معه عارضة أزياء أجنبية، حث ترامب، وهو يحاول التقرب من المرأة التي يواعدها صديقه، على توقف في أتلانتيك سيتي. وهناك، سيأخذهم في جولة في الكازينو الذي يملكه. وأكد صديقه للعارضة أنه ليس هناك شيء تمكن التوصية به في أتلانتيك سيتي. إنه مكان يجتاحه الحثالة البيض.
“من هم هؤلاء “الحثالة البيض”؟”، سألت العارضة.
“إنهم أشخاص مثلي تماماً”، قال ترامب. “سوى أنهم فقراء”.
لقد بحث عن عذر لكي لا يكون مطابقاً للعُرف، لأن لا يكون محترماً. كان ذلك تصوراً خارجاً على القانون للفوز –كان الفوز، مهما تكن الطريقة التي تفوز بها، هو كل شيء.
أو، كما قد يلاحظ أصدقاؤه، محاذرين أن لا ينخدعوا بذلك هم أنفسهم، لم يكن لديه ببساطة أي تردد ولا وازع. كان متمرداً، صانع فوضى، ومزدرياً للجميع بالعيش خارج القواعد. ووجد صديق قريب لترامب، والذي كان صديقاً قريباً لبيل كلينتون، أنهما متشابهان تماماً -سوى أن كلينتون كانت له واجهة محترمة بينما ليس لترامب مثل ذلك.
أحد تجليات الشخصية الخارجة على القانون، في كل من ترامب وكلينتون، هي ماركتهما الخاصة من ملاحقة النساء -وفي الحقيقة، التحرش. وحتى بين مطاردي النساء والمتحرشين من الطبقة العالمية، بدا هذان الرجلان متحررين من الشك أو التردد بطريقة استثنائية.
أحب ترامب أن يقول إن أحد الأشياء التي تجعل الحياة قمينة بأن تعاش هي جلب زوجة صديقك إلى سريرك. وفي سياق مطاردة زوجة الصديق، يمكن أن يحاول إقناع الزوجة بأن زوجها ربما لا يكون كما تظن. ثم سيجعل سكرتيرته تدعو الصديق إلى مكتبه؛ وبمجرد أن يصل الصديق، سوف ينخرط ترامب فيما كان، بالنسبة إليه، مزاحاً جنسياً مستمراً بدرجة أو بأخرى. “هل ما تزال تمارس الجنس مع زوجتك؟ كم مرة؟ لا بد أنك نمتَ مع نساء أفضل من زوجتك؟ أخبرني عن ذلك. لديَّ فتيات سيأتين من لوس أنجلوس عند الساعة الثالثة. يمكننا أن نصعد إلى فوق ونمضي وقتاً جيداً. أعدك…”. وخلال كل ذلك، يكون ترامب قد وضع زوجة الصديق على الجانب الآخر من الهاتف المفتوح، تستمع.
الرؤساء السابقون، وليس كلينتون فحسب، كانوا يفتقرون إلى الوازع بطبيعة الحال. لكن ما كان، بالنسبة للكثير من الناس الذين عرفوا ترامب جيداً، أكثر إرباكاً بكثير، هو أنه استطاع كسب الانتخابات، والوصول إلى هذا الإنجاز النهائي، مفتقراً تماماً إلى ما يجب أن يكون وفق المنطق الواضح، المتطلب الرئيسي للوظيفة، ما قد يسميه علماء الأعصاب، “الوظيفة التنفيذية”. لقد كسب السباق إلى الرئاسة بشكل ما، لكن دماغه بدا غير قادر على أداء ما ستكون مهمات أساسية في عمله الجديد. إنه لا يمتلك أي قدرة على التخطيط أو التنظيم والانتباه ونقل التركيز؛ لم يكن قد تمكن مطلقاً من تفصيل سلوكه على مقاس ما تتطلبه الأهداف المحددة منطقياً. وعلى أكثر المستويات أساسية، لم يكن يستطيع، ببساطة، أن يقيم الصلة بين السبب والنتيجة.
كان اتهام ترامب بالتآمر مع الروس لكسب الانتخابات، والذي قلل هو من شأنه، يشكل في تقدير بعض أصدقائه مثالاً كاملاً على عجزه عن الوصل بين النقاط. فحتى لو أنه لم يتآمر شخصياً مع الروس لكسب الانتخابات، فإن جهوده للتماهي مع فلاديمير بوتين، من دون كل الناس، تركت من دون شك أثراً من الكلمات والأفعال المنذرة التي يغلب أن تكون لها كُلَف سياسية هائلة.
بعد وقت قصير من الانتخابات، قال له صديقه آيلز، بحسٍّ من التوقع الحذر “يجب أن تفعل شيئاً على الفور في موضوع روسيا”. وحتى مع أنه منفيٌّ من “فوكس نيوز”، كان آيلز ما يزال يحتفظ بشبكة استخبارات أسطورية. وقد حذر ترامب من أشياء مقبلة على الطريق، والتي ربما تكون مدمرة. “يجب أن تأخذ هذا على محمل الجد، دونالد”. وقال ترامب السعيد: “جاريد سيتولى هذا. كل هذا تم حلُّه”.
* * *
برج ترامب، المجاور لـ”تيفاني”، والذي أصبح الآن مقراً لثورة شعبوية، بدا فجأة مثل سفينة فضاء غريبة قادمة من عالم آخر –”نجمة الموت”- في الجادة الخامسة. وبينما بدأ العظماء والأخيار والطموحون، وكذلك المحتجون الغاضبون والدهماء الفضوليون في زيارة باب الرئيس التالي بأعداد غفيرة، تم على عجل نصب حواجز مثل المتاهة لحمايته.
كان قانون الانتقال الرئاسي لما قبل الانتخاب للعام 2010 قد خصص تمويلاً للمرشحين الرئاسيين لبدء عملية تمحيص وتدقيق لآلاف المرشحين للوظائف في الإدارة الجديدة، بحيث يرتبون بذلك السياسات التي ستحدد الأعمال المبكرة لبيت أبيض جديد، ويحضِّرون لتسليم المسؤوليات البيروقراطية يوم 20 كانون الثاني (يناير). وخلال الحملة، كان على حاكم نيوجيرسي، كريس كريستي، الرئيس الاسمي لمكتب ترامب الانتقالي، أن يخبر المرشح بحزم بأنه لم يستطع إعادة توجيه هذه الأموال، وأن القانون يتطلب منه أن ينفق النقود وأن يخطط للفترة الانتقالية -لواحدة لم يتوقع حتى أنه سيحتاجها. وقال ترامب المغضب إنه لا يريد أن يسمع المزيد عن هذا الأمر.
في اليوم التالي للانتخاب، بدأ مستشارو ترامب الوثيقون -الذين أصبحوا حريصين فجأة على أن يكونوا جزءاً من عملية كان الجميع تقريباً قد تجاهلوها- بدؤوا على الفور في لوم كريستي على قلة الاستعدادات للانتقال. وعلى عجل، انتقل فريق الفترة الانتقالية المجرد تقريباً من كل إمكانية، والذي لا يلبي الحد الأدنى من حيث التكوين، من وسط واشنطن إلى برج ترامب.
كان البرج بالتأكيد أكثر عقار باهظ الثمن يشغله فريق انتقالي على الإطلاق (وإذا كان ذلك يهم، تشغله حملة رئاسية). وكان هذا جزءاً من الفكرة. فقد أرسل رسالة ترامبية الطراز: إننا لسنا خارجيين فقط، لكننا أكثر قوة من داخلييكم. أكثر غنى. أكثر شهرة. وبعقار أفضل.
وبطبيعة الحال، كان ذلك مشخصناً تماماً: كان اسمه مكتوباً، بطريقة خرافية، على الباب. وفي الأعلى كان ثمة شقة ثلاثية الطوابق، أكبر بكثير من أقسام السكن في البيت الأبيض. وهنا يوجد مكتبه الخاص الذي شغله منذ الثمانينيات. وهنا كانت الحملة، والآن موقع الانتقال -المستقر بحزم في مداره الخاص، وليس في مدار واشنطن و”المستنقع”.
كانت غريزة ترامب في مواجهة نجاحه غير المحتمل، إن لم يكن المنافي للعقل، نقيض التواضع. كانت تعني، ببعض المعاني، تأكيد ميزتك وتذكير كل الآخرين بما فهموه وفعلوه خطأ إزاءك. سوف يترتب على داخليي واشنطن، أو الداخليين المحتملين، أن يأتوا هم إليه. وعلى الفور، أصبح برج ترامب يترفع على البيت الأبيض نفسه. وكل شخص جاء ليرى الرئيس المنتخب كان يعترف، أو يقبل، بحكومة تتشكل من الخارجيين. لقد أجبرهم ترامب على أن يتحملوا ما وصفه الداخليون بابتهاج بأنه أشبه “بعرض المتَّهمين في مكان عام” أمام أعين الصحافة والمتطفلين من كل نوع. عرض للخضوع، إن لم يكن الإذلال.
ساعد مشهد برج ترامب غير الدنيوي الذي بدا قادماً من عالم آخر، في التغطية على حقيقة أن قلة في الصفوف الصغيرة لدائرة ترامب الداخلية -بمسؤوليتهم التي تكوّنت بين ليلية وضحاها عن تجميع حكومة- كانوا يمتلكون أي خبرة ذات صلة تقريباً. لم تكن لأي منهم خلفية سياسية. لم يتمتع أحد منهم بالدهاء السياسي. ولم تكن لأيهم خلفية تشريعية.
السياسة مسألة شبكات، مسألة معارفك ومَن تعرف. ولكن، على النقيض من أي رئيس منتخب آخر -الذين عانوا كلهم بلا استثناء من نقائصهم الإدارية الخاصة- لم تكن لترامب أي من استحقاقات المهنة من الصلات السياسية والحكومية التي يمكن أن يستعين بها. بل كانت لديه بالكاد منظمته السياسية الخاصة. وفي معظم الأشهر الثمانية عشر على الطريق، كان الأمر، في جوهره، مؤسسة من ثلاثة أشخاص: مدير حملته، كوري ليفاندوفسكي (حتى طرده قبل شهر من اجتماعات الترشيح الجمهورية)؛ والناطق باسمه ومساعده وخادمه الشخصي أحياناً، أول موظف في الحملة، هوب هيكس، الشاب بعمر 26 عاماً؛ وترامب نفسه. وقد وجد ترامب، بغرائزة الهزيلة وحاسة الجسد السادسة، أنه -كلما كان لديك عدد أكبر من الناس لتتعامل معهم، أصبح من الأصعب عليك أن تدير طائرتك وتعود إلى بيتك لتنام في سريرك في الليل.
كان الفريق المهني -مع أنه لم يكن هناك في الحقيقة سياسي محترف بينهم- الذي انضم إلى الحملة في آب (أغسطس)، بمثابة مسعى اللحظة الأخيرة لتجنب الإهانة اليائسة. لكن هؤلاء كانوا أناساً عمل معهم بضعة أشهر فقط.
لاحظ رين بريبوس، الذي يستعد للانتقال من اللجنة الوطنية الجمهورية إلى البيت الأبيض، كيف كان ترامب يعرض الوظائف على الناس في كثير من الأحيان على الفور، والذين لم يكن قد التقى بالكثيرين منهم من قبل، لتولي مناصب لم يكن ترامب يعرف أهميتها بشكل خاص.
وكان آيلز، المخضرم الذي عمل مع نيكسون، وريغان، وبيت بوش الأبيض الحادي والأربعين، يصبح أكثر قلقاً من افتقار الرئيس المنتخب إلى التركيز المباشر على هيكل البيت الأبيض الذي يمكن أن يخدمه ويحميه. وحاول تنبيه ترامب إلى ضراوة المعارضة التي ستكون في استقباله هناك.
قال آيلز لترامب بعد وقت ليس بالطويل من الانتخاب: “إنك تحتاج إلى ابن عاهرة ليكون رئيس موظفيك. وتحتاج إلى ابن عاهرة يعرف واشنطن”.
“سوف تريد أن تكون ابن العاهرة أنت نفسك، لكنك لا تعرف واشنطن”. وكان لدى آيلز اقتراح: “رئيس مجلس النواب، بوهنر”. (كان جون بوهنر رئيس مجلس النواب حتى أُجبِر على الاستقالة في انقلاب لحزب الشاي في العام 2011).
“من يكون هذا؟”، سأل ترامب.
حاول الجميع في دائرة ترامب من المليارديرات، القلقين من ازدرائه لخبرة الآخرين، تنبيهه إلى ضرورة الناس، الناس الكثيرين، الذين سيحتاج إلى أن يكونوا معه في البيت الأبيض، الناس الذين يفهمون واشنطن. “جماعتك أكثر أهمية من سياستك. جماعتك هم سياستك”.
“فرانك سيناترا كان مخطئاً”، قال ديفيد موسي، أحد مستشاري ترامب السياسيين منذ وقت طويل. “إنك إذا استطعت أن تنجح في نيويورك، فإنك لن تستطيع بالضرورة أن تنجح في واشنطن”.
* * *
تشكل طبيعة دور رئيس الموظفين الحديث موضع تركيز الكثير من الدراسات عن البيت الأبيض. فعلى نحو يماثل الرئيس نفسه، يحدد رئيس الموظفين الكيفية التي يعمل بها البيت الأبيض والفرع التنفيذي -الذي يوظف 4 ملايين شخص، بمن فيهم 1.3 مليون في الأجهزة المسلحة.
وقد تم تأسيس هذا المنصب ليعمل شاغله كنائب للرئيس، أو كرئيس للتشغيل والعمليات، أو حتى كرئيس للوزراء. وكان من أبرز رؤساء موظفي البيت الأبيض كل من، هـ. آر. هالديمان، وألكسندر هيغ في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون؛ دونالد رامسفيل وديك تشيني في إدارة جيرالد فورد؛ هاميلتون جوردان في إدارة جيمي كارتر؛ جيمس بيكر في إدارة دونالد ريغان؛ وجيمس بيكر مرة أخرى في إدارة جورج بوش الأب؛ وليون بانيتا، وإرسكين باولز وجون بوديستا في إدارة بيل كلينتون؛ وأندرو كارد في إدارة جورج دبليو بوش؛ ورام إيمانويل وبيل دالي في إدارة باراك أوباما. وسوف يستنتج كل من يدرس هذا المنصب أن رئيساً أقوى للموظفين سيكون أفضل من واحد ضعيف، وأن رئيساً للموظفين صاحب تاريخ في واشنطن والحكومة الفيدرالية سيكون أفضل من واحد خارجي.
كان لدى ترامب القليل من الإدراك -إذا كان ثمة شيء منه من الأساس- لتاريخ هذا الدور أو التفكير به. وبدلاً من ذلك، استبدله بأسلوبه الخاص في الإدارة وخبرته الخاصة. وكان قد اعتمد طوال عقود على المحامين والمساعدين والمقربين القدماء والعائلة. وحتى مع أن ترامب أحب أن يصور عمله التجاري على أنه إمبراطورية، فإنه كان في الحقيقة شركة قابضة منفصلة ومؤسسة بوتيك، والتي تقدم الخدمات لخصوصياته كمالك وممثل لعلامة تجارية أكثر من عنايتها بتقديم أي جردة للحساب أو أي مراقبة لمعايير الأداء الأخرى.
وقد تساءل ابناه؛ دون جيه آر وإريك -المعروفان من وراء ظهريهما عند دائرة ترامب الداخلية، على سبيل الفكاهة، بعديّ وقصي، على اسمي ابني صدام حسين- تساءلا عما إذا بالإمكان أن يكون هناك بطريقة ما هيكلان متوازيان للبيت الأبيض؛ واحد مخصص لعرض رؤى أبيهما للصورة الكبيرة، وظهوره الشخصي، وقدرات رجل المبيعات فيه؛ وواحد آخر يُعنى بقضايا الإدارة يوماً بيوم. وفي هذه البِنية، رأيا نفسيهما يهتمان بالعمليات اليومية.
كانت إحدى أفكار ترامب المبكرة هي تجنيد صديقه، توم باراك -وهو جزء من مجلس مطبخه من أقطاب العقارات، الذي يضم ستيف روث وريتشارد ليفراك- وتعيينه رئيساً لموظفيه.
وباراك، حفيد مهاجرين لبنانيين، هو مستثمر عقاري معجب بنجوم التسلية، يتمتع بفطنة أسطورية ويملك جنة مايكل جاكسون السابقة الغريبة، “مزرعة نيفرلاند”. ومع جيفري إبشتاين -ممول نيويورك الذي سيظهر بانتظام في صحف التابلويد بعد التماس بالذنب بتهمة الإغواء بالبغاء، والذي أرسله إلى السجن لثلاثة عشر شهراً في بالم بيتش- شكل ترامب وباراك نسخة الثمانينيات والتسعينيات من “الفرسان الثلاثة”.
باعتباره المؤسس المشارك والمدير التنفيدي لمؤسسة الأسهم الخاصة، “كولوني كابيتال”، أصبح باراك مليارديراً يعمل في استثمارات الديون المتعثرة في العقارات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المساعدة على إنقاذ صديقه دونالد ترامب.
راقب باراك بحس من التسلي حملة ترامب غريبة الأطوار، وتوسط في الصفقة التي جعلت باول منافورت يحل محل كوري ليفاندوفسكي بعد أن اختلف ليفاندوفسكي مع كوشنر. ثم، مأخوذاً مثل كل أحد آخر بنجاح الحملة المتواصل- قدم باراك صديقه، الرئيس المستقبلي، بعبارات دافئة وشخصية في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في تموز (يوليو). (في تناقض مع ما سيكون بخلاف ذلك لهجة قاتمة وغير متفائلة).
كان أكثر تصورات ترامب كمالاً أن ينضم صديقه توم -الرجل النشط في التنظيم والمدرك تماماً لافتقار صديقه للاهتمام بالإدارة يوماً بيوم- ليدير البيت الأبيض. وكان ذلك حل ترامب الفوري والمناسب للظرف غير المتوقع؛ أن يصبح رئيساً فجأة: أن يدير الأمور مع معلمه في الأعمال، الموثوق، والمستثمر، والصديق، والشخص الذي يصفه معارف الرجلين بأنه “واحد من أفضل مدربي دونالد ترامب ورعاته”. وسُمّي ذلك في دائرة ترامب، خطة “الصديقين”. (أبشتاين، الذي بقي قريباً من باراك، تم استبعاده من سيرة ترامب الذاتية).
سوف يستطيع باراك، وهو من بين بضعة أشخاص لم يكن ترامب، الرافض والمتشائم بالغريزة، يشكك فيهم، سيستطيع -حسب رؤية ترامب الآملة- أن يجعل الأشياء تجري بنعومة حقاً وأن يجعل ترامب يكون ترامب. كان ذلك، من جانب ترامب، جزءاً غير معهود من الوعي الذاتي: ربما لا يعرف دونالد ترامب ما لا يعرف، لكنه يعرف ما يعرفه توم باراك. سوف يدير العمل وترامب سيبيع المنتج –جَعل أميركا عظيمة مرة أخرى.
بالنسبة لباراك، مثلما لكل شخص آخر حول ترامب، كانت نتيجة الانتخابات نوعاً من كسب اليانصيب بطريقة لا تصدق -أن يصبح صديقك المستبعد تماماً وغير المحتمل تماماً رئيساً. ولكن، كان على باراك -حتى بعد مكالمات هاتفية لا تعد ولا تحصى من الإغراء والتملق- أن يخيِّب أخيراً أمل صديقه. قال له: “أنا غنيٌّ جداً فقط”. إنه لا يستطيع أبداً أن يفكك مقتنياته ومصالحه –بما فيها استثمارات هائلة في الشرق الأوسط- بطريقة يمكن أن ترضي الذين نصبوا أنفسهم مراقبين وحُراساً للأخلاق. كان ترامب غير مهتم، أو غير عارف بتعارضات عمله التجاري الخاصة، لكن باراك لم ير في عمل السياسة سوى أن يجلب على نفسه المشاحنة والكلفة. كما لم تكن لباراك، الذي يعيش زواجه الرابع، شهية لأن يجعل حياته الشخصية الملونة -التي مارسها عادة، وعلى مدى السنوات، مع ترامب- تصبح موضوعاً للانتباه العام.
كانت خطة ترامب الاحتياطية لاختيار رئيس الموظفين في البيت الأبيض هي زوج ابنته. ففي الحملة، بعد أشهر من الاضطراب والشعور بالغربة (إن لم يكن بالنسبة لترامب، فلمعظم الآخرين، بمن فيهم أفراد عائلته)، تدخل كوشنر وأصبح مساعده الفعال، حيث ظل يحوم في الجوار، ويتحدث فقط عندما يتحدث أحد إليه، لكنه يعرض دائماً وجهة نظر مهدئة ومتملقة. وقد أطلق كوري ليفاندوفسكي على كوشنر وصف كبير الخدم. وأصبح ترامب يعتقد بأن صهره -جزئياً لأنه بدا أنه يعرف كيف يبقى بعيداً عن طريقه- كان حصيفاً بشكل فريد.
في تجاهل للقانون والتداعيات، ونظرات الجميع غير المصدقة، بدا الرئيس عازماً على إحاطة نفسه في البيت الأبيض بأفراد عائلته. كان أفراد عائلة ترامب –باستثناء زوجته، التي كانت تقيم في نيويورك لسبب غامض- يتوافدون، وكلهم مستعدون لتولي مسؤوليات مشابهة لمكانتهم في “منظمة ترامب”، من دون أن ينصح أحد بخلاف ذلك.
وفي نهاية المطاف، كانت نجمة اليمين ونصيرة ترامب، آن كاولتر، هي التي أخذت الرئيس المنتخب جانباً وقالت له، “لا أحد يقول لك هذا على ما يبدو. لكنك لا تستطيع. لا تستطيع أن توظف أولادك”.
لكن ترامب واصل الإصرار على أن له كل الحق في التمتع بمساعدة عائلته، بينما يسأل الآخرين في الوقت نفسه من أجل أن يفهم. هذه عائلة، قال –”الأمر خادع قليلاً”. ولم يكن موظفوه يفهمون التناقضات والقضايا القانونية الصعبة التي ينطوي عليها جعل صهر ترامب يدير البيت الأبيض، وإنما فهموا أن الأمر يمكن أن يصل -حتى أكثر مما كان سابقاً- إلى حد “العائلة أولاً” بالنسبة لترامب. وبعد قدر كبير من الضغط، وافق على الأقل على عدم جعل صهره رئيساً للموظفين –ليس بشكل رسمي، على أي حال.
* * *
إذا لم يكن باراك ولا كوشنر، فعندئذٍ، فكر ترامب، ربما يجب أن يذهب المنصب إلى حاكم نيو جيرسي كريس كريستي، الذي شكل مع رودي غيولياني، مجموع دائرته من الأصدقاء الذين لديهم تجربة حقيقية في السياسة.
كان كريستي، مثل معظم حلفاء ترامب، قريباً تارة وبعيداً أخرى. وفي الأسابيع الأخيرة من الحملة، قاس ترامب مسافة ابتعاد كريستي المتزايدة عن مؤسسته الخاسرة، ثم حرصه على العودة إليها مع الانتصار.
عاد ترامب وكريستي إلى أيام محاولة ترامب –وفشله- في أن يصبح قطباً للقمار في أتلانتيك سيتي. قطب قمار أتلانتيك سيتي. (كان ترامب منذ وقت طويل منافساً مريراً لقطب القمار في لاس فيغاس ستيف وين، الذي سيعينه ترامب رئيس المالية للجنة الوطنية الجمهورية). وكان ترامب قد دعم كريستي وهو يصعد سلالم السياسة في نيوجيرسي. كان معجباً بطريقة كريستي في الحديث المباشر والنزيه. ولبعض الوقت، بينما فكر كريستي بترشحه الخاص للرئاسة في 2012 و2013 –وبينما كان ترامب يبحث عن فصل تالٍ لنفسه مع خفوت نجم برنامج “المتدرب”، امتيازه التجاري في تلفزيون الواقع- تساءل ترامب حتى عما إذا كان يستطيع أن يكون نائباً رئاسياً محتملاً لكريستي.
في وقت مبكر من الحملة، قال ترامب إنه ما كان ليترشح ضد كريستي، لولا فضيحة “بريدجغيت” (التي انفجرت عندما أغلق أشخاص مرتبطون بكريستي خطوط السير على جسر جورج واشنطن بهدف إهانة عمدة بلدة مجاورة كان ينافس كريستي، وهو ما برره ترامب في الأحاديث الخاصة بأنها “مجرد عناد نيوجيرسي”). وعندما انسحب كريستي من السباق في شباط (فبراير) 2016 والتحق بحملة ترامب، فإنه تحمل سيلاً من السخرية لدعمه صديقه، الذي اعتقد بأنه وعده بطريق مفتوح إلى منصب نائب الرئيس.
وقد آلم ترامب شخصياً أن لا يتمكن من منحه المنصب. ولكن، إذا لم تكن المؤسسة الجمهورية قد أرادت ترامب، فإنها لم تكن تريد كريستي بنفس المقدار. ولذلك حصل كريستي على منصب قيادة المرحلة الانتقالية والوعد الضمني بمنصب مركزي –النائب العام أو رئيس الموظفين في البيت الأبيض.
لكن كريستي كان، عندما تولى منصب المدعي العام الفيدرالي في نيوجيرسي، قد أرسل والد جاريد، تشارلز كوشنر، إلى السجن في العام 2005. وكان تشارلز كوشنر، الذي لاحقته الشرطة الفيدرالية بتهمة غش في ضريبة الدخل، قد وضع خطة مع عاهرة لابتزاز شقيق زوجته الذي كان يخطط للشهادة ضده.
العديد من الروايات، التي قدم معظمها كريستي نفسه، تصور جاريد كوشنر باعتباره الشخص الانتقامي الحاقد الذي أجهض منصب كريستي في إدارة ترامب. كانت تلك نوعاً من القصة المثالية عن الانتقام الجميل: ابن الرجل المظلوم (أو، في هذه الحالة –ثمة القليل من الخلاف على أن الرجل مذنب بالتهمة) يستخدم سلطته ضد الرجل الذي ظلم عائلته. لكن روايات أخرى تعرض صورة أكثر مكراً، وأكثر قتامة بإحدى الطرق. كان جاريد كوشنر، كما هو حال الأصهار في كل مكان، يسير على أطراف أصابعه حول والد زوجته، محاولاً بعناية تحريك أقل قدر ممكن من الهواء: الرجل الهائل المستبد الأكبر سناً، والآخر النحيل اللين المتكيف الأصغر سناً. وفي قصة موت كريس كريستي المُنقحة، لم يكن جاريد المتكيف هو الذي رد الضربة، وإنما –بطريقة أكثر إرضاء لتخيل الانتقام- كان تشارلي كوشنر نفسه هو الذي طالب بقوة بحقه. كانت زوجة ابنه -التي تتمتع بالتأثير الحقيقي في دائرة ترامب- هي التي وجهت الضربة. قالت إيفانكا لأبيها إن تعيين كريستي كرئيس للموظفين أو أي منصب رفيع آخر سيكون صعباً كثيراً عليها وعلى عائلتها، وإنه سيكون من الأفضل أن يتم إبعاد كريستي من مدار ترامب جملة وتفصيلاً.
* * *
كان بانون مركز ثقل المنظمة. وترامب، الذي بدا مرتعباً من محادثة بانون –خليط من الإهانات، والشقوق التاريخية، والاستبصارات الإعلامية، والملاحظات اليمينية الذكية، والبدهيات التحفيزية- شرع الآن في اقتراح اسم بانون على دائرته من المليارديرات كرئيس للموظفين، فقط ليجد هذه الفكرة تلاقي التسخيف والشجب. لكن ترامب حدث الكثير من الناس عن تفضيله لها على أي حال.
في الأسابيع التي سبقت الانتخاب، كان ترامب قد وصف بانون بأنه متملق بسبب يقينه من أن ترامب سيفوز. لكنه أصبح يعتقد الآن بأن بانون ينطوي على شيء يشبه القوى الصوفية. وفي الحقيقة، كان بانون، من دون خبرة سياسية سابقة، الوحيد من دائرة ترامب الداخلية القادر على تقديم رؤية متساوقة لشعبوية ترامب –التي سُميت الترامبية.
كانت القوى المناهضة لبانون –التي شملت الجميع كل جمهوري من غير حزب الشاي تقريباً- سريعة في الرد. مردوخ، الذي كانت عداوته لبانون في ازدياد، قال لترامب أن بانون سيكون خياراً خطيراً. وجو سكاربورو، رجل الكونغرس السابق والمقدم المشارك لبرنامج “صباح جو” في محطة “إم. إس. إن. بي. سي”، أحد البرامج المفضلة لدى ترامب، قال لترامب في حديث خاص “سوف تحترق واشنطن” إذا أصبح بانون رئيساً للموظفين، وفي تكرار عملي لهذه الثيمة، حاول تشويه سمعة بانون علناً في البرنامج.
في الحقيقة، كان بانون ينطوي على مشكلات أكبر من مجرد سياسته: كان غير منظم إلى حد هائل، ومصاباً بالتوحد كما يبدو، بالنظر إلى طبيعة ما يجذب تركيزه أحادي التفكير في تجاهل لكل شخص آخر. هل يمكن أن يكون أسوأ مدير عاش في هذه الدنيا على الإطلاق؟ يمكن. بدا غير قادر على رد مكالمة هاتفية. وكان يجيب عن رسائل البريد الإلكتروني بكلمة واحدة –في جزء منه بسبب جنون الارتياب من البريد الإلكتروني، وإنما يغلب أنه يعود إلى افتقار للتنظيم والسيطرة. وكان يبقي المساعدين والمرافقين دائماً على مبعدة. ولا تستطيع أن ترتب موعداً حقاً مع بانون، وإنما عليك أن تظهر أمامه فقط. وبشكل ما، كانت مساعدته الرئيسية، ألكسندرا بريت، جامعة التبرعات المحافظة وامرأة العلاقات العامة، غير منظمة مثله تماماً. وبعد ثلاث زيجات، عاش بانون حياة عزوبية في الكابيتول هيل في منزل في صف من المنازل معروف باسم “سفارة بريتبارت” والذي عمل أيضاً كمكتب لموقعه الإخباري على الإنترنت، “بريتبارت” –كما ينبغي لحياة شخص فوضوي. وهكذا، لن يوظف أي عاقل بانون في وظيفة تتضمن جعل القطارات تنطلق في الوقت المحدد.
* * *
وإذن، رين بريبوس.
بالنسبة لموقع “ذا هِل” السياسي الرصين، كان بريبوس هو رئيس الموظفين الوحيد المعقول بين المتنافسين، وسرعان ما أصبح ذلك موضوعاً للضغط الكثيف من رئيس مجلس النواب باول رايان وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل. إذا كان عليهم أن يتعاملوا مع كائن من جنس غريب مثل دونالد ترامب، فإن من الأفضل أن يفعلوا ذلك بمساعدة عضو من جنسهم نفسه.
لم يكن بريبوس، 45 عاماً، سياسياً ولا مطلعاً مُجِداً ولا استراتيجياً. كان عاملاً في الماكينة السياسية، في واحدة من أقدم المهن. جامع تبرعات.
كفتى من الطبقة العاملة أصله من نيوجيرسي، ثم ويسكنسون، كان بريبوس قد بذل وهو بعمر 32 عاماً أول وآخر محاولة للحصول على وظيفة فعالة: مسعى انتهى بالفشل إلى عضوية مجلس شيوخ الولاية. وقد أصبح رئيساً للحزب في الولاية ثم المستشار العام للجنة الوطنية الجمهورية. وفي العام 2011، ارتقى إلى رئاسة اللجنة الوطنية الجمهورية. وجاء رصيد بريبوس السياسي من إرضاء حزب الشاي في ويسكنسون، وارتباطه بحاكم ويسكنسون سكوت ووكر، النجم الجمهوري صاعد (وباختصار –باختصار شديد- المرشح المتقدم في حملة الانتخابات الرئاسية في 2016).
مع معارضة أجزاء كبيرة من الحزب الجمهوري لترامب بطريقة يتعذر تغييرها، ومع اعتقاد شبه كامل في الحزب بأن ترامب سوف يسقط في هزيمة شائنة آخذاً الحزب معه، كان بريبوس تحت ضغط هائل بعد أن حصل ترامب على الترشيح لتحويل الموارد إلى انتخابات أخرى أدنى من الرئاسة، مثل مجلس النواب والشيوخ، بل وحتى التخلي عن حملة ترامب جملة وتفصيلاً.
ولكن، مع أنه كان مقتنعاً هو نفسه بأن ترامب لا أمل فيه، فقد تحوط بريبوس في رهاناته مع ذلك. وأصبحت حقيقة أنه لم يتخل عن ترامب بشكل كامل تبدو سبباً هامشياً ممكناً للانتصار، وجعلت من بريبوس نوعاً من البطل (بنفس المقدار، في نسخة كليان كوني، فإنهم لو خسروا، لكان قد أصبح هدفاً معقولاً كسبب للخسارة أيضاً). وهكذا أصبح بريبوس الاختيار الافتراضي لمنصب رئيس الموظفين.
مع ذلك، لم يأت دخول بريبوس دائرة ترامب الداخلية من دون أن ينال حصته من الحيرة وعدم اليقين. وقد خرج من اجتماعه الأول الطويل مع ترامب وهو يظن أنه كان تجربة غريبة إلى حد القلق. فقد تحدث ترامب بلا توقف وكرر نفسه بلا توقف.
“إليك الصفقة”، عبارة قالها شخص مقرب كثيراً من ترامب لبريبوس. “في اجتماعنا معه سوف تستمع إلى خمس وأربعين دقيقة من القصص وسوف تعاد نفس القصص مرة بعد أخرى. لذلك يجب أن تكون لديك فكرة واحدة لتقدمها، ويجب أن تزجها بمجرد أن تتمكن من ذلك”.
كما أن تعيين بريبوس كرئيس للموظفين، الذي أُعلِن في أواسط تشرين الثاني (نوفمبر)، وضع بانون أيضاً في مستوى مساوٍ. كان ترامب يستجيب لغرائزه الطبيعية بأن لا يدع أحداً يتمتع بسلطة حقيقية. وسوف يكون بريبوس، حتى مع الوظيفة العليا التي يشغلها، نوعاً أضعف من الشخصية، وضمن القالب التقليدي لمساعدي ترامب على مر السنين. كما أن الاختيار عمل جيداً بالنسبة لرؤساء موظفي الأبيض المحتملين. فقد استطاع توم باراك بسهولة أن يتجاوز بريبون وأن يواصل التحدث مباشرة إلى ترامب. كما أن منصب كوشنر كصهر -وقريباً كمساعد رفيع- لن يواجه عقبات. وقد بقي ستيف بانون، الذي يقدم تقاريره مباشرة لترامب، هو الصوت الذي لا يُنازع للترامبية في البيت الأبيض.
سوف يكون هناك، بعبارات أخرى، رئيس واحد للموظفين بالاسم –واحد غير مهم- وآخرون مختلفون، أكثر أهمية في الممارسة، والذين يضمنون استمرار الفوضى واستقلال ترامب الخاص الذي لا يُنازع.
وكان جيم بيكر، رئيس موظفي كل من الرئيسين رونالد ريغان وجورج بوش الأب، والنموذج بالنسبة للجميع تقريباً في الجناح الغربي، قد نصح بريبوس بأن لا يقبل الوظيفة.
* * *
تحوُّل ترامب السحري من مرشح مضحك، إلى هامس بصوت ديمغرافي ساخط، إلى مرشح مثير للسخرية، ثم إلى رئيس منتخب يشبه رتقاً في نسيج الزمن، كل ذلك لم يلهم في داخله أي حسٍّ أكبر بالتفكير الرصين. وبعد الصدمة، بدا على الفور وكأنه يعيد إعادة كتابة نفسه كرئيس محتوم.
تضمنت إحدى مناسبات نزعته التعديلية، والمكانة الجديدة التي بدا وأنه يتقمصها الآن كرئيس، معالجة أدنى نقطة في الحملة –شريط بيلي بوش.
كان تفسيره، في محادثات جانبية مع مذيع صديق يعمل في تلفزة للكيبل، أنه “لم يكن أنا حقاً”.
واعترف المذيع بكم هو غير عادل أن يوصم المرء بسبب حادثة واحدة.
“كلا”، قال ترامب، “لم يكن ذلك أنا. أخبرني الناس الذين يفهمون هذا النوع من الأشياء بكم من السهل تحوير هذه الأشياء وإدخال أصوات وأناس مختلفين تماماً”.
لقد أصبح الفائز، والآن يُتوقع أن يكون موضوع الرهبة والسحر والمحاباة. وتوقع أن يكون هذا التحول ثنائياً: سوف يتحول الإعلام العدائي إلى إعلامٍ مُعجب.
ومع ذلك، ها هو الآن هنا، الفائز الذي عامله بإرهاب وعدوانية إعلام كان يمكن أن يُعتَمد عليه في الماضي، كمسألة طبيعية وكبروتوكول، في إهالة الاحترام الوفير على رئيس قادم، بغض النظر عمن يكون. (استمر قصور ترامب بثلاثة ملايين صوت في أن يكون شيئاً مؤلماً وموضوعاً يفضل تجنبه). كان من شبه المفهوم بالنسبة له أن نفس الناس –أي، الإعلام- الذين انتقدوه بعنف على اقتراح أنه ربما يطعن في نتيجة الانتخابات، أصبحوا الآن يصفونه بأنه “غير شرعي”.
لم يكُن ترامب سياسياً يستطيع أن يميز بين فصائل الدعم والانتقاد؛ كان رجل مبيعات يريد إنجاز صفقة بيع. “لقد فزت. أنا الفائز. أنا لست الخاسر”. كان يكرر ذلك، غير مصدق، مثل لازمة.
وصف بانون ترامب بأنه آلة بسيطة، والتي يكون زر تشغيلها مليئاً بالإطراء، وزر إطفائها مليئاً بالافتراء. وكان الإطراء يقطُر، وفيراً، في شكل ثناء مفرط، ومنفصلاً تماماً عن الواقع: كذا وكذا كان الأفضل، الأكثر روعة، الفريد من نوعه، الخالد. وكان الافتراء غاضباً، مريراً، ممتعضاً، ودائماً منبوذاً يلقى به إلى الخارج ويُغلق خلفه الباب الحديدي.
كانت هذه هي طبيعة ترامب المخصوصة في فن البيع. كان اعتقاده الاستراتيجي أنه ما من سبب يمنع إهالة الإطراء المفرط على مشترٍ محتمل. ولكن إذا تم استبعاد الهدف المحتمل كمشترٍ، فإنه ما من سبب يمنع إهالة الازدراء والدعاوى القضائية عليه/ أو عليها. فبعد كل شيء، إذا لم يستجيبوا للتذلل، فإنهم ربما يستجيبون لإلقاء ثقلك عليهم وهم ساقطون على الأرض. وقد شعر بانون –ربما بثقة مفرطة- بأن بالوسع تشغيل ترامب وإطفاؤه بسهولة.
على خلفية حرب الإرادات المميتة–مع الإعلام، والديمقراطيين، و”المستنقع”- التي كان بانون يشجعه على شنها، كان بالوسع خطب وده. وبأحد المعاني، لم يكن ترامب يحب شيئاً بقدر ما أحب التودد إليه.
كان جيف بيزوس، صاحب “أمازون”، ومالك صحيفة “الواشنطن بوست”، قد أصبح واحداً من الكثيرين المكروهين لدى ترامب في عالم الإعلام، لكنه بذل مع ذلك جهداً هائلاً للتقرب، ليس من الرئيس المنتخب فقط، وإنما من ابنته إيفانكا. خلال الحملة، قال ترامب إن أمازون “تفلت بجريمتها في مسألة الضرائب”، وإنه إذا فاز، “أوه، ستكون لديهم مشاكل”. والآن أصبح ترامب يمتدح بيزوس فجأة باعتباه “عبقرياً من الطراز الرفيع”. وفي “برج ترامب”، هنأ إيلون موسك ترامب بالإدارة الجديدة التي سترافقه السباق إلى المريخ، وهو ما جعل ترامب يقفز فرحاً. وستيفن شوارزمان، رئيس مجموعة “بلاكستون” –وصديق كوشنر- عرض تنظيم مجلس للأعمال لترامب، وهو عرض قبله ترامب. وكانت آنا وينتاور، محررة مجلة “فوغ” وملكة عالم الأزياء، قد أملت أن يتم تعيينها سفيرة أميركا إلى المملكة المتحدة في عهد أوباما، وعندما لم يحدث ذلك، تحالفت عن قرب مع هيلاري كلينتون. والآن وصلت وينتاور إلى برج ترامب (لكنها رفضت الظهور العلني الذي يشبه عرض المتهمين أمام الملأ)، واقترحت أن تصبح سفيرة ترامب إلى بلاط سانت جيمس (المملكة المتحدة). وكان ترامب ميالاً إلى دراسة الفكرة. (ولكن، كما قال بانون: “لحسن الحظ. لم تكن هناك كيمياء”).
يوم 14 كانون الأول (ديسمبر)، جاء وفد رفيع المستوى من وادي السيليكون إلى برج ترامب لمقابلة الرئيس المنتخب، حتى مع أن ترامب كان قد انتقد بشكل متكرر صناعة التكنولوجيا طوال فترة الحملة. وفي وقت لاحق من ذلك المساء، اتصل ترامب بروبرت مردوخ، الذي سأله عن كيف سار الاجتماع.
“أوه، عظيم، عظيم جداً”، قال ترامب. “حقاً، حقاً جيد. هؤلاء الناس يحتاجون مساعدتي فعلاً. أوباما لم يكن مفضلاً كثيراً لديهم، الكثير من التعليمات والأنظمة. هذه حقاً فرصة لي كي أساعدهم”.
“دونالد”، قال مردوخ، “لثماني سنوات وضع هؤلاء الناس أوباما في جيبهم. كانوا هم الذين يديرون الإدارة عملياً. إنهم لا يحتاجون مساعدتك”.
“خذ مسألة تأشيرة العمال الأجانب. إنهم يحتاجون حقاً هذه التأشيرات”.
اقترح مردوخ أنه ربما يكون من الصعب التوفيق بين اتخاذ نهج ليبرالي تجاه تأشيرات العمال الأجانب وبين وعوده الانتخابية بخصوص موضوع الهجرة. لكن ترامب بدا غير قلق، وطمأن مردوخ: “سوف نجد طريقة لمعالجة ذلك”.
“يا لك من لعين أحمق”، قال مردوخ لنفسه، وهو يهز كتفيه، بينما يغلق خط الهاتف.
* * *
قبل عشرة أيام من تنصيب دونالد ترامب ليكون الرئيس الخامس والأربعين، كانت مجموعة من موظفي ترامب الشباب –الرجال في بدلات ترامب وربطات عنقه الرسمية، والنساء بالأحذية عالية الرقاب، والتنانير القصيرة، والشعر بطول المسافة حتى الكتف، بالمظهر الذي يفضله ترامب- كانوا يشاهدون الرئيس أوباما وهو يلقي خطبة الوداع التي تنساب على شاشة حاسوب نقال في المكاتب الانتقالية.
“السيد ترامب قال إنه لم يستمع أبداً إلى خطبة كاملة لأوباما”، قال أحد الشباب بلهجة العارِف.
“إنها مملة جداً”، قال آخر.
وبينما يقدم أوباما وداعه، كانت الاستعدادات لأول مؤتمر صحفي لترامب منذ انتخابه، والذي سيُعقد في اليوم التالي، تجري على قدم وساق في القاعة. وكانت الخطة هي بذل جهد استثنائي لإظهار أن تعارض المصالح بين عمل الرئيس المنتخب التجاري الخاص وبين عمله كرئيس ستتم معالجتها بطريقة رسمية ومدروسة.
حتى هذا الوقت، كانت وجهة نظر ترامب هي أنه قد انتُخب بسبب هذه التعارضات –بسبب دهائه في العمل التجاري، صلاته، خبرته، وماركته التجارية- وليس على الرغم منها، ورأى أن من المضحك أن يظن أحد بأنه يستطيع أن يفك نفسه، حتى لو أراد ذلك. وفي الحقيقة، بالنسبة للصحفيين وكل شخص آخر يود أن يسمع، عرضت كيليان كونواي نيابة عن ترامب دفاعاً مشفقاً على الذات عن كم كانت تضحيته عظيمة مُسبقاً.
بعد صب الوقود على نار تجاهل القواعد المتعلقة بتعارض المصالح، سوف يتخذ الرئيس الآن، في نوع من الأداء المسرحي، مساراً سخياً جديداً. بينما يقف في لوبي برج ترامب، بجوار طاولة تكومت عليها رزم من ملفات الوثائق والأوراق القانونية، سوف يصف الجهود المضنية التي بُذلت لصنع المستحيل، وكيف أنه، من الآن فصاعداً، سيكون مركِّزاً بشكل حصري على شؤون الأمة.
لكن هذا بدا فجأة بعيداً تماماً عن النقطة الأساسية.
كان الديمقراطيون قد استأجروا “فيوجن جي. بي. أس”، وهي شركة استطلاعات مُعارضة (أسسها صحفيون سابقون، وتقدم معلومات للعملاء الخاصين). واستأجرت الشركة كريستوفر ستيل، الجاسوس البريطاني السابق، في حزيران (يونيو) 2016، للمساعدة في التحقيق في تفاخر ترامب المتكرر بعلاقاته مع فلاديمير بوتين وطبيعة علاقاته مع الكرملين. ومستعيناً بتقارير من مصادر روسية، الكثير منها متصل بالمخابرات الروسية، جمَّع ستيل تقريراً مدمِّراً –الملقب الآن “الدوسيه”- والذي يشير إلى أن دونالد ترامب كان موضوعاً للابتزاز من حكومة بوتين. وفي أيلول (سبتمبر)، قدم ستيل إيجازاً للصحفيين من “النيويورك تايمز”، و”الواشنطن بوست”، و”ياهو نيوز”، و”النيويوركر”، و”سي. إن. إن”. لكنهم أحجموا جميعاً عن استخدام هذه المعلومات التي لم يتم التحقق منها، بسبب مصدرها غير الواضح، خاصة بالنظر إلى أنها تتعلق بكاسب غير محتمل للانتخابات.
ولكن، في اليوم السابق لليوم المقرر للمؤتمر الصحفي، نشرت “سي. إن. إن” تفاصيل ملف ستيل. وبعد ذلك مباشرة تقريباً، نشر موقع “بز فيد” التقرير كله –في تفصيل معربد بطريقة تجاوزت العرف.
على حافة صعود ترامب إلى سدة الرئاسة، كان الإعلام، بصوته الموحد حول ترامب، ينشر مؤامرة بأبعاد هائلة. كانت النظرية، التي تم تقديمها فجأة على أنها قابلة للترجيح، أن الروس اصطادوا ترامب خلال رحلة إلى موسكو بخطة خام للابتزاز، والتي تتضمن عاهرات وأفعال جنسية مصورة بالفيديو ترتاد حدوداً جديدة من الانحراف (بما فيها “الدش الذهبي”، التبوُّل على الشريك الجنسي من أجل المتعة) مع العاهرات والأفعال الجنسية المصورة. والخلاصة الضمنية: لقد تآمر ترامب المهان مع الروس لسرقة الانتخابات وتنصيبه في البيت الأبيض كعميل لبوتين.
إذا كان ذلك صحيحاً، فإن الأمة كلها تكون قد وقفت عند واحدة من أكثر اللحظات لا عادية في تاريخ الديمقراطية، والعلاقات الدولية، والصحافة.
وإذا لم يكن صحيحاً –وكان من الصعب العثور على حل وسط- فإنه سيبدو وكأنه يدعم وجهة نظر ترامب (ووجهة نظر بانون) القائلة بأن الإعلام، في تطور دراماتيكي تماماً أيضاً في تاريخ الديمقراطية، قد عمي تماماً بسبب الإحباط والاشمئزاز، على المستوى الأيديولوجي والشخصي على حد سواء، من القائد المنتخب ديمقراطياً، حتى أنه يحاول بكل وسيلة إسقاطه. وفي التعليق، ناقش مارك هيمنغواي من صحيفة “ويكلي ستاندرد” المحافظة، وإنما المناهضة لترامب، التناقض الأصيل لروايتين غير موثوقتين تهيمنان على الحياة العامة الأميركية: حديث الرئيس المنتخب الذي يضم القليل من المعلومات -وفي كثير من الأحيان من دون أسس واقعية؛ في حين أن “الإطار الذي اختار الإعلام اعتناقه هو أن كل شيء يفعله الرجل هو -كواقع افتراضي- – غير دستوري أو استغلال للسطلة”.
في مساء 11 كانون الثاني (يناير)، حدثت المواجهة بين هذين التصورين المتعارضين في لوبي برج ترامب: المسيح الدجال السياسي، والشخصية في قصة فضيحة قاتمة، بوجه مهرج، وفي جيب خصم أميركا الملحمي، في مقابل إعلام الرعاع الثوري المحتمل، المخمور بالفضيلة وبنظريات المؤامرة. وقد شكل كل طرف بالنسبة للآخر نسخة “مزورة” منزوعة الصدقية بالكامل من الحقيقة.
إذا بدت هذه الملاحظات عن الشخصيات شبيهة بنماذج كتب الشخصيات المصورة، فقد كان ذلك بالضبط ما تمخض عنه المؤتمر الصحفي.
في البداية، يمتدح ترامب نفسه:
“سوف أكون أكبر منتج للوظائف خلقه الله…”.
ثم ثرثرة غير بارعة عن القضايا المنظورة أمامه:
“المتقاعدون المصابون بسرطان صغير لا يستطيعون زيارة طبيب حتى ختام العمر…”.
ثم الشكوك:
“كنت في روسيا قبل سنوات مع مسابقة ملكة جمال الكون –وأبليت بلاء حسناً جداً جداً- أقول للجميع أن يكونوا حذِرين، لأنك لا تريد أن ترى نفسك على شاشات التلفاز –الكاميرات في كل مكان. ومرة أخرى، ليس في روسيا فقط، وإنما في كل مكان. وإذن، هل يصدِّق أحد حقاً تلك القصة؟ أنا أيضاً مصاب إلى حد كبير بفوبيا الجراثيم والنظافة، بالمناسبة. صدقوني”.
ثم الإنكار:
“ليست لديَّ أي صفقات في روسيا، وليست لدي صفقة يمكن أن تحدث في روسيا لأننا بقينا بعيدين عنها، وليست لدي قروض مع روسيا. يجب أن أقول شيئاً واحداً… في نهاية الأسبوع عُرض علي مليارا دولار لإبرام صفقة في دبي ورفضتها. لم أكن مضطراً إلى رفضها، لأن لدي كما تعرفون مكانة عدم تعارض المصالح كرئيس. لم أعرف عن ذلك إلا قبل ثلاثة أشهر، لكن التمتع به شيء لطيف. لكنني لم أُرِد أن أستغل أي شيء. لديّ مادة في القانون عن عدم تعارض المصالح كرئيس. وأستطيع في الحقيقة أن أدير عملي، أن أدير عملي وأدير الحكومة في نفس الوقت. أنا لا أحب الطريقة التي يبدو عليها ذلك لكنني يمكن أن أتمكن من فعله إذا أردت. أستطيع أن أدير منظمة ترامب، وهي شركة عظيمة، عظيمة جداً، وأستطيع أن أدير البلد، لكنني لا أريد أن أفعل ذلك”.
ثم الهجوم المباشرة على “سي. إن. إن”، عدوه اللدود:
“إن منظمتكم مريعة. منظمتكم مريعة…. اصمتوا… اصمتوا… لا تكونوا وقحين… لا تكونوا… كلا، لن أعطيكم سؤالاً…. لن أعطيكم سؤالاً… أنتم جماعة الأخبار المزيفة…”.
والخلاصة:
“ذلك التقرير في المقام الأول ما كان ينبغي أن يُطبع أبداً لأنه لا يستحق ثمن الورق الذي طُبع عليه. سوف أخبركم بما لن يحدث أبداً أبداً. قامت الصين بقرصنة اثنين وعشرين مليون حساب. ذلك لأنه ليس لدينا دفاع، لأننا يديرنا أناس لا يعرفون ماذا يفعلون. سوف يكون لدى روسيا احترام أكبر بكثير لبلدنا عندما أقودها أنا. وليس روسيا فقط، الصين، التي استغلتنا استغلالاً كاملاً. روسيا، والصين، واليابان، والمكسيك، كل البلدان سوف تحترمنا أكثر بكثير، أكثر بكثير مما فعلت في عهد الإدارات السابقة…”.
لم يقتصر الأمر على أن الرئيس المنتخب عرض أحزانه ومظالمه العميقة والمريرة على الملأ، وإنما أصبح واضحاً الآن أن حقيقة كونه قد انتخب رئيساً لن تغير من طريقة عرضه غير المُصفى، غير المسيطر عليه بوضوح، والمرتجل تماماً، للجراح، والسخط، والحنق.
“أعتقد أنه أبلى حسناً”، قالت كيليان كونواي بعد المؤتمر الصحفي. “لكن الإعلام لن يقول ذلك. لن يفعلوا أبداً”.
*مايكل وولف (المولود في 27 آب/ أغسطس 1953)، هو مؤلف أميركي، وكاتب، وصحفي، وكاتب عمود ومساهم في “يو أس توداي”، و”هوليوود ريبورتر”، وطبعة المملكة المتحدة من “جي كيو”. حصل على جائزتين من “مجلة ناشيونال ماغازين”، و”جائزة الميرور”، وألف سبعة كتب، منها Burn Rate عن شركة دوت كوم الخاصة به، في العام 1998، وThe Man Who Owns the News، وهو سيرة روبرت مردوخ، في العام 2008. شارك في تأسيس موقع تجميع الأخبار “نيوزر”، وهو محرر سابق في “أدويك”.
*من كتاب
Fire and Fury: Inside the Trump White House.
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 14/1/2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى