#ترجمات عبريةشؤون اقليمية

المنافسة بين الدول العظمى الاقليمية: قواعد خارجية ومبعوثين

بقلم: رون تيره ويوئيل  جوجنسكي 1/6/2018

مقدمة:

في السنوات الاخيرة ترتكز المنافسة في الشرق الاوسط بين الدول الاقليمية العظمى: ايران والسعودية وتركيا واسرائيل، وبدرجة اقل مصر الغارقة في تحدياتها الداخلية. ويمكن تعداد اتحاد الامارات العربية ايضا التي تعمل ولو بصورة جزئية بالشراكة مع السعودية ومصر. اساس العداء هو في المثلث الذي توجد في احد اطرافه ايران (وحلفاؤها غير الدول والنظام العلوي) وفي الرأس الثاني تركيا (وبدرجة ما قطر)، وفي الثالث (كل ما تبقى).

هذه الدول الاقليمية المتعادية على الاغلب لا تجاور الواحدة الاخرى، والمنافسة فيما بينها تجري على الاغلب بصورة غير مباشرة وعلى اراضي دول ثالثة. حتى في الحالات التي تحاذي فيها الدول الاقليمية بعضها مثل ايران وتركيا (وحتى الحدود البحرية بين السعودية وايران في الخليج الفارسي) فان المنطقة الحدودية نفسها لا تشكل في هذه الاثناء بؤرة منافسة، بل المنافسة تتركز الآن في فضاءات اطراف ثالثة. اضافة الى ذلك حتى في حالة التدخل العسكري لدولة عظمى اقليمية في اراضي دولة محاذية لها، فان التدخل لا يكون بالضرورة في مناطق الحدود واحيانا يكون في عمق الدولة المحاذية (مثلا التدخل الايراني في ارجاء العراق أو مساعدة ودعم السعودية للاقليات العرقية في ايران).

بشكل عام يمكن القول إن جيوش الدول الاقليمية العظمى بنيت من اجل الدفاع عن حدودها، لكن الحاجة للتدخل في اراضي اطراف ثالثة واحيانا حتى من اجل اظهار القوة تجاه دول منافسة اقليمية غير محاذية لها – التي لم تكن في مركز بناء القوة – تحظى في السنوات الاخيرة باهتمام كبير. هذه الحاجة تؤدي الى ثلاثة اتجاهات لبناء القوة: الاول، التزود بسلاح يمكن من استخدام قوة بعيدة المدى. مثال على ذلك، تسلح مصر بسفن برمائية من نوع”مسترال” أو تسلح السعودية بطائرات مروحية قتالية اخرى. التأكيد الايراني على التسلح بصواريخ بمدى 1000 – 2000 كم وحتى زيادة أهمية السايبر الذي يمكن من استخدام قوة لمسافات غير محدودة. الاتجاه الثاني هو انشاء قواعد ومنشآت عسكرية في دول ثالثة. والاتجاه الثالث هو توسيع استخدام شبكة مبعوثين ليسوا من دول.

هذا المقال يركز على الاتجاهين الاخيرين، انشاء قواعد عسكرية في دول ثالثة واستخدام شبكات المبعوثين. الادعاء في هذا المقال هو أن هذه الاتجاهات تعبر عن مسائل عميقة اكثر مثل تحدي المقاربة و”المقاربة العملياتية” للدول الاقليمية لمجالات اهتمامها، والحاجة المتزايدة لاظهار القوة بعيدا عن حدودها والدفاع عن مصالحها في المنافسة على النفوذ الاقليمي، وضمن امور اخرى، على خلفية الهزة في العالم العربي التي خلفت فضاء للقوة في مجالات كثيرة.

القواعد الخارجية

في السنوات الاخيرة تزداد ظاهرة انشاء قواعد خارجية في الشرق الاوسط، في شمال افريقيا وفي القرن الافريقي من قبل جيوش الدول العظمى الاقليمية التي بدأت في التمركز في مناطق دول ثالثة – هذا خلافا للسابق، الذي كان فيه بناء قواعد خارجية بالاساس من نصيب الدول العظمى العالمية (في سياق احلاف دفاعية، اتفاقات كولونيالية وما اشبه). صحيح، اقامة قواعد خارجية في دول ثالثة كان دلالة واضحة على الحرب الباردة والمنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. وعند انتهاء الحرب الباردة حظيت الولايات المتحدة بتفوق واضح في هذا المجال مقارنة مع كل لاعبة اخرى. هذا على الاغلب، مقابل ضمانات دفاعية من قبلها، أو في سياق بيع وسائل قتالية من انتاجها. في عدد من الحالات تم هذا الامر كجزء من نظام الردع النووي العالمي للولايات المتحدة. الامريكيون ورثوا قواعد كثيرة من بريطانيا وأخرى بنيت كوسيلة لترسيخ الوجود و”رفع الراية”. اليوم تشكل القواعد الخارجية مكون في الاستراتيجية الامريكية المعدة لخدمة النضال ضد انتشار السلاح النووي ومحاربة الارهاب العالمي وحماية حرية الملاحة والتزود المنتظم بالنفط.

القواعد الجديدة للدول العظمى الاقليمية في الشرق الاوسط تتم اقامتها في سياقين: الاول، قواعد في دول يجري في اراضيها قتال، أي قواعد تمكن قوة عسكرية من الوصول الى مناطق القتال (مثل جزء من القواعد الايرانية في سوريا) وبالاساس في مناطق متخلفة تجري فيها حروب اهلية، التي تشكل نوع من “ساحة للعب” للاعبين اقليميين ودوليين. السياق الثاني هو قواعد انشئت في اراضي دول لا توجد فيها حرب لكن هذه القواعد تمكن الوصول الى ساحات بعيدة الى جانب القدرة على اظهار القوة تجاه دول اخرى (مثل القاعدة التركية في قطر). الدوافع التي تحرك الدول المضيفة تتراوح بين اعتبارات استراتيجية (مثل الاعتبار القطري) واعتبارات تميل اكثر نحو الاعتبار الاقتصادي (مثل الاعتبار السوداني).

اللاعبة التي تقود منحى الانتقال من المواجهات (على الحدود) الى اللعبة التي تجري على طول الساحة وعرضها، هي ايران. حسب منشورات مختلفة في وسائل الاعلام العلنية، يوجد لايران عدد من القواعد في سوريا (بما فيها قرب حلب، في مطار دمشق الدولي وفي قاعدة “تي 4” التي هاجمها سلاح الجو الاسرائيلي) وهي توجد في عملية انشاء قاعدة للمليشيات الشيعية، وربما فيما بعد قاعدة بحرية. كلما تقدمت عملية استقرار سوريا، يمكن الافتراض أن ايران ستسعى، سواء الى التموضع في مواقع اخرى أو تحويل هدف قواعدها في سوريا من دعم القتال في الحرب الاهلية في الاساس الى بث قوة اقليمية وحتى استخدامها اثناء الحرب مع اسرائيل. ايران ايضا تعمل على انشاء مصانع سلاح في سوريا ولبنان. يبدو أن ايران تريد اقامة تواصل جغرافي بري – يمر في معظمه في مناطق صديقة (بالاساس شيعية أو غير مأهولة) – من اراضيها الى الحدود السورية لهضبة الجولان والى شواطيء البحر المتوسط في سوريا ولبنان. ايران استخدمت في الماضي ميناء بور سودان وكانت لها قاعدة قرب ميناء اساب في اريتيريا الموجود الآن في أيدي اتحاد الامارات. وهي تسعى الى الحصول على ميناء في اليمن، وكما قلنا في سوريا ايضا.

في الجانب الثاني من المتراس تقيم السعودية حسب التقارير قاعدة في جيبوتي (التي استضافت في الماضي قوات اتحاد الامارات) المحاذية لباب المندب. واتحاد الامارات تسيطر على قواعد في سومليلاند وهو ميناء ومطار مؤجرة لثلاثين سنة وفي أساب في اريتيريا – مستعينة بقواعدها في افريقيا لتنفيذ هجمات في اليمن. دولة الامارات تسيطر على قواعد في اليمن نفسها بما في ذلك على الجزيرة اليمنية بريم. الامارات ايضا تنفذ هجمات جوية في ليبيا من قواعد في مصر وفي ليبيا نفسها، حيث هناك، حسب التقارير، تنشيء قاعدة جديدة. الحديث يدور على الاغلب عن منشآت عسكرية محدودة تضم مدرجات هبوط أو مناطق رسو، وعدة مباني ومعدات لوجستية (خلافا للقواعد الضخمة الامريكية في الخليج على سبيل المثال).

تركيا تسيطر على عدد من القواعد في شمال العراق وشمال سوريا دون تنسيق مع الحكومتين في بغداد ودمشق، وضمن امور اخرى من اجل تمكين الوصول الى فضاءات عمل ضد الاكراد. يوجد لتركيا قواعد ايضا في الصومال وقطر حيث تشكل القواعد في قطر جزء من سبب النزاع بين قطر وجاراتها، دول الخليج العربية. في كانون الاول 2017 جاءت تقارير تفيد أن تركيا وقعت على اتفاق مع السودان بحسبه تستطيع اقامة وجود عسكري في السودان وفي مياهه الاقليمية، بما في ذلك قاعدة في الجزيرة السوداني سواكن، وهي تجري مفاوضات لاقامة قاعدة اخرى في جيبوتي. القاعدة التركية في قطر تشكل كما قلنا عنصر في الازمة السياسية في الخليج، في حين أن اقامة القادة التركية في السودان ساهمت في الازمة السياسية في علاقة السودان مع مصر واريتيريا. وحتى جاءت تقارير عن نشر قوات مصرية في اريتيريا وعن تجميع قوات سودانية مقابلها. بشكل عام يمكن القول إن جزء كبير من القواعد الخارجية موجودة على طول المسارات البحرية للخليج الفارسي، بالاساس في البحر الاحمر. وأن المسارات البحرية هذه تشكل ساحات بناء قوة هامة لجيوش القوى العظمى الاقليمية. المزيد من الأيدي العسكرية موضوعة على خطوط الوصول الجنوبية لقناة السويس. وهذا الامر يلقي تهديد استراتيجي على مصر وعلى الاقتصاد الدولي.

مبعوثون

هناك انواع مختلفة من المبعوثين: من يعملون بتعليمات من طرف ثالث (أي ليس لديهم ارادة سياسية أو استراتيجية مستقلة). زبائن يحظون برعاية مع الحفاظ على ارادتهم المستقلة. وهناك من يكتفون بالتعاون بين الفينة والاخرى مع راع على اساس تشابه مصالح محددة. المرسل من شأنه أن يستخدم المبعوث من أجل تنفيذ استراتيجيات محددة (حرب عصابات أو استنزاف) أو ابعاد نفسه عن المواجهة، أو تقليص تكلفة واخطار المواجهة، أو اشغال العدو في ساحة ثانوية. أو ببساطة لاعتبارات مقاربة عملياتية: تمكين وصول عسكري فعال الى ساحة يكون الوصول التقليدي اليها معقد. ايران بدأت في استخدام المبعوثين بشكل كبير لاسباب ادارة التكاليف والاخطار وابعادها عن المواجهات. هكذا مثلا الاسلوب الذي اتبعته في استنزاف القوات الامريكية في العراق الى حين اخراجها من هناك، استهدفت ابعاد ايران عن خطر المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وتزويدها بقدرة انكار. استخدام المليشيات الشيعية في سوريا الذي تم تسريعه في سياق تكبد خسائر كبيرة للايرانيين وتقليص التدخل الايراني المباشر في القتال في سوريا، استهدف تقليص ثمن القتال بالنسبة لايران. ولكن بدرجة كبيرة، المبعوثون الايرانيون استهدفوا أن يوفروا لها ايضا الوصول الى ساحات مختلفة. حزب الله يمكن ايران من الوصول بشكل عملياتي  الى اسرائيل منذ الثمانينيات، وفي السنوات الاخيرة فان المبعوثين المختلفين هم وسائل الوصول الاساسية الى ساحات مثل اليمن. الخبرة الايرانية في موضوع تشغيل المبعوثين كبيرة جدا الى درجة أن دول كثيرة مثل باكستان تريد التعلم من تجربتها هذه.

ايران اعتادت في الماضي على خلق أو تبني مبعوثين من بين الطوائف الشيعية التي تسكن في نطاق اهتمامها. لقد زادت قوات شيعية تعمل في الاصل في ساحات اهتمامها حيث وفرت لهم توجيه وتدريب ومعلومات استخبارية ووسائل قتالية ووسائل انتاج واموال وهبات وتوجيه ديني وغيرها. امثلة بارزة في هذا المجال هو حزب الله (الذي الى جانب كونه الجسم العسكري الاهم في لبنان هو ايضا منظمة دينية، اجتماعية وسياسية)، مليشيات شيعية في العراق مثل البدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وكذلك الحوثيين في اليمن. مع ذلك يوجد لايران ايضا تعاون استراتيجي أو تكتيكي محدود مع جهات غير شيعية مثل حماس والجهاد الاسلامي الفلسطيني أو جهات كردية.

التجديد في نسيج المبعوثين الايرانيين هو كما اسلفنا استخدام مليشيات المرتزقة الشيعيين، بالاساس مثل المجندين من افغانستان وباكستان. تلك المليشيات انشئت في السنوات الاخيرة على أيدي حرس الثورة وقوة القدس لمساعدة نظام الاسد في الحرب ضد خصومه، وضباط ايرانيون تم وضعهم في هذه القوات كموجهين ومدربين وقادة. خلافا للمبعوثين الايرانيين التقليديين الذين عملوا في الساحة الداخلية لهم، فان المليشيات مكونة من اجانب وهي ليست جزء من النسيج الطبيعي للساحة التي ارسلوا اليها. بناء على ذلك فان الامر يتعلق بكونه المرة الاولى في “مليشيات المرتزقة” التي يمكن احضارها الى ساحات مختلفة حسب الحاجة. مع ذلك، على الاقل في الوقت الحالي، يوجد للمليشيات عدة نقاط ضعف. الاولى، جودتها المتدنية الآن، بالتأكيد مقارنة مع حزب الله. الثانية، الشك بخصوص مستوى التزام واخلاء تلك القوة الذين هم فعليا مرتزقة تماما. الثالثة، لأنها اجنبية – بما في ذلك في عنصر الهوية العرقية (وفي فضاءات مثل هضبة الجولان السورية، ايضا الهوية دينية) – بهذا سيجدون صعوبة للعمل في اوساط السكان المحليين اذا كانت حاجة لذلك.

ينقص دول الخليج العربي وتركيا التجربة في تشغيل مبعوثين مثل التجربة التي راكمتها ايران على مدى السنين، وفي كل الاحوال هناك مادة علنية قليلة عن استخدامهما لمبعوثين. معروف أن السعودية مثلا أيدت في الماضي المجاهدين الافغان، وبعد ذلك أيدت مجموعات متمردة تحارب ضد نظام الاسد وحلفائه في سوريا، وليس مستبعدا أن السعودية دعمت طوال سنين مجموعات عرقية مختلفة في ايران مثل الاذريين والعرب والبلوش.في هذا السياق وردت تقارير أنه في السنوات الاخيرة ازدادت التحويلات المالية من السعودية الى منظمات سلفية متطرفة جدا في بلوشستان، ومعهد ابحاث سعودي متماهي مع ولي العهد محمد بن سلمان، دعا حتى الى “اتخاذ خطوات وقائية حالية” ضد ايران في هذا السياق. الى جانب ذلك يوجد للسعودية ودول الخليج تجربة كبيرة في تشغيل شركات حماية خاصة غربية لاغراض داخلية – بالاساس الاعمال الشرطية والدفاع عن ممتلكات وجمع المعلومات. كما أنها ايضا تشغل شركات أمن خاصة ومرتزقة وتجند ابناء قوميات اخرى لمهمات تكون فيها حاجة الى تشغيل سلاح متطور أو من اجل احتكاك مع السكان المحليين (نذكر حالة البحرين حيث كان فيها قوات اجنبية باكستانية واردنية مسؤولة عن تصفية التمرد الداخلي الشيعي في المملكة في بداية 2011).

تحدي الوصول

يمكن الادعاء أن مسائل القواعد والمبعوثين متفرعة من مسألة اكثر عمقا: تحدي المقاربة للدول العظمى الاقليمية لفضاءات تكمن فيها مصالحها، أو قدرتها على الوصول العملياتي الى منافساتها الاقليميات. يمكن ايضا الادعاء ان جيوش الدول العظمى الاقليمية بنيت من اجل الدفاع عن حدودها، واحيانا سوية مع شركاء (تركيا مع الناتو، السعودية مع الولايات المتحدة)، وليس للعمل في ساحات بعيدة. ولكن الحاجة الى العمل في ساحات بعيدة زادت في السنوات الاخيرة، لا سيما في اعقاب انهيار عدد من الدول العربية ومحاولة اختراق تركيا وايران للفضاء العربي. إن اللعبة بين الدول الاقليمية تحولت بالتدريج الى اللعبة الاساسية في الشرق الاوسط.

ايران تعمل في الاساس في الفضاء الشيعي أو من داخلها. ولكن ايضا مقاربتها لهذا الفضاء غير مفهومة ضمنا. على سبيل المثال، يوجد لايران تحدي مقاربة لليمن، الذي يضر بقدرتها على توفير مساعدة هامة للحوثيين. ليس القصد هو أن ايران غير قادرة اطلاقا على توفير المساعدة للحوثيين – هي بالتأكيد توفر لهم هذه المساعدة، التي زادت كما يبدو بعد بداية تدخل السعودية في اليمن. ولكن خصائص نقل المساعدة ليست مثل التي يمكن توقعها من دولة عظمى اقليمية.

ايران تقبل فعليا بالحصار البحري الذي فرضته السعودية وحلفاؤها على اليمن (بمعنى أن الاسطول الايراني لا يحاول رفع الحصار) وهي تكتفي بارسال خبراء وتقديم مساعدة مالية وتهريب وسائل قتالية بمختلف الوسائل التي لا تظهر هويتها والتي تقيد ضمن امور اخرى حجم المساعدة. نماذج التهريب تتناسب مع سلوك لاعب معاق أو ارهابي وليس دولة عظمى اقليمية.

يوجد لايران ايضا تحدي وصول الى لبنان يجد تعبيره في النضال ضد اسرائيل حول توفير وسائل قتالية متقدمة لحزب الله. ومثلما في حالة الحوثيين، ليس القصد أن ايران تجد صعوبة في تهريب السلاح أو أن رجالها يجدون صعوبة في الوصول الى لبنان، لكن المقاربة ليست بدون تشويش وهي مشروطة اساسا بمستوى عدوانية اطراف ثالثة. اسرائيل يمكنها أن تصعب على ايران (وهي تصعب حسب تقارير وسائل الاعلام)، الوصول الى لبنان، والسعودية وحلفاؤها يمكنهم التصعيب عليها (وهم يصعبون) الوصول الى اليمن. اثناء كتابة هذه السطور فان المقاربة الايرانية لسوريا ما زالت مرتبطة بدرجة كبيرة بالتعاون الروسي (وحتى درجة مواصلة الادارة الامريكية الضغط على محاور التزويد الايرانية على الحدود بين سوريا والعراق كما فعلت في ايار 2017). مقاربة ايران لساحة اليمن مرتبطة ايضا بدرجة ما بتعاون أو غض الطرف من ناحية عُمان التي عن طريقها يجري جزء من التهريب.

اجل، حقيقة أن مقاربة ايران لقلب سوريا تتم اساسا من الجو (وخاضعة لقيود مرتبطة بذلك مثل الاعتماد على السيطرة على المطارات وامكانية اعتراض طائرات) توفر لايران المحرك للتطلع لايجاد محور بري ثابت الى سوريا ولبنان. هناك عدد من وسائل الوصول البرية المحتملة من ايران عبر العراق الى سوريا ومنها الى لبنان، ولكن كل واحدة منها تتميز بتحد ما. من المعقد العثور على طريق للوصول تمر بصورة متواصلة في مناطق شيعية، تقريبا في كل بديل هناك مقاطع تمر في اراضي مجموعات عرقية اخرى، أو للاسف في مناطق صحراوية مفتوحة. صحيح أن ايران تحد العراق لكن حتى الوصول الى عمق المناطق السنية في العراق ليست مفهومة ضمنا بالنسبة لايران.

اساس الوصول العملياتي الايراني لاسرائيل هو عبر مبعوثين (حزب الله)، وربما لاحقا سيتم ذلك بواسطة التمركز في سوريا وملء الفراغ الذي تركته “الدولة الاسلامية”. المقاربة العملياتية المباشرة لايران (من اراضيها) الى اسرائيل محدودة حقا، ويبدو أنه يمكن التعامل معها على أنها تتضمن صواريخ (مئات) وسايبر فقط. ايضا الوصول العملياتي لها للسعودية ودول الخليج محدود. هجوم بري ليس احتمال قابل للتنفيذ كما يبدو، لذلك فان استخدام المبعوثين – العمل السري في ساحات مثل البحرين والمنطقة السعودية الشرقية التي يسكنها الشيعة بمعظمها والحوثيين في اليمن – تبدو هي الاكثر عملية. ومثلما في حالة اسرائيل، ايضا في هذه الحالة يوجد لايران مقاربة عملياتية مباشرة بواسطة نيران عالية المسار والسايبر، وإن كان في الحالة السعودية يمكن للبحر ان يشكل ساحة للمواجهة المباشرة.

ولكن ايران يتم تحديها ايضا بالمقاربة العملياتية البحرية. معظم قواتها في مياه الخليج هي قوات استنزاف، أي الاضرار بحرية الملاحة للآخرين، ولكن لا يبدو أن ايران قادرة على خلق تفوق بحري وأن توفر لنفسها حرية ملاحة، اذا قرر اعداؤها تحديها. ايران تسعى الى وجود بحري ايضا في باب المندب، في شرق افريقيا والبحر الاحمر، وسفنها رفعت اعلامها حتى في البحر الابيض، لكن سفن قديمة معدودة تبحر بعيدا عن بلادها دون تفوق جوي، هي بدرجة كبيرة اهداف سهلة وليست بالتحديد تهديد استراتيجي.

يوجد للسعودية وحلفائها مصالح حيوية في ارجاء الشرق الاوسط، من العراق ومرورا بسوريا ولبنان وانتهاء بليبيا. هناك ساحات محاذية يعتبر الوصول اليها سهل نسبيا، مثلا اليمن (دون أن يضمن هذا الامر نتائج عسكرية حاسمة) وحتى المقاربة العملياتية لليبيا البعيدة نسبيا، هي سهلة، من مصر مثلا. ولكن يبدو أنه للسعودية وحلفائها هناك نقص في وسائل التأثير “القاسية” في سوريا، في لبنان وربما حتى في العراق، واساس تأثيرها هو بالوسائل “الناعمة” – في المقام الاول تمويل لاعبين ليسوا دول – الذين نجاعتهم على الاقل في هذه الحالات متواضعة جدا. الدول العظمى الاقليمية العربية السنية لم تفز بـ “بطاقة مشاركة” قوية بما يكفي في استقرار وتشكيل سوريا،كما أن تأثيرها على الاحداث في العراق قليل. حتى أنها تجد صعوبة في تحقيق انجازات مهمة منذ ثلاث سنوات في “الساحة الخلفية” لها – اليمن.

رغم أن العراق وسوريا هما الساحة الخلفية التاريخية لتركيا، ايضا هذه تجد صعوبة في تطوير مقاربة عملية للوصول الى قلب هاتين الدولتين. قوات الجيش التركي تعمل بصورة مباشرة في مناطق محاذية للحدود فقط. والمبعوثون محددون بالمجموعات السكانية العرقية بالاساس في الجنوب، لكن بمحاذاة الحدود التركية السورية. تركيا لم تنجح في الحصول على طريقة عملية للوصول الى قلب العراق وسوريا (الموصل هي الشاذة، وحتى التدخل التركي فيها لم يكن كبير)، لذلك، لن تحقق تأثير كبير في التشكيل السياسي المستقبلي. فعليا، باستثناء اثبات القدرة على الاستنزاف العسكري في سياق التبلور المحتمل لكيان سياسي كردي، فان تركيا لا تنجح في خلق تأثير عسكري (وفي اعقابه نفوذ سياسي حاسم) في أي ساحة من ساحات المواجهة الحالية في الشرق الاوسط. القاعدة التركية في قطر لا تعتبر ذخر يساهم بشكل خاص في تاسيس قوة عسكرية تركية في الخليج، بل يستهدف بشكل اكبر محاولة الحفاظ على حكم الامير الحالي، وبهذا هو يساهم بدوره في ازمة العلاقات بين قطر وجاراتها في الخليج.

الاشتقاق الاسرائيلي

التحدي الاساسي لاسرائيل في هذا الوقت هو ايران: المشروع النووي الايراني، بناء القوة الايرانية قرب اسرائيل (قوات ايرانية في سوريا وحزب الله في لبنان وسوريا، بما في ذلك اقامة مصانع سلاح متقدم في هذه الساحات)، نقل وسائل قتالية في خطوط مختلفة في الشرق الاوسط وشرق افريقيا، تحدي حلفاء اسرائيل وتهديد محتمل بعيدا عن اراضي اسرائيل لحقول الغاز وخطوط الملاحة والطيران وما اشبه. من المعروف أن جزء من التحديات التي تضعها ايران امام اسرائيل يجري في ساحتها الخلفية، في لبنان وسوريا، أي على مدى اعتادت اسرائيل على العمل فيه.

هناك درجة آخذة في الازدياد من عدم التناظر في الوصول العملياتي بين اسرائيل وايران. عن طريق مبعوث (حزب الله) وربما في المستقبل بواسطة قواعد خارجية (وجود عسكري مباشر في سوريا موجه نحو اسرائيل) تطور ايران قدرة ضربة واسعة وطويلة (التي قوتها تزداد تطورا) ضد اسرائيل. اسرائيل في المقابل تحتاج الى تعقيد عملياتي من اجل الوصول الى ايران، خاصة عندما يدور الحديث عن الوصول الى مكان واسع وممتد.

انعدام التناظر في المقاربة العملياتية المتبادلة بين ايران واسرائيل يقتضي من اسرائيل ان تواجه طرفين: المقاربة الايرانية لاسرائيل والمقاربة الاسرائيلية لايران. في البداية المقاربة الايرانية لاسرائيل. “الخيول هربت من الاسطبل”، طالما أن الحديث يدور عن بناء نظام نيران ثابت وما أشبه، الذي يتم تشغيله من قبل مبعوث، لكن يبدو أن ايران تطمح الى السماح بنوع من التماثل في نوعية ضربات النار – وهو منحى يحظر على اسرائيل قبوله. حسب تقارير مختلفة، اسرائيل عملت بدرجة كبيرة من النجاح لتقليص ارساليات من الوسائل القتالية النوعية لحزب الله، ولكن انشاء مصانع لانتاج سلاح نوعي في لبنان وسوريا  عادت وزادت حدة هذا التهديد. يبدو، اذا كان الامر كذلك، ان الخط الاحمر الذي يجب على اسرائيل رسمه هو تسلح حزب الله بمنظومات سلاح متقدمة (صواريخ دقيقة، صواريخ بحر – شاطيء بعيدة المدى، سلاح للتدمير الشامل) التي يمكنها أن تعطي المبعوث قدرة على اطلاق ضربة شاملة ضد اسرائيل، مع التركيز على انتاجها في الساحة.

بالنسبة لوجود ايران في سوريا، هذا موجود في مستوى محتمل طالما أن الامر يتعلق بمليشيات اجنبية (ستجد صعوبة في الانصهار داخل المدنيين) أو قوات ايرانية خفيفة، التي اساس قدرتها هو في الحرب الحضرية في مدن سوريا ومستوى تهديدها على اسرائيل ليس مرتفعا. حتى التهديد الكامن بوجود مليشيات شيعية في جنوب سوريا أقل في مستواه من التهديد الكامن في وجود حزب الله في جنوب لبنان. المليشيات الشيعية هي نبتة غريبة، لذلك يصعب عليها الاختفاء في اوساط المدنيين، والطبوغرافيا في جنوب سوريا اكثر سهولة لاسرائيل مقارنة مع جنوب لبنان.

ايضا انشاء ميناء أو مطار عسكري ايراني في سوريا ليس امر غير محتمل بالنسبة لاسرائيل. يوجد لاسرائيل نوعين من التحديات أمام ايران وحزب الله: الاختفاء في اوساط المدنيين (حزب الله) أو الصعوبة الجغرافية في المقاربة (ايران). قوة ايرانية بصورة واضحة رسميا ومعزولة نسبيا، التي يكون لاسرائيل قدرة وصول عملية سهلة اليها، لا تحظى بتفوق. ميناء عسكري ايراني في سوريا مثلا، يشكل هدفا يمكن ايضا ان يكون معروفا وكذلك تكون لاسرائيل قدرة عملية سهلة للوصول اليه. لذلك، فان قاعدة خارجية ايرانية كبيرة في سوريا من شأنها أن تثقل على ايران اكثر مما تثقل على اسرائيل التي من شأنها أن تحظى برافعة ضغط على ايران، دون أن تتحمل تهديد غير قابل للحل. حتى في هذه الحالة فان الخط الاحمر يمر في مجال السلاح النووي: نشر مستقبلي ايراني لانظمة متطورة في الاراضي السورية مثل انظمة دفاع جوي متقدمة من عائلة اس 300 وصواريخ ارض – ارض دقيقة أو صواريخ شاطيء – بحر/ شاطيء نوعية هي امر غير محتمل من ناحية اسرائيل وعليها العمل بكل الوسائل لمنعها.

بالنسبة للجانب الثاني من عدم التوازن في المقاربة العملياتية بين اسرائيل وايران: دائما كان وما زال لاسرائيل قدرة على العمل بعيدا عن حدودها، وحسب ادعاءات مختلفة تتعلق بالماضي، في تونس والسودان والعراق، لكن هذه العمليات كانت محدودة في اهدافها، في حجم القوات المشاركة، وفي زمن العملية وما اشبه. في الواقع الحالي تحتاج اسرائيل، سواء القدرة على ادارة نشاط عسكري واسع امام ايران التي ليست على حدودها، أو قدرة عمل عسكرية محددة امام ايران ومبعوثيها في ارجاء الشرق الاوسط. هذان الامران يحتاجان الى التنسيق في بناء القوة بدء من تعزيز قدرة تحقيق تطور جوي بعيدا عن البلاد من خلال تعزيز استبدال طيف واسع من القدرات المساعدة لفضاءات عمل بعيدة والاحتفاظ بها هناك بصورة مستمرة (قدرات جمع المعلومات، حرب الكترونية، اكتشاف، سيطرة، تزود بالوقود)، وحتى تعزيز قدرة العمل بعدم انكشاف وعدم احتكاك كبير. هذه القدرات يتم تشغيلها من اسرائيل نفسها، لكن يمكن تشغيلها بالتنسيق مع بعض حليفات اسرائيل.

انشاء قواعد ثابتة وهامة في مناطق دول اخرى ليس سهلا من ناحية اسرائيل. باختصار، يمكن القول إنه من السهل اكثر تأييد القيام بعملية محددة يتم تشغيلها من اراضي دولة ثالثة (مثل تأييد عملية عنتيبة من اراضي كينيا)، وربما يمكن اقامة نشاط متواصل معين دون الاعلان الرسمي عنه في اراضي دولة اخرى.

اسرائيل استخدمت في الماضي مبعوثين (وكلاء مثل جيش لبنان الجنوبي) وتعاونت مع زبائن ليسوا دول مثل الاكراد والعراقيين والمسيحيين في لبنان، لكن من المشكوك فيه اذا كان استخدام مبعوثين يعتبر في صلب التفوق النسبي لاسرائيل، وقدرتها على تطبيق سياستها بواسطة الانضمام الى زبائن اثبتت نجاحها فقط في حالات قليلة. مع ذلك تستطيع اسرائيل تأييد جهات مختلفة توجد اصلا في مواجهة مع ايران في ساحات مختلفة، وجهات تعمل ضد النظام داخل ايران. اسرائيل يمكنها ايضا التعاون مع لاعبين اقليميين مختلفين الذين قدرتهم على تشغيل وكلاء افضل من قدرة اسرائيل الذاتية، مثل السعودية.

الحرب على الوصول

ايران تواجه صعوبات وصول سياسية الى الجاليات غير الشيعية. وصعوبات جغرافية الى اجزاء من الجاليات الشيعية في الشرق الاوسط. الجيش الايراني وحرس الثورة غير مبنيين لارسال قوات عسكرية نظامية “ثقيلة”، برية، بحرية أو جوية لعمليات هامة بعيدا عن بيتها. ربما أن صعوبات الوصول هذه هي احدى نقاط ضعف ايران الاساسية. نقاط ضعف اخرى لايران هي خط العمل الهجومي والمكشوف المتبع منذ 2011، الذي يتسبب في تجمع كل القوات الاخرى تقريبا في الشرق الاوسط في جهود مشتركة لصدها؛ القليل من الحلفاء السياسيين؛ الضعف النسبي في المواجهات العسكرية التقليدية المباشرة؛ كمية الموارد التي يمكن تخصيصها للمواجهات المختلفة؛ والاقليات الكبيرة على اراضيها.

ربما أن تجمع نقاط الضعف هذه يمكن من خلق تحالف واسع، اقليمي ودولي، يدير معركة ضد المقاربة العملياتية الايرانية لساحات المواجهة في الشرق الاوسط. وضع الصعوبات امام الوصول الايراني يمكن أن يشمل حسب السياق، جهد عسكري تقليدي وجهد سري واستخدام مبعوثين وزبائن وجهد دولي دبلوماسي. يمكن توظيف اساس الجهود في تشويش الوصول الى النواة السنية في العراق، وحدود العراق – سوريا، في الوصول الى قلب سوريا، في الوصول الى الحدود السورية اللبنانية، في الوصول البحري الى اليمن والبحر الاحمر.

من منظور الوصول يوجد تفوق لاجراء تسوية في سوريا على قاعدة فكرة التقسيم. هذا الامر يصعب على التواصل الجغرافي من طهران عبر بغداد ودمشق وحتى بيروت، في الفضاءات التي ستتم السيطرة عليها من قوات سورية غير علوية مثل السنة والاكراد أو الدروز من شأنها قطع خط الوصول الايراني في الاراضي السورية. إن تسوية عن طريق تقسيم سوريا من شأنها ايضا أن تدق اسفين بين روسيا وايران، حيث أن تقسيم كهذا يمكن أن يتساوق مع المصالح الروسية (لكن ليس مع المصالح الايرانية)، وللتقليل من الاعتماد العملي لروسيا على ايران ووكلائها الشيعة. تأثير اسرائيل على التسوية في سوريا ليس دراماتيكي، لكن التفوق المذكور يجب أن يكون ماثلا أمام انظار اسرائيل، السعودية وحتى تركيا، عندما تجري محادثات بينها وبين روسيا والولايات المتحدة على مستقبل سوريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى