المصدر الإستراتيجي العـــدد 214 لشهر 12- 2017
الفهــرس
الرقم الموضوع
الكاتب المركز النشرة الصفحة
1 –
في هذا العدد المصدر المصدر المصدر الاستراتيجي 2
2- غزة الاخرى: قطاع غزة بين الطريق المسدود وبصيص الأمل يوآف (بولي) مردخاي، ميخائيل ملشتاين، يوتام اميتي معهد بحوث الامن القومي تقدير استراتيجي 4
3- مصر واسرائيل مؤمن سلام واوفير فنتر معهد بحوث الامن القومي تقدير استراتيجي 14
4- الصين على بوابة عهد جديد درون ايلا وغيلا لبيد وآساف أوريون معهد بحوث الامن القومي نظرة عليا 26
5- نتقاد ذاتي في السياسة الايرانية: المحافظون والاصلاحيون ما بعد الانتخابات الرئاسية راز تسيمت معهد بحوث الامن القومي نظرة عليا 30
6- روسيا في الساحة الدولية تسفي مغين وايتمار رابينوفيتش معهد بحوث الامن القومي نظرة عليا 35
في هذا العدد
يعرض يوآف (بولي) مردخاي، ميخائيل ملشتاين، يوتام اميتي تحت عنوان “غزة الاخرى: قطاع غزة بين الطريق المسدود وبصيص الأمل” في هذا المقال الواقع المتبلور في قطاع غزة، الآخذ في الغرق ليس فقط من ناحية اقتصادية والفقر والبطالة، بل ايضا من الناحية الاجتماعية والتوعوية. في مركز هذا الواقع يتضح التوتر المتزايد بين المصالح الموجهة لسلطة حماس وبين الآمال والاحباطات التي عاشها السكان في القطاع، وبالاساس الجيل الجديد الذي نما فيه. القسم الاول من المقال يتركز حول التوتر المتزايد بين سلطة حماس في قطاع غزة وبين الجيل الجديد الذي نما في القطاع. الامر يتعلق بجيل جديد يضم مئات آلاف الشباب، الذين لم ينتظموا بعد تحت جسم موحد، لكن يوجد لهم تأثير كبير على الوعي والرأي العام الموجود في هذا المجال. هذا جيل مثقف نسبيا، لكنه ايضا جيل غاضب ومحبط يعبر عن رؤيا متطرفة حتى بالمقارنة مع سلطة حماس (كل ذلك على خلفية محاولة خلق مصالحة فلسطينية داخلية في القطاع بقيادة مصر). في نهاية المقال يتم عرض “مسار تطرف”، يصف عملية مستمرة لزيادة التشدد واستخدام العنف في اوساط الجهات التي حكمت وتحكم القطاع منذ 1947، ويستنتج من ذلك معان محتملة في حالة تحول الجيل الجديد – أو أي جسم متطرف آخر – الى بديل حاكم لحماس. في القسم الاخير من المقال يتم التأكيد على الحاجة الى بشرى حقيقية للقطاع، وتم اقتراح عملية ستشكل نوع من “خطة مارشال” للقطاع، التي من شأنها أن تحدث تغييرا حقيقيا في مستوى الحياة القائم حاليا – ومن هنا ايضا التأثير ايجابا على الوضع الامني في هذا المجال.
وكتب مؤمن سلام واوفير فنتر مقالا بعنوان “مصر واسرائيل” يقول انه مع اقتراب الذكرى الاربعين لمبادرة السلام التاريخية للرئيس أنور السادات، فان أسس السلام التي وضعت في زيارته الى القدس ما زالت تقف ثابتة وقوية، لكن ما زال الامر يتعلق بـ “سلام بارد”، سلام بين الحكومات وليس بين الشعوب. في هذا المقال يتم تحليل العوامل التي تقف من وراء تبلور مضمون العلاقات الباردة بين الدولتين، والتغيرات الايجابية التي حدثت على مواقف الجيل الشاب في مصر تجاه اسرائيل منذ ثورة 25 كانون الثاني 2011 والعقبات التي ما زالت تصعب على تسخين السلام في الوقت الحالي ايضا. حسب الكاتبين المصري والاسرائيلي، فان الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة تقدم لاسرائيل ومصر الوقت المناسب لتوسيع علاقتهما وتعميقها. ولكن لأن التطبيق مشروط بتحديد صيغة السلام بحيث تمكن من رفع الثقة المصرية بالمجال الامني الى ساحة عمل اخرى، وانشاء مجالات للتعاون غير الحكومي بين المواطنين في الطرفين.
وكتب درون ايلا وغيلا لبيد وآساف أوريون مقالا بعنوان “الصين على بوابة عهد جديد” يقول انه بعد المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب في تشرين الاول عقد في بجين المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب الشيوعي الصيني. في هذا المؤتمر اختارت الحكومة والجيش قيادة مستقبلية للصين وصادقت على الخطوط السياسية للسنوات القادمة. الرسالة التي خرجت من المؤتمر هي “عهد جديد” في علاقات الصين مع دول العالم، انفتاح اقتصادي متزايد للصين امام الاستثمارات والتبادل التجالي الاجنبي، اذا حدث ذلك كما تم الاعلان، فذلك سيؤثر على الافق الاقتصادي لعلاقات الصين واسرائيل، وينطبق هذا ايضا بخصوص الخطوات لتعزيز سلطة الحزب في الصين. إن دور أكثر نجاعة وتأثير للصين في الساحة الدولية من شأنه أن يوسع تدريجيا ايضا تدخلها في المسائل المتعلقة باسرائيل، وسيكون على قيادتها أن تعطي اهتمام أكثر لاعتبارات الدولة العظمى الصاعدة.
اما راز تسيمت فكتب في مقال بعنوان “انتقاد ذاتي في السياسة الايرانية: المحافظون والاصلاحيون ما بعد الانتخابات الرئاسية” يقول انه في الاشهر التي مرت منذ الانتخابات الرئاسية لايران في ايار 2017، والتي انتهت بفوز الرئيس روحاني، يجري كلا المعسكران السياسيان الرئيسيان لايران المحافظ والاصلاحي نقاشا حول مواصلة طريقهما. في المعسكر المحافظ برزت مطالبة للمراجعة الذاتية على ضوء سلسلة هزائم سجلت ضده في السنوات الاخيرة. ان اساس الانتقاد الداخلي يتركز في فشل المحافظين في تجنيد تأييد الجمهور، وخاصة الشباب. في المعسكر الاصلاحي، بالمقابل، تطرح للنقاش جدوى مواصلة التعاون مع الرئيس روحاني ومع محافظين معتدلين على خلفية الفشل في تحقيق اصلاحات مدنية، ولو محدودة. عمليات المراجعة تدلل على اعتراف كلا المعسكرين بمواطن ضعفهما الاساسية، ولكن قدرتهما على القيام بعمليات تغيير هامة مشكوك فيها، على الاقل طالما ان الزعيم الحالي خامينئي يمسك بزمام السلطة. مع ذلك فان الخطاب السياسي الثاقب من شأنه أن يشير الى التوجهات في الصراع المتوقع على هوية الجمهورية الاسلامية في العهد ما بعد خامينئي.
وكتب تسفي مغين وايتمار رابينوفيتش في مقال بعنوان “روسيا في الساحة الدولية” يقول ان الخطاب الذي ألقاه مؤخرا الرئيس الروسي فلادمير بوتين عبر عن الاحباط بشأن مكانة روسيا الدولية والتطلع لتحسينها. الرد الذي تقترحه روسيا هو السعي الى اتفاق دولي جديد، في اطاره يتم الاعتراف بها كدولة عظمى هامة، لها دور مركزي في عملية تشكيل الاتفاق المستقبلي. وقد أكد بوتين على أنه اذا لم يتم تحقيق هذه الاهداف فان لدى روسيا الآن القدرة على وضع تحديات هامة امام الغرب بما فيها تحديات عسكرية.
غزة الاخرى: قطاع غزة بين الطريق المسدود وبصيص الأمل1
بقلم: يوآف (بولي) مردخاي، ميخائيل ملشتاين، يوتام اميتي
مقدمة
قطاع غزة يمر مؤخرا بعمليات داخلية تزيد من حدة الطريق المسدود الذي وجه نفسه فيه، من ناحيتين اساسيتين: الاولى، الفشل المتواصل لسلطة حماس في خلق واقع يخرج سكان القطاع من دائرة الفقر والاهمال الغارقين فيها (رغم أنه ما زال يحافظ على ردعهم من الانتفاض ضده). الثانية، نمو جيل جديد غاضب ومحبط وليس له أفق جماعي وشخصي، يسعى للتأثير على الرأي العام في القطاع، والذي مواقفه بالنسبة للنزاع مع اسرائيل متطرفة مقارنة مع الاجيال السابقة. معنى هذا الامر هو أن سلطة حماس من شأنها في المستقبل أن تظهر في نظر الجيل الجديد وكأنها لا تفهمه ولا تتكلم لغته وغير ملتزمة باحتياجاته، الامر الذي سيؤثر على استقرار هذه المنطقة. الحقيقة هي أن الحديث الآن لا يدور عن جيل يعمل تحت جسم مشترك، بل بالاساس تحت بدايات انتظام فكري، لكن يمكن الادعاء أن تأثير هذا الجيل الجديد على تشكيل الوعي السائد في القطاع، يفوق تأثير حركة حماس.
من المهم الاشارة الى أن الجيل الجديد في القطاع يعتمد على مجموعة سكانية شابة نسبيا (أبناء 15 – 30 سنة)، الذين “لم يعرفوا اسرائيل” والذين معرفتهم للجيران اليهود تتم تغذيتها بالاساس من المواجهات مع الجيش الاسرائيلي والتي تحدث مرة كل بضع سنوات. كما يبدو يمكن الاستنتاج من وضع كهذا بأنه كلما زاد البعد المعرفي بين غزة وتل ابيب، يقل الاعتماد الاساسي لسكان القطاع على اسرائيل. ولكن الواقع الفعلي مختلف. إن استخدام وسائل الاعلام والشبكات الاجتماعية والقدرة على التأثير على جهات دولية والانفتاح على العالم الخارجي، تخلق في اوساط الجيل الجديد وعي يتهم اسرائيل بالاساس بالواقع الذي نشأ في القطاع، ويعزو لها المسؤولية عن البنى الاساسية ووسائل العيش والسكان، حتى أكثر من السابق. نتيجة ذلك هي أن غزة واسرائيل تظهران الآن مثل توأمين سياميين، فُصلت رؤوسهما ظاهريا كما يبدو، لكن ليس بامكانهما الانفصال الواحد عن الآخر. اضافة الى ذلك، بين الرأسين يزداد الاغتراب والكراهية – في الاساس لأن ابعاد التفاعل والمعرفة الحقيقية بينهما آخذة في التناقص.
هذا المقال يعرض الواقع المتشكل في قطاع غزة، الذي يزداد خطورة في نظر السكان – ليس فقط من الناحية الاقتصادية المتمثلة بالفقر والبطالة، بل ايضا من الناحية السياسية والوعي. في بؤرة المقال سيتم عرض الصعوبات وحالات الفشل التي تميز سلطة حماس في قطاع غزة في الوقت الحالي، وكذلك ملامح الجيل الجديد الذي نما في القطاع والتوقعات التي يطورها نحو الجهات الحاكمة فيه، بهدف جلب وجه معروف بصورة أقل لمراكز القوة في هذا الفضاء، وفحص التأثيرات المحتملة لها على مستقبل القطاع. في القسم الاخير من المقال يتم اقتراح مسارات عمل ممكنة لتغيير الواقع في قطاع غزة وايجاد بصيص أمل لسكانه.
نظام حماس في قطاع غزة: صورة الوضع
خلال العقد الاخير، منذ سيطرت حماس بالقوة على قطاع غزة في حزيران 2007، راكمت المنظمة تجربة الحكم. هذا بعد حوالي عشرين سنة خلالها اعتادت المنظمة العمل في ظروف سرية وكمعارضة للنظام القائم (سواء اسرائيل أو السلطة الفلسطينية). هذا الانقلاب على طريقة حماس منحها قوة ومكانة غير مسبوقة، الى جانب تطوير ارادة بارزة في مواصلة تثبيت نفسها كقائدة للساحة الفلسطينية. ولكن المكانة الجديدة ألقت على حماس ايضا عدد من القيود والضغوط التي لم تعرف مثلها في السابق، وعلى رأسها الحاجة الى الاهتمام باحتياجات الجمهور الواسع، وأن توازن تحقيق افكار المعارضة والجهاد ازاء الضغوط المرتبطة بمشاعر الجمهور وقدرته على تحملها (الامر الذي وجد تعبيره القوي في “الجرف الصامد”، وهي المواجهة العسكرية الاشد التي شهدتها الساحة الفلسطينية بشكل عام وقطاع غزة بشكل خاص منذ عشرات السنين).
على الرغم من أن حماس أصبحت السيد، إلا أنها لم تنفصل تماما عن هويتها السابقة كحركة مقاومة مقاتلة، التي محركها الرئيسي هو فكرة المقاومة. فعليا، تعززت حماس في العقد الاخير ككيان مهجن يجمع بين النظام الحاكم والحركة. وقد طورت في الحقيقة اجهزة حكم رسمية – مدنية وعسكرية – وعززت صورتها في الداخل والخارج كالسيد في القطاع، لكن في نفس الوقت استمرت في الاشراف على اجهزة حركية توجد خارج مجال النظام الحاكم. في هذا السياق برز في الاساس الذراع العسكري لحماس (كتائب عز الدين القسام) والجهاز السياسي والمدني (الدعوة) التابع للحركة. هذه الفضاءات تواصل الوجود بارتباط عميق بينها، غالبا خلف الستار، في الاساس بين الذراع العسكري وجهاز الامن الداخلي، وبين مؤسسات الحركة ومكاتب الحكم المدنية.
في نفس الوقت، فان سكان قطاع غزة استقبلوا وبصورة ايجابية، وتقريبا طبيعية، حكم حماس كحركة نمت داخل المجتمع، وواصلت القيام بنشاطات مدنية متشعبة من اجل الجمهور، وأن تأخذ الطابع الشعبي. هذا النظام اعتبر شيئا مختلفا في اوساط السكان مقارنة مع خصائص حكم فتح والسلطة الفلسطينية، التي تحولت خلال السنين الى ذوي صورة فاسدة وغريبة. ولكن مع مرور الوقت يبدو أن حماس وجدت صعوبة في الحفاظ على صورتها وعلى معاقل دعمها التقليدية، وفي نهاية عقد من الحكم طرحت قائمة انجازات باهتة جدا: القطاع واجه ثلاث مواجهات عسكرية شديدة جدا بسبب رغبة حماس في الحفاظ على مجال عملها العسكري في مواجهة اسرائيل، وتدهورت اوضاع الغزيين جدا مقارنة مع الفترة قبل 2007، بسبب القيود التي وضعتها اسرائيل على القطاع (في مجال الحركة من المنطقة واليها وفي الاقتصاد)؛ حماس نفسها عانت من ضائقة استراتيجية شديدة في السنوات الاخيرة، ازاء فقدان دعامة معسكر المقاومة الذي تفكك.
ولكن رغم الضائقة المتواصلة في القطاع والاغتراب المتزايد بين السكان في غزة وحكم حماس، يبدو أن المنظمة تستمر في الحفاظ على مكانة مسيطرة في القطاع. اضافة الى ذلك، في المرحلة الحالية لم يظهر أي مؤشر بعد على تهديد سلطتها من الداخل، والجمهور يظهر رهبة شديدة من العمل ضدها، بالاساس في اعقاب الخوف من رد عدائي. في نفس الوقت، القوى الاخرى في الوقت الحاضر تعتبر محدودة جدا مقارنة مع قوة حماس. في هذا السياق يمكن الاشارة الى الجهاد الاسلامي وفتح وممثلي السلطة الفلسطينية والتيار السلفي الذي يتكون من عدة تنظيمات منشقة وقادة محليين ليس لهم انتماء سياسي. في الوضع الراهن تميل جهات فلسطينية من الداخل والخارج الى اعتبار حكومة حماس أهون الشرين، والافضل من البديل المتمثل بالفوضى في الحكم أو صعود جهات اكثر تطرفا منها – حيث تمثل حالة العراق وحالة سوريا اشارة تحذير.
على خلفية ذلك فان التحدي الرئيسي الذي يهدد الآن حكم حماس يتمثل في الاساس في البعد الاجتماعي – الوعي الذي يتأثر بدرجة كبيرة بالعامل الديمغرافي. هنا يدخل الجيل الجديد، الذي يحمل خصائص تختلف عن جيل آبائه ويثير القلق في اوساط الجهات الحاكمة بشكل عام في الساحة الفلسطينية. هذا جيل محبط، اجزاء كبيرة منه حصلت على التعليم، يجدون صعوبة في ايجاد اماكن عمل، ولا ينجحون في تحسين مستوى الحياة ورؤية أفق شخصي وجماعي. كذلك الحديث يدور عن جيل منفتح على الشبكات الاجتماعية ويدرك مستوى الحياة في الغرب ويريد تبنيها لنفسه، لذلك، هو يحتج ضد مصادر السلطة وحتى أنه يظهر احيانا نظرة متحفظة من الايديولوجيا التقليدية لهم واهدافهم الوطنية.
ايضا السلطة الفلسطينية تمكنت من لمس احتجاج هذا الجيل الجديد الفلسطيني على جلدها، عبر موجات العنف التي تطورت في السنوات الاخيرة في الضفة. حكم حماس في قطاع غزة لم تشهد بعد تهديدا مشابها، بالاساس بسبب الخوف العام الشديد منها – بما في ذلك في اوساط الشباب. مع ذلك، يبدو أن حماس تدرك أن المسألة مسألة وقت، وازاء سابقات حدثت مؤخرا في الشرق الاوسط في “الربيع العربي” يمكن أن ينمو ايضا في قطاع غزة نوع من “بو عزيزي الغزي” الذي خلال عملية احتجاج غير مخطط لها أدى الى اشعال قنابل الغضب لآلاف الشباب. التي يمكن أن توجه نحو الحركة كونها الجهة الحاكمة في قطاع غزة.
الجيل الجديد في قطاع غزة كبديل للنظام الحاكم
أبناء الجيل الجديد في قطاع غزة هم شبان يوجدون في بداية عملية التشكل. هذا الجيل يشكل مجموعة قوة ديمغرافية ويعتبر مثقفا نسبيا مقارنة مع اجيال سبقته، لكن ايضا ينقصه الافق الشخصي والجماعي لرؤية مستقبلية. نتيجة ذلك فان الجيل الجديد يشعر بأنه سجين في فضاء فقير ومهمل وغريب عن مراكز القوة في محيطه. هذا الادعاء يجد تفسيره في الجدول التالي – الذي يظهر معطيات التعليم والتشغيل في قطاع غزة.
قطاع غزة – صورة الوضع معنى الجيل الجديد في القطاع
الثقافة 92 ألف شخص من السكان ذوي تعليم فوق ثانوي (أقل من 5 في المئة من سكان القطاع) 40 ألف من ذوي ثقافة فوق ثانوية في القطاع هم من ابناء 20-30 (15 في المئة من اجمالي عدد السكان)
البطالة نسبة البطالة 44 في المئة (220 ألف عاطل عن العمل من قوة عمل تقدر بـ 500 ألف شخص، الذين متوسط أجرهم هو 60 شيكل في اليوم) نسبة العاطلين عن العمل من ذوي التعليم العالي اكثر بـ 1.5 ضعف من نسبة العاطلين غير المتعلمين أو من غير الحاصلين على شهادة الثانوية (بالاساس لانهم يجدون صعوبة في ايجاد عمل مناسب)
التشغيل 17 في المئة فقط المنضمين المحتملين الى سوق العمل وجدوا اماكن عمل في النصف الثاني من 2016 (حوالي 3 آلاف شخص من مجموعة سكانية تبلغ 17 ألف شخص) 65 في المئة من العاملين هم عاملون بشكل مؤقت و/أو ليس لديهم عقد عمل (متوسط الزمن لايجاد عمل – سنة ونصف تقريبا)
في نفس الوقت يمكن الادعاء أن الجيل الجديد في القطاع يشكل نموذجا لما يجري في الساحة الفلسطينية، سواء بالغضب المكبوت الذي يعبر عنه أو الافكار الايديولوجية التي أخذها عن الشباب الموازين له في الضفة الغربية، ومن “الربيع العربي” ونتائجه ومن هزات اخرى حدثت في الشرق الاوسط في السنوات الاخيرة. يبدو ايضا أن هذا الجيل حذر من تكرار اخطاء الآخرين وهو يفحص طريقه وفقا لذلك. شاؤول مشعل ودورون ماتسا زعما في هذا الشأن أن “الجيل الفلسطيني من مواليد ما بعد اتفاق اوسلو في 1993 يردد صدى المقاومة التي تميز شباب الربيع العربي، ومصادرها الاجتماعية، والثقافية والطبقية”. عيدو زلبوفيتش يعتقد أن “هذا جيل لم يعد يسير بأعين مغمضة وراء القيادة السياسية وأطر حزبية قائمة. فهو يريد أخذ مصيره بأيديه ويريد رؤية تغيير وضعه هنا والآن”.
امثلة على الضائقة واليأس الذي يعبر عنه الجيل الجديد في القطاع يمكن ايجادها ايضا في قصص الشباب الذين يحاولون مؤخرا الهرب الى اسرائيل، ويتم القاء القبض عليهم تقريبا في كل ليلة على أيدي قوات الجيش الاسرائيلي على طول الحدود. لهؤلاء الشباب توجد على الاغلب خلفية مشابهة: هم في نهاية العقد الثاني من اعمارهم، عدد كبير منهم يأتي من شريحة اللاجئين في القطاع وتسربوا من المدارس في جيل صغير، وجميعهم تقريبا يتحدثون عن ضائقة اقتصادية كبيرة وعلاقة واهية مع ابناء عائلاتهم. كل ذلك يجعلهم يبحثون عن “حياة اخرى”، حتى بثمن المخاطرة التي تكمن في اجتياز الحدود. شهادات اولئك الشبان تظهر أنهم يفضلون المكوث في السجن الاسرائيلي – المقترن بوجبات ثابتة وتمويل لابناء عائلاتهم – على البطالة والحياة البائسة في قطاع غزة.
في حماس يدركون الاخطار الكامنة في مراكز المعارضة المحتملة هذه، في الجهات التي يمكن أن تهدد مستقبلا حكمها في قطاع غزة. حماس تستثمر الكثير من الموارد في الجيل الجديد (بواسطة معسكرات شبابية ومخيمات صيفية وغيرها) من اجل تجنيده لصالحها. حماس ايضا تحاول توجيه غضب هذا الجيل نحو اسرائيل، وأن تعرض نفسها كمن لا يستطيع تغيير الوضع بسبب السياسة الاسرائيلية. وهي ايضا تؤجج هذا الادعاء عن طريق جهاز التعليم وتخلق من خلاله ثقافة كراهية لاسرائيل. ونتيجة لذلك، فان محاولات التغيير وتحقيق التطبيع في القطاع بدعم اسرائيلي ودولي استقبلت بمعارضة السلطات في غزة. يبدو أن نموذج السلوك هذا هو جزء من العامل الوراثي لحماس – التي الى جانب كونها الجهة الحاكمة في القطاع فهي تواصل تبني صفات المنظمة السرية المتآمرة.
ولكن المحاولات المتكررة لحماس لصد استثمار احتجاج الجيل الجديد في القطاع تدل في الاساس على قوة كامنة في هذا الجيل. من ناحية الجيل لن يكون هناك اسوأ مما هو قائم، وليس لديه ما يخسره. ووضع كهذا يشكل ارض خصبة لرؤية حتمية تقسم العالم الى “أخيار وأشرار”، ويشجع النضال العنيف كأساس للتغيير. في الحقيقة يمكن الادعاء بأنه بهذا الشكل تصرفت دائما جماعات سكانية تبنت خط عمل متشدد، لكن في حالة الجيل الجديد يبدو أن الامر يتعلق بامكانية كامنة لواقع عنيف أكثر خطورة من الذي عرفناه في السابق.
مسار التطرف: الطريق المغلق لقطاع غزة
الجيل الجديد في القطاع يريد جدا تغيير الواقع، لكن السؤال المطروح هو اذا حدث التغيير فماذا سيكون نوعه؟ نشدد على أن سلطة حماس في القطاع عرفت في السابق معارضة وتهديدات من قبل تنظيمات منشقة كهذه أو تلك، وفي اغلب الحالات وجهتها الى اماكن مريحة لها، وعززت بذلك سيطرتها. ولكن الجيل الجديد ليس منظمة مارقة، ولفترة طويلة سيشكل تهديدا على الحكم وسيشكل القطاع على صورته – مع أو بدون حماس. لقد كتب الكثير عن التطرف المتزايد في اوساط سكان قطاع غزة مع مرور السنين، والواقع الذي يرونه من وجهة نظرهم لا يتغير، بل يتحول الى واقع اصعب واكثر احباطا. في نفس الوقت، يبرز في اوساط الشباب ميل لرؤية العنف كحل يؤدي الى تغيير الوضع، حتى اذا لم يكن في ذلك ضمانة لحياة افضل من جهتهم. وعندما لا يكون هناك من يهتم بهم، فان كل وسيلة تكون مباحة بالنسبة لمن يرى نفسه ضحية الواقع، والجيل الجديد في القطاع يرى نفسه حقا هكذا.
هنا يمكننا الاشارة بالحذر المطلوب، الى زاوية تفكير اخرى حول امكانية سيطرة جهة جديدة على قطاع غزة في الوقت الحالي عن طريق مفهوم “مسار التطرف” – الذي يصف عملية دائمة لزيادة العوامل الموجهة لطرق التشدد وانعدام الامل (حسب وجهة نظر سكان القطاع)، التي ميزت الجهات التي حكمت القطاع، بالاساس البدائل التي جاءت من العام 1977. مسار التطرف هذا يثير التساؤلات ويضع علامات استفهام بخصوص مستقبل ومصير قطاع غزة، حيث أنه خلال هذه السنين، البديل الذي وجد للجهة الحاكمة (مصر، اسرائيل والسلطة الفلسطينية) أخذ على مسؤوليته في نهاية الامر السيطرة على القطاع، لكنه لم يحل المشكلات التي ورثها، بل زاد حدتها. بدون الدخول الى المصلحة الاسرائيلية بخصوص شخصية الجهة الحاكمة في القطاع في الوضع الراهن، فان مسار التطرف الموصوف هنا يبرهن على أنه اذا لم يتم القيام بشيء يؤدي الى التغيير الحقيقي في الوضع المتدهور (بعيون غزية) – فاننا سنواجه وضعا فيه اوساط أكثر تطرفا حتى بالمقارنة مع حماس، ستحتل مستقبلا السلطة في القطاع.
كما قلنا، الجيل الجديد في قطاع غزة لم يتبلور بعد، أو يرتبط باطار يمكنه من تشكيل بديل للحكم (من المهم أن نذكر أن الحركات القائمة ايضا مثل الجهاد الاسلامي وحتى السلطة الفلسطينية لا يتم اعتبارها الآن أنها تستطيع القيام بثورة). مع ذلك، نشير الى أن اغلبية تغييرات السلطة في القطاع حدثت في السابق بصورة مفاجئة نسبيا – بدون ان يكون بالامكان تقدير مداها مسبقا وكذلك معناها. ايضا التوقيت الذي يتحول فيه الجيل الجديد في القطاع الى بديل للحكم لا يمكن التنبؤ به في الوقت الحالي. ويجب أن تحدث امور اخرى من اجل أن ينشأ تهديد حقيقي على حكم حماس. ولكن، يمكن القول إنه بالتأكيد يوجد لهذا الجيل الامكانية الكامنة للتحول الى “الشيء القادم” في القطاع، بكل ما يعنيه ذلك.
الخلاصة
الادعاء الاساسي الذي طرح في هذا المقال في محاولة لتحليل الواقع الحالي، هو أنه في حين أن حكم حماس يفقد قوته بسبب مسؤوليته عن حجم الفقر والبطالة في قطاع غزة، يعتبر الجيل الجديد صاحب التأثير المتزايد، وتوجد له امكانية كامنة للتأثير على شخصية الجهة الحاكمة المستقبلية في القطاع. في الوقت الحالي على الاقل، الحديث لا يدور عن بشرى حقيقية لسكان القطاع، وبيقين ليس لدولة اسرائيل. امكانية الخطأ الكامنة في الجيل الجديد تنبع في الاساس من ضمن امور اخرى، من الادعاء بأن القطاع يسير منذ عشرات السنين في مسار التطرف. ورغم التغييرات التي حدثت على شخصية الجهة الحاكمة فيه، لم يتم تقديم حلول حقيقية لاحتياجات السكان، بل وضعهم ازداد سوء، لذلك شجع وجهات نظر اكثر تطرفا في اوساط الجهات المعارضة للحكم. هذا يعني أنه اذا لم يتم القيام بأي شيء لتغيير مسار التطرف الذي تم وصفه هنا، فان قطاع غزة من شأنه أن يجد نفسه، عاجلا أو آجلا، تحت سيطرة جهة اكثر تطرفا، ستسعى الى توجيه غضب وطاقة الجيل الجديد نحو تنفيذ انقلاب آخر ضد نظام الحكم.
صحيح حتى الآن أن الجيل الجديد في قطاع غزة منشغل في الاساس في رغبته بالبقاء والخروج من الضائقة الاقتصادية التي يعيش فيها، وتحركه بصورة أقل المصالح السياسية. هذا الادعاء يستند ايضا الى ما يسمى “العلاقة الوثيقة” بين الوضع الاجتماعي – الاقتصادي وبين الوضع الامني، حيث أن التفكير الاسرائيلي بالقطاع يرتكز في الوقت الحالي على ضائقة المليوني فلسطيني الذين يعيشون في تلك الغرفة المكتظة، ويقترن بفهم أنه يوجد لوضعهم الاقتصادي هذا تداعيات مباشرة ودراماتيكية على الوضع الامني في المنطقة. نتيجة ذلك، فان نقطة الانطلاق لهذا المقال هي أنه كلما زاد وضع السكان في غزة سوء فاننا بهذا نزيد احتمال الدخول الى جولات عنف اخرى في هذا المجال مستقبلا.
على خلفية ذلك يبدو أن اتجاهات الحل الضرورية في الوقت الحالي لقطاع غزة يجب أن تشمل بشرى حقيقية للسكان الذين يعيشون فيه. معنى الامر هو أنه يجب القيام بتحويل القطاع الى بيئة متطورة توجد فيها مناطق صناعية متقدمة وفضاءات سياحية وخطوط مواصلات حديثة وبنى تحتية تلبي احتياجات السكان. من اجل البرهنة ورغم التعقيد الاستراتيجي والسياسي الذي يكمن في التطوير المستقبلي، نود طرح أن عملية كهذه سيشكل نوعا من “خطة مارشال” لقطاع غزة. والقصد هو أن تشمل هذه الخطة مبادرات واستثمارات دولية جدية تمكن من أن تحدث في القطاع اعادة تأهيل وتغيير حقيقي في مجال الاقتصاد والوعي معا، دون أن تتمكن حماس من المعارضة أو منع ذلك. اضافة الى ذلك، عملية كهذه يجب أن تكون مرتبطة بتسوية امنية واقتصادية وحل مواضيع اخرى توجد على الاجندة، ومبدأ تقييد القوة العسكرية لسلطة حماس وانهاء اشتراط اعادة الاسرى والمخطوفين والجثامين من “الجرف الصامد”. أي أن الطموح هو ايجاد معادلة لا يمكن للاطراف المشاركة معارضتها، ويكون من الاصح من ناحيتهم تبنيها بأذرع مفتوحة (من المهم الاشارة الى أنه مؤخرا تتطور احتمالية لخلق تسوية في القطاع بقيادة مصر، التي تعزز من جهة علاقتها مع حماس وتحاول من جهة اخرى تحقيق مصالحة فلسطينية داخلية – تكون مقرونة بدفع السلطة الى تثبيت تأثيرها في القطاع).
صحيح أن من سيتمتع كما يبدو من تطوير جدي في قطاع غزة هو سلطة حماس قبل أي جهة اخرى (الامر الذي من شأنه التصعيب على اقامة حكم جديد)، لكن من المعقول أنه في واقع تغيير حقيقي في القطاع، ايضا حماس سيطلب منها التصرف حسب شروط واضحة من قبل جهات دولية. في المقابل، سيتم طرح معضلة بخصوص الحاجة الى قيادة عملية كهذه من خلال اشراك السلطة الفلسطينية. الحديث يدور هنا عن مسألة اساسية يجب بحثها في القنوات السياسية، حيث أن أحد التداعيات المحتملة هو أن السلطة ستشترط تأييدها لهذه العملية بنشرها في الضفة الغربية الواقعة تحت مسؤوليتها. أخيرا، العملية التي يمكنها تحويل قطاع غزة الى فضاء متطور معقدة في اساسها، لكنها ليست مستحيلة. صحيح أنه حتى الآن أن ما ينقصنا من اجل تحقيق هذه العملية هو النوايا الحسنة لذوي المصالح في هذا المجال، ومنهم سكان القطاع انفسهم. الحديث يدور عن عملية مركبة يتوقع أن تستمر لفترة طويلة، وبناء الثقة بها يقتضي صبر معين والاستمرار في اوساط الجهات المشاركة. اضافة الى ذلك، كل اقتراح لتغيير الوضع الحالي في القطاع يحتاج الى أن يأخذ في الحسبان الجيل الجديد، سواء بسبب قوته الكامنة والمتزايدة، أو بسبب أنه في غياب حل للوضع الراهن فمن المحتمل أن يندمج في التنظيمات المتطرفة وأن يتبنى بواسطتها خطا اكثر تشددا حتى مقارنة مع حكم حماس.
مصر واسرائيل2
بقلم: مؤمن سلام وأوفير فنتر
في 19 تشرين الثاني 2017 ستحتفل كل من اسرائيل ومصر بذكرى مرور اربعة عقود على الزيارة التاريخية لانور السادات في القدس، والتي خلالها ألقى الرئيس المصري من فوق منصة الكنيست دعوته لـ “انهاء المعارك ووضع حد للألم … والى بداية حياة جديدة، حياة محبة وبركة وحرية وسلام”. يوم الذكرى الاربعين لهذا الحدث – الذي في اعقابه بدأت مفاوضات طويلة توجت بالنجاح في 26 آذار 1979 من خلال التوقيع على اتفاق سلام – يحتاج الى اعادة النظر في الانجازات والاخفاقات التي سجلتها علاقات الدولتين حتى الآن. الآمال في اسرائيل كانت أن تؤدي العلاقات الى سلام “دافيء” بين الشعبين. عمليا، السلام بقي “باردا”: لقد منح الدولتين اكثر من “سلام سلبي” يتمثل بالهدنة، لكنه أقل من “سلام ايجابي” يشمل في تعريفه الواسع المصالحة والتقبل المتبادل والتعاون بين الدول والشعوب. لقد اكتفت اسرائيل ومصر بتنسيق أمني تكتيكي بين الجيوش، وعلاقات دبلوماسية سليمة وتعاون اقتصادي محدود. العلاقات المدنية المتبادلة بين الشعوب مثل التعاون الاقتصادي واسع النطاق والتبادل الثقافي، كانت وما زالت أملا بعيدا.
منذ بداية عهد السلام كان من الواضح أن انتقال الفكر والوعي من الصراع الى السلام، بعد ثلاثة عقود من الكراهية والحروب الدموية، لن يكون بسيطا. الرئيس أنور السادات نفسه قدر أن عمليات المصالحة والتعايش والتطبيع بين مصر واسرائيل ستترك “للاجيال القادمة”. في مقابلة مع المجلة الاسبوعية “اكتوبر” في شباط 1980، أوضح أنه ليس بالامكان اجبار الشعوب على أن تشطب من قلوبها الاحساس بالمرارة الذي تراكم خلال سنوات طويلة من النزاع، لهذا فهو لا يحث الشعب المصري على اقامة علاقة طبيعية مع الشعب الاسرائيلي، بل الاكتفاء بتمهيد الطريق نحوها، على أمل أن يفعل الزمن فعله في التئام الجروح.
في هذه الاثناء، حيث “الاجيال القادمة” التي تحدث عنها السادات، أصبحت توجد هنا، فمن الجدير فحص لماذا لم يتم بعد تحقق التغيرات المأمولة، وكيف يستطيع الطرفان العمل على تحقيقها. هذه الاسئلة تجد شرعية ملحة لها في عهد عبد الفتاح السيسي، مقابل التنسيق الامني القوي بين الدولتين في النضال ضد تهديد الارهاب المشترك في شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة. وعلاقات الثقة التي نسجت بين مستويات العمل في الطرفين – السياسية والعسكرية. لهذا يمكننا أن نضيف الموضوع المشترك الذي نشأ في التعاون الاقتصادي، لا سيما في مجال الطاقة، على خلفية اكتشاف الغاز في شرق البحر الابيض المتوسط، والانخفاض الذي جرى على مكانة النزاع الاسرائيلي الفلسطيني في الرأي العام المصير، ولا سيما في اوساط الجيل الشاب، على خلفية الهزات الداخلية والاقليمية التي تحتل مركز اجندة الجمهور في السنوات الاخيرة.
هذه الظروف تقدم لاسرائيل ومصر الوقت المناسب لبدء فصل جديد في العلاقة بينهما، لكن التطبيق مشروط ببلورة سياسة حكومية، مصرية – اسرائيلية، تشجع تأسيس وتطوير مجالات تعاون متعددة المجالات بين المواطنين في الدولتين، واستئناف العملية السلمية بين اسرائيل والفلسطينيين.
جذور السلام البارد: النقاش التاريخي الجغرافي
السلام بين اسرائيل ومصر ينتمي أكثر من أي شيء الى مفهوم “سلام بارد”، الذي صيغ في نهاية العام 1982 من قبل وزير الدولة المصري للشؤون الخارجية في حينه، بطرس بطرس غالي، الذي وصف العلاقات المحدودة والمتحفظة والتي تكون احيانا عدائية والتي تطورت بين الدولتين. ولكن هناك مؤرخون يقومون باجراء نقاش يقظ بشأن تعريف السلام بين اسرائيل على أنه “سلام بارد”، وأكثر من ذلك، حول الظروف التي بسببها اصبح كذلك.
السلام بين اسرائيل ومصر توافق على مدى السنين مع العديد من شروط “السلام البارد”، كما تم تعريفه في الأدبيات النظرية. في المقابل، امنون آرن ورامي غينات زعما أنه منذ العقد الثاني في ولاية مبارك، فان مفهوم “السلام البارد” لا يعكس بصورة صحيحة التطور في علاقة الدولتين، ويفضل استبداله بمفهوم “السلام الاستراتيجي”، الذي يعبر عن تغيير ايجابي تدريجي في التواصل بين سلام بارد وسلام ثابت. حسب رأيهما، هذا التغيير تجسد، ضمن امور اخرى، في بناء علاقات ثقة بين المؤسستين السياسية – العسكرية في الدولتين، وتوسيع حجم التجارة.
يعتقد كاتبا هذه السطور أن مفهوم “سلام بارد” ما زال صالحا لوصف العلاقة بين الدولتين في الوقت الحالي ايضا. نحن ندعي أن الوزن الاستراتيجي للسلام وثباته لا يقاس فقط بالتنسيق الامني التكتيكي، الذي يتعلق في ظروف معينة بطبيعته، أو علاقات سياسية واقتصادية يتم اعتبارها احتكار من قبل المستويات الرسمية، بل ايضا طبيعة العلاقات القائمة في المجالات المدنية غير الحكومية. صلاحية مفهوم “سلام بارد” يتم تحديدها بناء على ذلك من الحجم الضيق “للتطبيع” بين الدولتين، الذي يعرف كـ “احلال مجمل علاقات ذات طابع تعاون وسلام محل علاقات ذات طابع مواجهة ونزاع، في مجالات عديدة – سياسية واقتصادية وثقافية، سواء في المستويات الرسمية أو المستويات غير الرسمية”.
لقد حرصت مصر منذ ايام السلام الاولى على تنظيم وتقييد التطبيع مع اسرائيل، عندما حددت مستوى علاقات قائم وموجه تضمن حجم وعمق وتنوع العلاقات التي يجب عدم الخروج عنها بصورة جوهرية، سلبا أو ايجابا. مستوى العلاقات هذا ضمن فوائد السلام، وضمن ذلك الحفاظ على قنوات دبلوماسية وأمنية وممر حر في قناة السويس ووجود علاقة جوية وبحرية وبرية غير مشوشة وتجارة في الحد الادنى مراقبة جيدا والسماح بالسياحة، لكن دون تشجيع فعال. المستوى الذي تم اتباعه قيد العلاقات المدنية المتبادلة، غير الحكومية، وضيق على حرية العمل التي منحت للشركات ورجال الاعمال الخاصين وفرض اكثر من مرة عقوبات على المصريين الذين حاولوا الاخلال بها. لقد منع فعليا سفر المواطنين المصريين الى اسرائيل بدون تصريح أمني خاص، وأحبط التطور الطبيعي للعلاقات بين الجماعات والافراد في مجالات مثل الاقتصاد والمجتمع وحرية الرأي والعلم والثقافة والرياضة. هذا الواقع صعب جدا على تطور قصص المصالحة والجيرة الحسنة الحيوية لكسر الجليد بين الشعوب، لبناء السلام وزيادة ترسخه.
مصر هي التي أملت الخصائص الباردة للسلام، ولكن هناك نقاش حول درجة مسؤولية الدولتين عن برود نظام العلاقات. سفيرا اسرائيل في القاهرة في الاعوام 1981 – 1982 و1988 – 1990، موشيه ساسون وشمعون شمير، شهدا أن اعمال حكومة اسرائيل في سنوات السلام الاولى – وضمن ذلك ضم شرقي القدس وهضبة الجولان وتوسيع مشروع الاستيطان وخاصة شن حرب لبنان الاولى – أحرجت النظام في مصر أمام الرأي العام المصري والعربي. حسب رأيهم، هذه الاعمال استخفت بالطموحات المصرية لايجاد اتفاق اقليمي واسع يمنح الاتفاق الطلائعي والمنفرد الذي وقعته مع اسرائيل الشرعية، ونتيجة لذلك فقد حدث تآكل كبير في استعدادها الاولي لدفع التطبيع. هذا التفسير يتساوق مع موقف مصر الرسمي التي اعتادت أن تعزو السلاح البارد للسياسة الاسرائيلية التي خيبت الآمال المصرية بتحويل السلام بين مصر واسرائيل الى حجر زاوية في السلام الاقليمي الشامل، واشترطت تسخين العلاقات بالتقدم في العملية السلمية.
تفسير آخر يقول إن السلام البارد يتناسب مع الضغوط التي تتعرض لها الانظمة المصرية – الاستراتيجية الاقليمية، الضغط الاقتصادي الاجتماعي والنفسي والثقافي، هذه أملت عليهم من عهد السادات فصاعدا مستوى علاقات ضيق مع اسرائيل، بدون ارتباط مباشر مع افعالها. من مؤيدي هذا التفسير سفير اسرائيل في القاهرة في الاعوام 1990 – 1992، افرايم دوبك والمؤرخ ايلي فوده. الاخير قدر أن وصفة السلام البارد خدمت بصورة جيدة حاجات المؤسسة الحاكمة، في حين أن دفع التطبيع كان سيضع تهديدا حقيقيا على الشرعية الداخلية والخارجية له، ولهذا لم تكن له مصلحة في التحرك نحو سلام دافيء. ليبراليون مسلمون حددوا المصلحة المؤسساتية المصرية في الحفاظ على قاعدة العداء التقليدي نحو اسرائيل من زاوية اخرى. أي، حسب رأيهم، فان تطوير صورة اسرائيل كـ “عدو خارجي” – ايضا في ظل السلام – ساعد السلطات في القاهرة على حرف انظار المواطنين عن الضائقة الداخلية، وتبرير المس بالحريات الخاصة (مثلا، عن طريق العمل بقانون الطواريء) والتهرب من اصلاحات ستعرض للخطر مكانتهم المسيطرة. إن علاقات تقارب غير محدودة مع اسرائيل في المقابل، كان يمكن أن تبرز أمام الجمهور المصري الفجوات السياسية، الاقتصادية والعلمية القائمة بين المجتمعين. وتغذية انتقادات داخلية تجاه النظام وتشجيع مطالبت للدمقرطة.
الجيل الشاب المصري والسلام مع اسرائيل
كثيرون يميلون الى أن يروا في عداء الرأي العام المصري لاسرائيل عائقا اساسيا امام تسخين السلام، لكن هذه الرؤية تتطلب الآن اعادة النظر من جديد وخاصة في كل ما يتعلق بأبناء الجيل الشاب تحت سن الثلاثين، الذين يشكلون حوالي 60 في المئة من اجمالي عدد السكان في مصر. بعد زيارته في القدس، واجه أنور السادات معارضة قوية من “الاخوان المسلمين” واحزاب ناصرية وماركسية داخل مصر، ومن جبهة الرفض العربية التي قادتها العراق وليبيا وسوريا وم.ت.ف. سياسته التنازلية جمعت معارضة واسعة من الداخل والخارج، والتي استندت الى افكار قومية عروبية ودينية اسلامية، ونقشت على رايتها معارضة السلام مع اسرائيل، وبالاحرى التطبيع معها. حاول النظام المصري الدفاع عن المسيرة السلمية بمساعدة وسائل الاعلام المختلفة التي تحت تصرفه، لكن التحدي الذي خلقه التحريض الذي استمر عشرات السنين كان قويا، تقريبا لم يكن هناك في مصر احزاب أو مثقفين مستقلين وافقوا على الوقوف علنا الى جانبه.
منذ التسعينيات بدأ السلام مع اسرائيل يتحول الى خيار استراتيجي معلن لـ م.ت.ف، معظم الدول العربية والجامعة العبرية، لكن لأن التغيرات في مقاربة الجمهور المصري الواسع لهذا الموضوع، بقيت مترددة. باستثناء عدد من الكتاب والمفكرين الذين لهم توجه ليبرالي أو يساري، والذين كانوا مستعدين لدفع ثمن شخصي والتورط في معاقبة من جانب اتحاداتهم المهنية، لم تكن هناك أي قوى سياسية أو اجتماعية هامة تبنت السلام مع اسرائيل، ولم يقم أحد من هذه القوى بمواجهة معارضي التطبيع ولم يعمل على نشر قيم المصالحة والتعايش وتقبل الآخر. سبب ذلك كان مزدوجا: اولا، النظام المصري منع تشكل معسكر سلام شعبي ومستقل يعمل خارج احتكار المؤسسة الرسمية. صورة غير منطقية، نفس النظام الذي وقع على اتفاق السلام مع اسرائيل كان هو ايضا الذي سمح لمعارضي السلام بالتعرض لافراد عبروا علنا عن تأييدهم للسلام والتطبيع. وحاولوا انشاء قنوات اتصال مستقلة مع اسرائيل. ثانيا، الكثير من النشطاء والمفكرين الذين ينتمون للتيار الليبرالي، والذين كانوا المرشحين الاكثر طبيعية لقيادة معسكر مصري يرفع راية “السلام الديمقراطي”، اختاروا الموقف المعاكس. بدل الدعوة الى السلام زعموا أن نظام ديمقراطي منتخب سيمكن المصريين من الوقوف أمام اسرائيل بصلابة أكثر من نظام غير منتخب.
بيد أن الثورات التي حدثت في مصر في 25 كانون الثاني 2011 و30 حزيران 2013 خلقت ديناميكية جديدة، تحمل في طياتها امكانية كامنة لتغيير تاريخي ايجابي في الرأي العام المصري، ولا سيما في اوساط الجيل الشاب، فيما يتعلق بالسلام والتطبيع مع اسرائيل. ورغم أن نجاح الثورات بالقيام باصلاحات سياسية محدودة، فقد تمكنت من خلق ثورة ثقافية عميقة داخل المجتمع المصري. المقال الذي كتبته مجلة “فورين بوليسي” اشار الى ثلاثة مظاهر لهذه الثورة: رفع الحجاب، ارتفاع نسبة الملحدين والخروج العلني من الصندوق للمثليين. ولهذا يمكن اضافة ظواهر مثل انهيار الهوية العربية والاسلامية لصالح هويات مصرية وانسانية، وتحرر الشباب من املاءات العائلات، ممارسة العلاقة الجنسية قبل الزواج، والاهم من ذلك انهيار السلطة الأبوية بجوانبها الاجتماعية والسياسية.
لقد أنبتت الثورات جيل جديد له ميول ليبرالية – علمانية، لا يخشى من مواجهة الاباء وأن ينظر بنظرة انتقادية لمسلمات الماضي الوطنية والدينية والاجتماعية السائدة. في المقال الذي نشره احمد أبو دوح في ايلول 2017 في الصحيفة اليومية “الاهرام” بعنوان “الشباب في مصر لا يحبون الكبار”، اثبت أن دولة مصر تغيرت في اعقاب الثورات تغير غير مسبوق، وهي منقسمة الآن بين جيلين يتحدثان بلغتين مختلفتين ويجدان صعوبة في التواصل بينهما. جيل البالغين يتمسك بقيم تربى عليها في الخمسينيات والستينيات، في حين أن الجيل الشاب يتبنى قيم جديدة ويدعوا الى تغيير جذري. إن الفجوة بين الجيلين لا تقتصر على أبناء المدن بل تشمل ايضا أبناء القرى، وتهز المجتمع المصري من اساسه. الشباب المسلحين بالهواتف الذكية يصرون على اعادة فحص كل “حقيقة بديهية”، ويجادلون آباءهم ويتركونهم في حالات كثيرة في حالة حرج ولا يجدون اجابة يقدمونها. حسب تقديرات أبو دوح، مصر بعد عقد من الزمن لن تكون مصر التي نعرفها الآن، وعلى الدولة والمجتمع ورجال الدين المثقفين والشباب والكبار الاستعداد لذلك. هذه العمليات العميقة الاجتماعية – الثقافية تلقي بظلها على تصور الجيل الشاب في مصر وعلى تصوره للعلاقة مع اسرائيل. جيل الآباء ورث أبناءه كراهية اسرائيل عن طريق تحفيظهم الشعارات القومية العربية، التي تم نشرها من قبل وسائل الاعلام الناصرية في الخمسينيات والستينيات. الابناء قبلوها بدون تفكير أو نقاش نظرا لاحترامهم لسلطة الآباء. ولكن هذا الوضع تغير مع تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للجيل الشاب، الذي رأى آباءه يخضعون للنظام ويمتنعون عن أي مواجهة معه، وحتى أنهم يتواصلون مع النظام ضد أبنائهم. الجيل الشاب تمرد على المؤسسة الحاكمة ومؤيديها، حتى لو كان هؤلاء هم آباءهم. هذا التصادم بين الاجيال وضع كل الموروثات، ومنها كراهية اسرائيل، في وضع فحص وتساؤل.
أبناء الجيل الشاب المصري يتبنون مواقف واقعية وعقلانية اكثر مقارنة مع آبائهم، التي تمت تغذيتها من قبل دعاية كاذبة ومحرضة. معظمهم اصبحوا غير خاضعين للتأثير المسمم لدعاية عروبية أو اسلامية، بل هم يبلورون علاقتهم مع اسرائيل وفقا للمصالح البراغماتية المصرية، ويتحفظون من حرب تخرب الاقتصاد المصري وتؤدي الى سفك الدماء. الشباب الذين يتلقون المعلومات من الانترنت بدأوا بطرح اسئلة جديدة: هل العداء لاسرائيل هو عداء حقيقي أو وهمي؟ هل هذا العداء يخدم مصر أو يضر بها؟ ما هو الافضل لمصر – وضع الحرب أو السلام؟ من هو العدو – الدول المؤيدة للاسلام السياسي والارهابيين في سيناء أو اسرائيل التي تساعد الجيش المصري في حربه ضد الارهاب؟ هذه الاسئلة تخلق خطابا جديدا. مثال على ذلك هو مقال محمد الشي، عضو حزب المصريين الاحرار، الذي نشر في تموز 2014 بعنوان “اسرائيل ليست العدو”. حسب ادعاءه فان الاعداء الحقيقيين الذين يهددون سلامة مصر هم “الاخوان المسلمون، حماس، داعش، قطر، تركيا وكل من يؤيد القيم المتخلفة والارهاب في مصر أو على حدودها”.
الجيل الشاب المصري لا يحمل على كاهله النزاعات الدامية والحروب التي لم يشهدها ولم يتضرر منها. الشباب شهود على التعاون الوثيق بين النظام واسرائيل، وبصورة طبيعية يتساءلون لماذا المسموح للحكومة محظور على الشعب. هذا التفكير يبرز في الردود المتعاطفة التي حظي بها أحد كتاب المقالات في الشبكات الاجتماعية في اعقاب تعقيب نشره في كانون الثاني 2017، بعد عدم حصوله على التأشيرة لحضور مؤتمر دعي اليه في اسرائيل. ورغم عدم وجود استطلاعات رأي حول الموضوع، فانه من خلال محادثات مباشرة مع آلاف الشباب، وخاصة مع ليبراليين، يتولد انطباع أن اغلبيتهم تؤيد السلام والتطبيع. هذه القوى الجديدة ما زالت غير ممثلة بحركة واسعة أو حزب في اعقاب القيود المتبعة في مصر، وبناء على ذلك هناك صعوبة في قياس حجمها الدقيق. ترجمة مواقفها الى قوة انتخابية – وفيما بعد تأثير سياسي – تقتضي مناخ من الديمقراطية وحرية التعبير.
عقبات أمام تسخين السلام: نظرة محدثة
إن صعود جيل شاب علماني وليبرالي في مصر، متحفظ من العروبة والاسلام وينظر برضى الى السلام مع اسرائيل، يحمل في طياته احتمالية لتسخين العلاقة بين الشعوب، واضافة بعد مدني للتنسيق الامني الوثيق، الذي يوجد منذ فترة في المستويات الرسمية. ولكن تموضع هذا الجيل كمعسكر مسيطر ومؤثر ما زال يواجهه ثلاث عقبات اساسية مصدرها في مصر واسرائيل، والتي يجب التغلب عليها في طريق اغتنام الفرصة الحالية لتشكيل اطار سلام جديد قائم على التعايش وتقبل الآخر وانشاء علاقة بين الشعوب.
العائق الاول والاهم يرتبط بالتوجه المتواصل للمؤسسة الحاكمة في مصر لفرض الاحتكار على علاقات السلام مع اسرائيل لمصلحتها الحصرية، وهي تتصرف كذلك لاسباب سياسية واقتصادية: في المجال السياسي، فان تقييد مظاهر سلام مدنية تساعد في تعزيز الصورة الدولية للنظام باعتبارها القوة السياسية الوحيدة في مصر التي تلتزم بالحفاظ على اتفاق السلام مع اسرائيل، في حين أن كل بديل ديمقراطي يمكن أن يؤدي الى انهاء السلام في احسن الحالات أو الى اندلاع الحرب بين مصر واسرائيل في اسوأ الحالات. في المجال الاقتصادي، السلام مع اسرائيل يمنح نخبة صغيرة من رجال الاعمال فرصة حصرية لجرف اموال في مجالات مثل الغاز والتجارة البحرية والمنسوجات (عن طريق اتفاق “كيز”، المناطق الصناعية المؤهلة)، في حين أن جزء من الارباح فقط يصل الى الجمهور المصري الواسع. هذا الواقع الاقتصادي يضر بصورة السلام مع اسرائيل في اوساط الشعب المصري الذي يرى فيه “سلام فاسد”. علاوة على ذلك، هي تربط اسم اسرائيل مع ظواهر الفساد الداخلي في مصر، التي تأخذ من المواطن المصري العادي الشعور بأن السلام يجلب له ثمار اقتصادية مباشرة، ويثير فيه الحماسة ويحثه على العمل على ترسيخه وتعميقه.
من اجل الحفاظ على الاحتكار المؤسسي للسلام وتقويته، فان المؤسسة المصرية لا تتردد في تشويه صورة الجهات المدنية التي تسعى الى أن تأخذ لنفسها جزء من العلاقات مع اسرائيل. تجربة الماضي تعلم أن المفكرين والنشطاء المصريين الذين تجرأوا على محاولة بناء جسور تعاون مع اسرائيل خارج المظلة المؤسسية يعرضون انفسهم لخطر المقاطعة، وهي تحول ثمن الدعوة الى التطبيع وتوضيح فائدته للشعب المصري الى عبء ثقيل يصعب تحمله، كما أنها تردع قوى سياسية ومدنية عن العمل في السلام. يجب أن نذكر في هذا السياق العزل المخجل لعضو البرلمان المصري توفيق عكاشة بعد استضافته في بيته في شباط 2016 السفير الاسرائيلي في حينه حاييم كورن. الدعاية السائدة في وسائل الاعلام المصرية الرسمية ضد “مؤامرة اسرائيل ضد مصر ودول المنطقة” تساعد ايضا في كبح مؤيدي السلام. كما أنها تؤجج نار الكراهية لاسرائيل وتخلق نزع الشرعية عن كل جهة مصرية تحاول تشجيع “السلام الايجابي” والعمل على التعايش خارج الاحتكار المؤسسي.
عائق آخر أمام تقدم السلام بين الشعبين يتعلق بالتضامن القائم في مصر مع الموضوع الفلسطيني. اجل، في السنوات الاخيرة سجل انخفاض معين على اهتمام الجيل الشاب بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني. هذا التوجه لا يقتصر على مصر: الاستطلاع الذي اجري في بداية 2017 في اوساط الشباب في الدول العربية، ومن ضمنها مصر، وضع الصراع الاسرائيلي الفلسطيني كتهديد ثامن في أهميته، بعد تهديد البطالة والارهاب وغلاء المعيشة. في نفس الوقت، من وجهة نظر مصرية براغماتية، فان دولة فلسطينية في حدود حزيران 1967 هي مصلحة قومية مصرية. هذا الواقع برز بصورة أكبر بعد سيطرة حماس على القطاع في 2007 وتحويله الى موقع داعم للمنظمات الاسلامية الجهادية السلفية في شبه جزيرة سيناء، ويهدد أمن مصر القومي. ان غياب اتفاق سياسي بين اسرائيل والفلسطينيين يقوي حماس ويزيد التهديد ضد مصر من قطاع غزة. اضافة الى ذلك، الشعب في مصر لا يمكنه تجاهل التراجيديا الانسانية التي القاها الصراع المتواصل على الفلسطينيين. هذا لا يعني أن الموضوع الفلسطيني يشكل سببا حصريا أو اساسيا للطابع البارد للسلام، لكن حله سيعزز من يؤيدون السلام في مصر ويسحب الورقة الاهم من أيدي من يعارضون التطبيع.
عائق ثالث امام تسخين السلام يتعلق بالفجوة السياسية والقيمية العميقة القائمة بين معسكر السلام الليبرالي في مصر وبين حكومة اليمين الحالية في اسرائيل. الجيل الليبرالي الجديد في مصر له توجه انساني، واولئك الذين في داخله والذين يتبنون القومية المصرية يؤكدون بعدها الانساني، وليس البعد الشوفيني القومي. انهم يعارضون قتل الاطفال والمدنيين الاسرائيليين على أيدي المنظمات الارهابية الفلسطينية، بالضبط مثل معارضتهم لقتل اطفال ومدنيين فلسطينيين على أيدي الجيش الاسرائيلي. الكثيرون منهم يظهرون تفهمهم لاحتياجات اسرائيل الامنية، لكن الخطوات التي تتخذها الحكومة الاسرائيلية، مثل مصادرة الاراضي لصالح المستوطنين في الضفة الغربية وفرض العقاب الجماعي على عائلات الارهابيين واستخدام القوة الزائدة ضد السكان الفلسطينيين، تعتبر في نظرهم مظاهر عنصرية وعدم تقبل الآخر، التي تناقض القيم الدولية. اضافة الى ذلك، تصريحات جهات متطرفة في اسرائيل تبعث الحياة في التطرف الديني والقومي الموازي في مصر. من يرفضون السلام في مصر يستعينون بها من اجل تأجيج العداء ضد اسرائيل واثبات أن يدها غير ممدودة للسلام والتعايش. مثلا، تصريحات سياسيين من اليمين من اجل انشاء دولة فلسطينية في شبه جزيرة سيناء أو تهديدات بتفجير سد أسوان استغلت طوال سنوات لتحريض لاسامي، وخدمت من يدعون أنه يجب على مصر مواصلة رؤية اسرائيل كدولة معادية.
اضافة الى ذلك، احدى خصائص المعسكر الليبرالي الجديد الذي نشأ في مصر على خلفية الثورات هي تصميمه على الطابع العلماني للدولة المصرية ومعارضته لأي نوع من خلط الدين بالدولة. هذا المعسكر يعارض تأسيس دولة على قاعدة دينية، ولا يهمه اذا كان الامر يتعلق بدولة اسلامية، يهودية أو مسيحية. لهذا السبب فان ما يعتبر احيانا دمج بين الدين والدولة في اسرائيل يثير صعوبات كثيرة في اوساط الجيل الشاب في مصر، الذي يسأل نفسه كيف يمكننا معارضة دولة دينية في مصر ونسج شراكة مع دولة ذات طابع ديني قومي في اسرائيل.
الخلاصة: توصيات
بعد مرور أربعة عقود على زيارة السادات الى القدس فان السلام بين إسرائيل ومصر ما زال باردا. الظروف الحالية تمنح الطرفين فرصة لتطوير وتحديث مضمونه. لصالح السلام هنالك اليوم تصور متشابه للمصالح والتهديدات الإقليمية. التنسيق الأمني والحميم حول محاربة الإرهاب، الايمان بمستويات العمل الحكومية والعسكرية والامكانيات الكامنة في التعاون الاقتصادي، وخاصة إزاء اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط. لهذا، تنضم أيضا التغيرات الإيجابية التي حدثت في مواقف الجيل الشاب المصري نحو إسرائيل، على ضوء الثورات التي حدثت في مصر في السنوات الأخيرة. هذه التوجهات تخلق وقتا مناسبا لتسخين علاقات الدول والشعوب، ولكن تحقيقها هو صعب ومعقد ويقتضي عمليات رائدة من كلا الطرفين. النظام المصري والذي شكل السلام البارز في جوهره ما زال غير جاد بما فيه الكفاية لتبديد الاساطير السلبية المغروسة في الخطاب المؤسسي المصري ضد إسرائيل واليهود، ولا يعمل ما تقتضيه الضرورة لنشر رسائل المصالحة والسلام، على الصعيد العملي فهو يقيد مظاهر التطبيع التي تنحرف عن صعيد العلاقات الرسمية بين الحكومات، ولا يسمح بحرية العمل لمجموعات ولافراد في مصر وفي إسرائيل مهتمين بتطوير علاقات متبادلة في مجالات الاقتصاد، المجتمع المدني، العلوم والثقافة. بهذا المعنى فانه ينحرف عن الرؤيا الاصلية للرئيس السادات والذي عبر عن أمله في احدى مقابلاته الأخيرة بأنه “عن طريق علاقات مباشرة، يومية وحرة، ستأخذ العلاقات بين مصر وإسرائيل تدريجيا حجمها ووزنها الطبيعي”.
عائق هام يقف امام إسرائيل، وأيضا قوته قلت هو الجمود المستمر في عملية السلام. النظام والشعب في مصر ما زالوا يشعرون بالتضامن مع ضائقة الفلسطينيين، ولكن أبعد من ذلك هم يرون في حل المسألة الفلسطينية مصلحة وطنية مصرية. إقامة دولة فلسطينية أو على الأقل – التقدم نحوها، تعتبر في نظر أوساط مصرية واسعة كعملية ستساعد في كبح تهديد تفشي التطرف الإسرائيلي في مصر والمنطقة. أصوات للتطرف القومي والديني من جانب جهات في إسرائيل تؤجج أيضا توجهات موازية داخل مصر، وترسخ شيطنة الجانب الإسرائيلي في الرأي العام المصري.
يوجد لدى الحكومتين المصرية والإسرائيلية اليوم فرصة لرفع علاقات الثقة التي تطورت في الجانب الأمني الى ساحات عمل أخرى، وتشجيع إقامة فضاءات للتعاون غير الحكومية شرعية، والتي يمكن أن تتطور بصورة طبيعية وأصيلة بين الشعوب. من أجل ذلك يجب على المستويات الرسمية التنازل عن الاحتقار الذي اخذوه لانفسهم على إدارة علاقات السلام وتمكين جهات مدنية ترغب في ذلك من نسج علاقات متبادلة على قاعدة رغبة واهتمام مشتركين. ان سلسلة من الخطوات يمكنها أن تشجع العلاقات المتبادلة الاقتصادية بين الدولتين، والتي كانت حتى الان مستنكرة حتى الان من قبل الجمهور المصري الواسع وينظر لها كفاسدة ومنها: منح حرية عمل للشركات ولرجال أعمال من كلا الدولتين، تشجيع التعاون التكنولوجي في مجالات المعرفة ذات العلاقة مثل تحلية المياه، الزراعة الصحراوية، الطاقة المتجددة والطب؛ تطوير مشاريع سياحية مشتركة، إيجاد مشاريع دراسية وتبادل طلاب؛ تخفيف الإجراءات البيروقراطية المتعلقة بحرية التنقل بين الدول وتصاريح تشغيل. هذه الخطوات بالإمكان دمجها في المستقبل ضمن برامج تكامل إقليمي – شرق أوسطية ومتوسطية. التعاون الاقتصادي المرغوب هو ذلك الذي سيثمر فائدة ملموسة في المواطنين المصريين والإسرائيليين، يجعل السلام حاضرا في حياتهم ويثبته في قلوبهم.
وظيفة بناءة ومهمة معدة أيضا للقوى المدنية في كلا الطرفين. هؤلاء يستطيعون التعاون في دفع سلام من نوع جديد، قائم على الرغبة في حياة مشتركة، في اعتراف متبادل وتطوير قيم سلام ومصالحة. ان التكنولوجيا العلمية الموجودة الان في ايدي الشعوب، منتشرة بشكل خاص في وسط الشباب – اخترقت العديد من العوائق والحدود المملاة من أعلى. نشطاء السلام يستطيعون الالتقاء والنقاش من أجل نشر أفكارهم عن طريق مؤتمرات ومناقشات موجهة واستخدام المنابر التي تقدمها الشبكات الاجتماعية، والتي تحولت لتصبح أكثر قوة ونجاعة من وسائل الاعلام التقليدية المسيطر عليها جزئيا من قبل معارضي التطبيع. اذا كان الاستعداد المتزايد للجيل الشاب في مصر لتطوير علاقات السلام بين مصر وإسرائيل يحظى بشرعية من المؤسسة المصرية وتم الرد عليها بيد ممدودة من الجمهور الإسرائيلي سيكون في ذلك ما من شأنه ان يساهم في تسريع الانتقال من السلام الرسمي القائم الى السلام المدني المأمول.
اتفاق السلام التاريخي الذي أورثه السادات وبيغن للشعبين في مصر وإسرائيل هو قاعدة قوية يجب العناية بها وتطويرها. “الأجيال القادمة” التي تحدث عنها الرئيس المصري قبل أربعة عقود أصبحت موجودة هنا، ولكن نتيجة البشرى التي يحملونها معهم نحو السلام الإسرائيلي – المصري لم تتشكل بعد. بإمكانهم وضع ختم من نوع جديد على علاقات الدولتين ولكن أيضا اليوم كما في الماضي فانهم محتاجون الى قيادة ذات شجاعة ورؤيا تزيل من طريقهم العقبات، وتفتح امامهم الأبواب وتشجعهم على الانطلاق نحو المحطة التاريخية القادمة.
الصين على بوابة عهد جديد
بعد المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب الشيوعي3
بقلم: درون ايلا وغيلا لبيد وآساف أوريون
في 18 – 25 تشرين الاول عقد في بجين المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب الشيوعي الصيني، المنبر السياسي الاهم في الدولة. في هذا المؤتمر الذي يعقد مرة كل خمس سنوات شارك آلاف المندوبين الكبار في الحزب والحكومة والجيش، وانتخبوا القيادة المستقبلية للصين وصادقوا على الخطوط السياسية للسنوات القادمة. وقد عقد المؤتمر بعد حملة تطهير واسعة ومستمرة في الحزب بسبب الفساد، في ظل وجود تحديات اقتصادية وتوتر مع كوريا الشمالية. عند افتتاح المؤتمر ألقى الرئيس شي جين بينغ خطابا مطولا رسم فيه خارطة الطريق للصين في العقود القادمة في مجال الاقتصاد والسياسة والبيئة والجيش والامن والعلاقات الخارجية. الرسالة التي خرجت من المؤتمر هي “عهد جديد” في علاقات الصين مع دول العالم، وهي تمثل تأثيرات محتملة ايضا على اسرائيل. الاتجاهات الواضحة والظاهرة هي التغييرات في القيادة العليا، وفي التوجهات الاقتصادية والامنية التي تم الاعلان عنها، وهي التي تتطلب من اسرائيل متابعة التطورات وأن تلائم سياستها مع ذلك.
خطاب الرئيس شي: الصين في بداية عهد جديد
خطاب الرئيس شي، الذي عين من جديد في بداية المؤتمر كرئيس للجنة العسكرية المركزية، افتتح بالاعلان عن بداية “عهد جديد” في سياسة الصين الداخلية والدولية. وحسب اقواله الصين توجد في مفترق طرق وعليها أن تتحول الى دولة عظمى تقود العالم. كما أكد شي على أن الحزب لن يوافق على كل اصلاح سياسي يؤثر على طبيعة النظام، وأن الصين لن تسمح بتطوير طموحات للاستقلال من قبل حكومة تايوان.
أعلن شي ان “الجيش تم اعداده للقتال” وأن الصين ستواصل تعزيز جيشها بمساعدة الحداثة والماكينات، وستزيد من استخدام التكنولوجيات العلمية وستقوم بقفزة كبيرة في قدرتها الاستراتيجية. حسب اقواله، حتى العام 2025 ستحقق قوات الامن والجيش الصيني اهداف التحديث، وحتى العام 2050 سيكون الجيش الصيني في مستوى عال.
بخصوص الاقتصاد، اعلن شي أنه حتى العام 2035 ستحقق الصين هدف “تحديث اشتراكي”، وحتى العام 2050 ستتحول الى دولة عظمى عالمية في أسرة الشعوب. وعاد شي وأكد في خطابه على مكانة الصين كدولة عظمى مسؤولة تسعى الى قيادة دول العالم نحو مستقبل أكثر استقرارا، وأشار الى أن الصين ستفتح أكثر اسواقها امام مستثمرين اجانب وستواصل الاصلاحات الاقتصادية الهيكلية. وتفاخر الرئيس ايضا بأن الصين حققت اهداف التطوير والتحديث بدون تبني القيم الغربية، ومن هنا تأتي قوتها. بناء على ذلك، اقترح نموذج التطوير الصيني كنموذج عالمي.
التغييرات في دستور الحزب الشيوعي: اضافة افكار شي جين بينغ
في اطار المؤتمر صوت مندوبو المؤتمر بالاجماع في صالح تعديل الدستور، وضمنوا فيه فصل “اشتراكية بخصائص صينية تمهيدا لعهد جديد”. في هذا الفصل ذكر بصورة صريحة اسم الرئيس شي، وهكذا اعطيت له مكانة موازية لكبار رجال الأمة الصينية – ماو تسي تونغ ودينغ سياو بينغ. وسبق في 2016 أن اعتبر الحزب الشيوعي شي كـ “زعيم اساسي”، يشبه ماو ودينغ، والمنشورات الصينية تطرقت لهؤلاء الثلاثة كقادة كبار للصين الحديثة. بناء على ذلك كان المؤتمر محطة اخرى في تعزيز مكانة وقوة الامين العام للحزب، الرئيس والقائد الاعلى لجيش التحرير الشعبي، عندما اضاف اعضاء المكتب السياسي المنتخبين لألقابهم المتعددة ايضا لقب لينغ تسيو والذي يعني الزعيم الروحي، اللقب الذي أعطي في السابق فقط لماو تسي تونغ، ولوريثه لفترة قصيرة، الذي يعبر عن درجة اعلى من المفهوم العادي لـ لينغ داو (القائد)، ويعني الشخص الذي يقود. باحثون في الغرب يعتقدون أن رفع مكانة الرئيس ترمز الى امكانية أنه ينوي تمديد ولايته أكثر من الولايتين المتبعتين، لكن على ضوء جهاز الكوابح والتوازن القائم في قمة الحزب، فما زال من المبكر الاستنتاج بصورة حاسمة شيء من هذا القبيل.
تغييرات في هيكلية القوة السياسية للحزب
كما هو متوقع، فان ولاية الرئيس ورئيس الحكومة الحالي لي كا تسيانغ، مددت لولاية اخرى. ورغم ذلك تم استبدال معظم القيادة العليا، وعلى رأسها خمسة من بين الاعضاء السبعة في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي. خلافا لما هو متوقع، استقال المقرب من شي ورئيس لجنة الانضباط والرقابة في الحزب، فانغ تشي شان (69 سنة)، وهكذا تم الحفاظ على سن التقاعد المتبع في الحزب (68 سنة). وقد تمت ترقية خمسة اعضاء جدد لعضوية اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، جميعهم فوق سن الستين، ولا يوجد أحد عمره اقل من ذلك، والذي كان بالامكان أن يبدو وريث محتمل للرئيس في 2022.
محللون في الغرب يدعون أن هذا ايضا يعتبر اشارة على نية الرئيس تولي ولاية ثالثة. من جهة اخرى كانت سوابق تاريخية قريبة للصين عين فيها رئيس بدون الاعلان عنه مسبقا في المؤتمر كوريث محتمل.
في المكتب السياسي نفسه تم استبدال 15 من أصل 25 عضو، والآن 14 من الاعضاء، هكذا قيل، هم ممن يؤيدون الرئيس شي، بما فيهم ثلاثة لديهم فرصة للتعيين كورثة له (تشين مين آر وغو تشون خوا ودينغ شوا شيانغ). مقابل اجيال سابقة من اعضاء المكتب السياسي الذين وصلوا من اصل قروي أو كانوا مهندسين، الاعضاء الجدد هم خبراء سياسيون واقتصاديون ونظريون، الامر الذي يشير الى سلم اولويات الحزب تمهيدا للسنوات القادمة. التعيينات الجديدة في المستويات الادنى مهمة هي ايضا من اجل فهم القيادة المستقبلية للصين. وبشكل خاص يجدر الانتباه لترقية شباب الحزب (الجيل الثالث) والذين في السنتين الاخيرتين تضاعف عددهم، بالاساس في اوساط القيادة في الضواحي. هذا الجيل أقل ايديولوجيا من اسلافه وأقل ارتباطا بقيم الحزب. وهو ايضا الجيل الذي سيكون عليه التعامل مع اعتلالاته.
معاني وتوصيات لاسرائيل
من طبيعة الامور، في الصين ما بعد مؤتمر الحزب ستستمر معظم الخصائص المعروفة له، وبناء على ذلك تغرينا امكانية تحليل التوجهات المستقبلية على اساس الافتراض أن “ما كان هو ما سيكون”. ورغم ذلك، من الصحيح التعامل باحترام مع “العهد الجديد”، الذي أعلن عنه الحزب الشيوعي ورئيسه. الرئيس شي خرج من المؤتمر في ولايته الثانية وهو معزز بقوة استثنائية، والرسائل من المؤتمر تشير الى آفاق طموحة وترسم تغييرات مخطط لها في مجال الاقتصاد والخارجية والامن للصين في السنوات والعقود القادمة.
انفتاح اقتصادي متزايد للصين امام استثمارات ونشاطات تجارية اجنبية، اذا تحققت كما تم الاعلان عنها، ستؤثر على الافق الاقتصادي بعلاقات الصين واسرائيل، وذلك ينطبق ايضا بخصوص الخطوات لتعزيز سلطة الحزب في الصين. دور أكثر نجاعة وتأثير للصين في الساحة الدولية من شأنه أن يوسع تدريجيا ايضا تدخلها في المسائل التي تمس اسرائيل، وهذا سيجبر قادتها على ايلاء اهتمام اكبر لاعتبارات الدولة العظمى الصاعدة. إن استمرار زيادة القوة العسكرية – الامنية للصين، وتوسيع نشاطها وتأثيرها في العالم بهذا المستوى، ستجبر اسرائيل على اعطاء اهتمام متزايد للتصدير الامني من الصين الى الشرق الاوسط، بما في ذلك لاعداء اسرائيل، وللصين كمنافسة على سوق السلاح، والى حضور متزايد لقوات عسكرية صينية في المحيط الاستراتيجي لاسرائيل. بوادر اولى يمكن تشخيصها في القاعدة العسكرية التي انشأتها الصين في جيبوتي والتي افتتحت في نهاية 2015، كقاعدة مساعدة لوجستية. ولكن تم تأهيلها بالكوادر لاحقا من قبل الجيش الصيني.
صعود الصين على المسار المؤدي الى مكانة دولة عظمى عالمية في مجال السياسة والامن، اضافة الى الحلبة الاقتصادية، يشكل تحديا هاما للولايات المتحدة والنظام العالمي الذي انشيء في اعقاب الحرب العالمية الثانية، عندما كانت الجمهورية الشعبية الصينية تخطو خطواتها الاولى.
هذا التحدي يلزم حكومة اسرائيل بالتصرف بحساسية كبيرة مع مثلث العلاقات المركب بين الدولتين العظمتين وبينها وبين اسرائيل، وذلك من اجل استخلاص الامكانية التجارية الكامنة لصالحها، وتقليص المخاطرة للمس بعلاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
مع استقرار القيادة الجديدة واستكمال التعيينات المترتبة عليها في اجهزة الحزب والادارة في الصين، يجب على اسرائيل أن تفحص كيف تخلق السبيل للوصول الى القيادة الجديدة. وبصورة مشابهة، يجب على اسرائيل أن تشخص دوائر الحزب التي ستصعد منها القيادة المستقبلية المحتملة وانشاء قنوات اتصال وحوار معها، من اجل حوار ناجع، يحقق المصالح الوطنية لاسرائيل في العقود القادمة.
انتقاد ذاتي في السياسة الايرانية:
المحافظون والاصلاحيون ما بعد الانتخابات الرئاسية4
بقلم: راز تسيمت
منذ الانتخابات الرئاسية لايران في ايار 2017 والتي انتهت بتجديد انتخاب الرئيس حسن روحاني، يجري في داخل المعسكرين السياسيين الرئيسيين في ايران: المحافظ والاصلاحي نقاشا معمقا حول مواصلة طريقهما على ضوء نتائج الانتخابات. ففي حين يتركز المحافظون في تحليل العوامل التي ادت الى هزيمتهم في الانتخابات فان الاصلاحيين يعيدون فحص جدوى مواصلة التعاون مع الرئيس ومع جهات معتدلة في المعسكر المحافظ.
في أعقاب الانتصار الساحق لروحاني والانجازات الهامة التي حققها المرشحون الاصلاحيون في انتخابات المجالس المحلية، والتي جرت بموازاة الانتخابات الرئاسية، تسمع في المعسكر المحافظ دعوات الى مراجعة الذات. في خلفية الانتقاد الداخلي والمطالبة بالتغيير يمكن الاشارة الى سلسلة هزائم سجلت ضد المحافظين في السنوات الاخيرة، وعلى رأسها فوز الرئيس روحاني في الانتخابات في 2013 و 2017 والانجاز الهام للمحافظين في الانتخابات البرلمانية في 2016.
الخطاب الذي يجري في الاشهر الاخيرة في المعسكر المحافظ يتركز على الفجوة الاخذة في الاتساع ما بين اليمين والمحافظ والجمهور الايراني وخاصة الجيل الشاب الذي يبتعد عن القيم الدينية والثورية ولم يعد يعتقد ان في وسع المحافظين توفير حلول لمشاكله ومطالبه. احد المنتقدين البارزين في اوساط المحافظين هو البروفيسور أمير موحبيان، وهو محلل سياسي كبير وصحفي يعتبر اليوم واحد من كبار الاستراتيجيين في المعسكر المحافظ. في سلسلة مقابلات لوسائل الاعلام الايرانية اشار موحبيان الى الحاجة لمواءمة اليمين المحافظ للتغييرات الاجتماعية التي تجري في العقدين الاخيرين في ايران، وذلك بدون التنازل عن قيمه الدينية. حسب ادعائه، ففي اعقاب الانتصار المفاجيء للزعيم الاصلاحي محمد خاتمي في انتخابات 1997 للرئاسة تبنى المحافظون مقاربة شعبوية وأزاحوا من صفوفهم رجال دين وسياسيين محافظين تقليديين، ومن بينهم الرئيس السابق اكبر هاشمي رفسنجاني، والرئيس الحالي روحاني ورئيس المجلس علي لاريجان، والذين يعتبرون العمود الاساسي للمعسكر. ان الوصول للسلطة تحول الى هدف مركزي اساسي بالنسبة للمحافظين، حتى بثمن التنازل عن قيم وفقدان هوية. لقد فضل المحافظون محاكاة اسلوب الاصلاحيين بدلا من محاولة تجنيد دعم جماهيري، ومن ضمن ذلك في شباب وفي الطبقة الوسطى، بطرقهم الخاصة. موحبيان يورد كمثال تجنيد مغني الراب أمير تتالو من قبل المرشح المحافظ في انتخابات الرئاسة ابراهيم رايسي من أجل تحسين صورته في اوساط الشباب. ليس فقط ان هذه الخطوة لم تساعد رجل الدين المحافظ، بل انها اثارت السخرية ضده. وقد تم اسماع انتقادات ايضا في الصحف المحافظة التي عرضت “ظاهرة تتالو كتعبير عن أزمة الهوية التي يقف امامها المحافظون وللمقاربة الشعبوية التي تميزهم. موحبيان دعا المحافظين الى البقاء مخلصين لقيمهم ولكن ايضا بلورت استراتيجية جديدة وحلول عملية لمطالب الجمهور وخاصة الشباب، في مجالات الاختصاصات والحريات الفردية. لقد أوصى ايضا باجراء تغييرات بنيوية، وعلى رأسها عقد مؤتمر وطني أو مجلس وطني يعزز العلاقة مع الجمهور الواسع وان يعملوا من أجل اعادة اصلاح المعسكر المحافظ.
تمهيدا للاصلاح في المعسكر المحافظ انضم ايضا رئيس بلدية طهران السابق، محمد باقر قاليباف، الذي انسحب من المنافسة على الرئاسة قبل ايام معدودة من الانتخابات. في اعقاب نتائج الانتخابات للمجالس المحلية، والتي أدت الى الانتصار الحاسم للاصلاحيين في بلدية طهران اضطر قاليباف الى الانسحاب أيضا من وظيفته كرئيس بلدية. في نهاية تموز نشرت قاليباف رسالة علنية وجهت لـ “الشباب الثوريين” في ايران، دعا فيها الى نقد ذاتي واصلاحات في المعسكر المحافظ. لقد ادعى بان هزيمة المحافظين في الانتخابات كانت بسبب مشاكل هيكلية ومن سلوك غير سليم والتي تقتضي تغييرا اساسيا وتأسيس تيار “محافظ جديد” بقيادة الشباب. رسالته أثارت انتقادا من جانب خصومه السياسيين، الذين ادعوا بان كل ما يهدف له هو الحفاظ على مكانته السياسية بعد هزيمته، ولكنه أيضا حظي بدعم من جانب عديدين في المعسكر المحافظ الذين دعوا الى تبني توصياته من أجل تمكين المحافظين من الفوز من جديد.
ايضا في المعسكر الاصلاحي، تُسمع دعوات لاعادة فحص الأهداف الاستراتيجية. في حين ان الحاجة الى المراجعة والنقد الذاتي طرحت لدى المحافظين بسبب هزيمتهم في الانتخابات، فان الحاجة الى التغيير في اوساط الاصلاحيين برزت على ضوء خيبة الأمل من سلوك الرئيس روحاني بعد الانتخابات والاعتراف بفشلهم في استغلال انجازاتهم السياسية لخدمة وجهة نظرهم وخاصة بالنسبة لتحسين حريات المواطن. لدى تشكيل حكومته الجديدة، اتضح ان الرئيس روحاني، الذي فضّل الامتناع عن مواجهة المؤسسة الدينية المحافظة، اختار تجاهل معظم مطالب الإصلاحيين، وامتنع عن تسكين الوزارات التي تعتبر حساسة بمرشحين اصلاحيين، ولم يضم الى حكومته نساء او ابناء اقليات. ان سلوك الرئيس اثار مجدداً مسألة دعم الاصلاحيين للرئيس. عشية تشكيل الحكومة صرّح رئيس قائمة الاصلاحيين في المجلس محمد رضا عارف، أن هنالك من ينسون بعد فوزهم في الانتخابات من عملوا لصالحهم، وان روحاني مدين بنجاحه للإصلاحيين. وبالرغم من خيبة الامل من التشكيلة الحكومية الجديدة فقد اكد معظم المتحدثون المحسوبون على المعسكر الاصلاحي بأنه ليس لدى الاصلاحيين خيار سوى مواصلة دعم الرئيس من اجل عدم المخاطرة بتعزيز قوة المتطرفين. لقد عبر المحلل السياسي الكبير البروفيسور صادق زيباكلام عن هذا الموقف عندما ادعى بانه بالرغم من ان روحاني اقرب في مواقفه الى المحافظين منه الى الاصلاحيين، الا انه يجب مواصلة دعمه والاكتفاء بانتقاد سياسته لأن مسؤولية فشله ستقع على عاتق الاصلاحيين.
الى جانب الانتقاد المتزايد للرئيس، فقد برزت في المعسكر الاصلاحي دعوات لإعادة تقييم الاستراتيجية تمهيداً للحملات الانتخابية القادمة للمجلس في (2019) وللرئاسة (2020) . لقد شكك عدد من كبار السياسيين الاصلاحيين بجدوى مواصلة التعاون مع المحافظين المعتىدلين، بدعوى ان التحالف معهم في الانتخابات الاخيرة للمجلس أدت الى انتخاب مرشحين ذوي آراء محافظة، والذين تم دعمهم من قبل الاصلاحيين وفروا من صفوفهم بعد الانتخابات. في الاونة الاخيرة صرّح رئيس الكتلة الاصلاحية في المجلس عارف انه في الانتخابات القادمة سيترشح الاصلاحيون بصورة مستقلة ولن يوافقوا على تشكيل تحالف مع السياسيين المحافظين .
ليست هذه هي المرة الاولى التي يجري فيها المعسكران السياسيان في ايران اعادة تقييم. في أعقاب انتصارات الإصلاحيين في نهاية التسعينيات، بدأ ينمو في ايران تيار محافظ جديد. لقد دخل للسياسة الايرانية شباب محافظون، أبناء الجيل الثاني للثورة، ومعظمهم خريجو الحرب العراقية الايرانية، والذين سعوا الى احياء قيم الثورة الاسلامية، ولكنهم بالمقابل اكدوا على الحاجة الى تطوير اقتصادي واصلاحات اجتماعية واقتصادية. المحافظون الجدد والذين احمدي نجاد كان من بين البارزين فيهم سعوا الى طرح انفسهم كبديل حقيقي سواء للجيل القديم من المحافظين الذين اعتبروا غير ذوي علاقة بالاساس من قبل الجيل الشاب أو بالنسبة للاصلاحيين والذين في نضالهم من اجل اجراء اصلاحات سياسية، اعتبروا وبدرجة كبيرة تهديداً لقيم الثورة الاساسية. من الجانب الثاني فان القمع السياسي واعادة السيطرة من قبل المحافظين على المؤسسات الحيوية المنتخبة، في العقد الماضي ادى الى اعادة تفكير ايضا في اوساط الاصلاحيين الذين اظهروا استعدادا لأن يأخذوا على عاتقهم قواعد اللعبة للنظام والتعاون مع جهات محافظة معتدلة من خلال الاستعداد للاكتفاء – على الاقل في المدى القصير- بتحسين الوضع الاقتصادي، بزيادة الانفتاح على الغرب وتقليص محدود وتدريجي لتدخل الحكومة في حياة المواطنين.
ان عمليات التقييم الداخلية في اوساط المحافظين والاصلاحيين تدلل على اعترافهم بمواطن ضعفهم الاساسية. المحافظون يعترفون بالاغتراب المتزايد لدى الجمهور تجاه المؤسسة الدينية –المحافظة، في حين ان الاصلاحيين يعترفون بفشلهم في تحقيق اصلاحات مدنية – ولو محدودة – بالرغم من انجازاتهم في الانتخابات. مع ذلك، فان قدرة كلا المعسكرين على تحقيق عمليات تغيير هامة وناجعة مشكوك فيها جداً. ان نجاح المحافظين في تجنيد دعم جماهيري، وخاصة في اوساط الشباب، تقتضي التخلي عن النموذج الاسلامي- الثوري خلافا لموقف المرشد الاعلى علي خامنئي. بالمقابل، صحيح ان الاصلاحيين يحظون بدعم جماهيري أوسع، ولكن تجربة الماضي اثبتت ان المحافظين مصممون على شل قدرتهم سواء بوسائل قانونية، عن طريق الغاء ترشيح اصلاحيين في الانتخابات، أو عن طريق قمع سياسي ومدني. بالرغم من ذلك، فان النقاش الذي يجري في كلا المعسكرين السياسيين ليس امرا عديم الأهمية. أولاً، نظراً لأنه يعبر عن اعترافاً متزايداً بالحاجة الى تكييف الأيدولوجيا والاستراتيجية السياسية للظروف الزمانية والواقع المتغيّر. وثانياً، لانه يشير الى الاتجاهات والتوجهات في الصراع المتوقع على هوية الجمهورية الاسلامية في عهد ما بعد خامنئي.
روسيا في الساحة الدولية5
بقلم: تسفي مغين وايتمار رابينوفيتش
في 16- 19 تشرين الاول عقد في روسيا في مدينة سوشي اجتماع “منتدى فلداي”، الذي يلتقي فيه كبار الباحثين في العالم العاملين في موضوع روسيا. هذه المؤتمرات يتم استغلالها ايضا كمنبر للسياسيين الروس لنقل رسائلهم الى النظام العالمي. ايضا في هذه المرة ظهر الرئيس الروسي في هذا الحدث الى جانب عدد من كبار رجالات الحكومات. خلال المؤتمر عرض بوتين أمام الحضور رؤيته السياسية.
حسب رأي بوتين، فان القيمة المستقبلية الحقيقية ستكون التكنولوجيا وليس الاراضي والعقارات، كما هو مقبول في الوقت الحاضر. لذلك مطلوب استعداد يتناسب مع ذلك. إن اعادة هذا الاستعداد مطلوبة ايضا على خلفية ازدياد المنافسة وتعاظم التوترات بين الدول والشعوب والانظمة المختلفة، وكذلك ازاء خرق التوازن في النظام الدولي وادارة صراعات منفلتة العقال لخدمة مصالح، بسببها النظام الحالي في الفضاء العالمي آخذ في التدهور، من خلال زيادة الارهاب وضعضعة الامن العالمي.
وقد قال بوتين إنه في الولايات المتحدة وفي اوروبا يظهر توجه بارز مناويء لروسيا. وحسب اقواله فانه على الرغم من الجهود الروسية للتقرب من الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، فان الغرب أظهر نحو روسيا العداء وعمل لخدمة مصالحه من خلال عدم الاهتمام بها. هذه المقاربة كانت في اساس المواجهة الحالية بين روسيا والغرب. الولايات المتحدة تعرضت في هذا السياق لانتقاد شديد بسبب علاقتها السلبية، حسب اقوال بوتين غير المنطقية، التي تظهر في نشاطات تآمرية في روسيا، واساءة استخدم انفتاحها في الماضي في مواضيع الرقابة على التسلح. وحسب اقواله، هذا هو اساس أن التعاون بين روسيا والولايات المتحدة تقلص تدريجيا حتى توقف نهائيا في السنوات الاخيرة. وحسب رؤيته فان الانتقاد الداخلي في الولايات المتحدة لانتخاب ترامب للرئاسة ليست سوى تعبير عن هذا التوجه المناويء لروسيا، والذي يستهدف تعطيل التقارب بين الدولتين. ترامب نفسه عرض في خطاب بوتين بصورة ايجابية جدا، وكأنه يحظى بقدرات شخصية ونوايا ايجابية بخصوص التعاون مع روسيا. وقال بوتين إن روسيا من ناحيتها سترحب بتحسين العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة، التي وصفت بأنها دولة قوية في العالم.
بالنسبة لاوروبا والناتو، فقد تم اتهامهما بعدة نشاطات سلبية بخصوص المصالح الروسية ومناطق الازمات المختلفة في الساحة الدولية. بوتين وصف ازمة اوكرانيا كنتيجة نشاطات اوروبية تآمرية، تم تنفيذها بغطاء امريكي. ايضا الازمة في اسبانيا حول كتالونيا وصفت وكأنها نتيجة تشجيع اوروبا لميول انفصالية مختلفة. وأكد بوتين على أن انشاء دولة وحيدة القومية ليس حلا، بل يشكل مشكلة، وأن روسيا نفسها تخشى من الميول الانفصالية. ومن ضمن امور اخرى، بسبب امكانية أن تقوم الجماعات السكانية المسلمة في اراضيها أو في المناطق التي تقع تحت تأثيرها – الاتحاد السوفييتي سابقا – بتبنيها. الخطأ الاول، حسب بوتين، هو حالة كوسوفو. وحالات من التدخل الفظ والعقيم في اماكن مختلفة في الشرق الاوسط، تعود حسب قوله الى نفس النوع ونفس الاتهام. اضافة الى ذلك، نسب بوتين للضغوط والتهديدات من جانب الغرب تعقيد ازمة كوريا الشمالية.
وحسب اقوال بوتين، فان روسيا، رغم الضغط الاقتصادي والسياسي، التي تتعرض لها، فهي تحتل تدريجيا مكانا رائدا في الساحة الدولية، ومكانتها تتعاظم وعلاقتها مع دول كثيرة وهامة، منها الصين والهند، هي علاقات جيدة. كما أكد على العلاقة الجيدة لروسيا مع جميع الدول في الشرق الاوسط وخاصة السعودية ومصر وقطر، وأن اهتمام روسيا بالتعاون في هذه المنطقة كبديل للغرب. بالنسبة لعملية التفاوض التي تجري في محاولة لحل الازمة السورية، فان بوتين وصفها كصعبة، لكنها تتقدم. لقد أوصى جميع اللاعبين المحليين في سوريا وكذلك اللاعبين الاقليميين ذوي العلاقة بدمج قواتهم من اجل استقرار الدولة. في نفس الوقت، اتهم بوتين الغرب بأنه اذا انتهى النضال ضد الارهاب في الشرق الاوسط بنجاح، فان العنف سيستمر لأن تأثير الغرب عمق جذوره في مجتمعات معينة.
وقد ذُكرت اسرائيل في خطاب بوتين بلهجة متعاطفة. حسب اقوال وزير كبير في حكومته، الذي ظهر في المنتدى، فان اسرائيل، صديقة روسيا، والتي فيها مجموعة سكانية كبيرة من المهاجرين من الاتحاد السوفييتي سابقا، هي دولة هامة في الشرق الاوسط، وهامة ايضا على المستوى الدولي. في الحقيقة، صحيح أن اسرائيل بنت مكانتها كدولة عسكرية عظمى في المنطقة، في ظل واقع التحديات الذي توجد فيه، لكن هذا أمر طبيعي. ولكن حسب اقوال الوزير الكبير فان الاخطار التي تواجهها اسرائيل من جيرانها تضاءلت، لذلك لا يوجد أي مبرر لتخوفاتها المبالغ فيها من حزب الله مثلا. كما قال الوزير إنه ربما يكون خطأ أن ترى اسرائيل في عدائها لايران تحديا – حيث أن تغيير النظام في ايران ليس بالضرورة سيكون في صالح اسرائيل. وحسب اقواله، من غير المعقول أنهم في اسرائيل لا يدركون ذلك. اضافة الى ذلك ذكّر ذلك الوزير الكبير بوجود تحالف سني بتعاون اسرائيلي. واضاف إن حل الموضوع الفلسطيني هو أمر حيوي لأن غيابه يزيد من العنف في المنطقة. وقد نصح اسرائيل بالاهتمام باعتبارات روسيا هذه وأعلن أنه من ناحيته هو يؤيد اهتمام روسيا باعتبارات اسرائيل.
بوتين نفسه شرح بالتفصيل البعد العسكري للعلاقات الدولية الحالية والمستقبلية. الى جانب اتهام الولايات المتحدة بانهيار عملية نزع السلاح والرقابة عليه التي بدأت في السنة الاولى بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، ادعى أنه يمكن ومرغوب فيه العودة الى الجهود المشتركة لنزع شامل للسلاح النووي. اجل، صحيح أن بوتين اتهم الولايات المتحدة بتطوير وسائل قتالية متقدمة، لا تقل، حسب وصفه، عن القدرة النووية (يمكن أن الامر يتعلق بنظام الصواريخ المنشورة عالميا والمسماة “بي.جي.اس”، وليس مستبعدا حسب رأيه، أن يتم استخدام هذا النظام ضد كوريا الشمالية، لكنه أشار الى أن قدرات روسيا في هذا المجال لا تقل الآن عن القدرات الغربية. وكدليل على ذلك، الانجازات في محاربة الارهاب في سوريا تفوق انجازات الغرب: يوجد لروسيا انظمة صواريخ حديثة، تعادل الموجودة لدى الولايات المتحدة، وقدراتها تمت تجربتها في الحرب السورية (ما قصده كما يبدو هو الصواريخ الموجهة التي اطلقت من منصات بحرية بعيدة). حسب بوتين، فان الادوات لادارة الازمات تتقادم في الوقت الذي لم يتم فيه انتاج ادوات جديدة. وكل ذلك، حسب قوله، بسبب سلوك الغرب الذي يعزز توجهات سياسية وفكرية غير مقبولة أو مؤيدة في مناطق مختلفة في ارجاء العالم. حسب اقواله، الحل المطلوب لكل التحديات هو تشكيل نظام عالمي يستند الى التغيير في المقاربة، وضمن ذلك النظر الى المستقبل، من خلال جسر الاختلافات الحالية بينها وبين الغرب… حسب اقواله، يجب التوقف عن التهديد واستخدام القوة الزائدة. من ناحيته، الطريقة السليمة هي الحوار الذي يأخذ في الحسبان حساسية الطرفين، الذي يجري بالاساس بتعاون دولي واسع قدر الامكان والتوحيد بين القوى الايجابية في النظام العالمي، التي هي الآن مشتتة. في هذا السياق زعم أنه لا يوجد بديل افضل للامم المتحدة.
تقدير
إن التوقعات من خطاب بوتين المثير لم تتحقق. اقواله لم تعرض ادعاءات جديدة وثورية، بل تركزت حول ادعاءات معروفة – اساسا توجيه الاتهامات للغرب بسبب علاقته مع روسيا، وخلق ازمات تضعضع النظام العالمي. وذلك مقترنا برسائل تقول إنه في أيدي روسيا حلول مؤكدة النجاعة لتحسين الوضع.
ما بعد المستوى الاعلاني يتبين أن روسيا معنية بعدم الانجرار في علاقتها مع الغرب. اضافة الى ذلك، الى جانب اتهام الولايات المتحدة بنشاطات مناوئة لروسيا، يبدو أن الرئيس بوتين متفائل بخصوص امكانية التعاون مع ادارة ترامب. صحيح أن الوضع الداخلي في روسيا تم عرضه من قبل بوتين كايجابي، لكن في الواقع، هو يتأثر سلبا باجمالي الازمات في الساحة الدولية، لا سيما الازمة في اوكرانيا، التي بسببها فرضت على روسيا عقوبات من الغرب. في هذا السياق فان غضب روسيا موجه في الاساس نحو اوروبا التي اتهمت بأنها هي التي بادرت الى الازمة، وتعمل على احباط التقارب بين الولايات المتحدة وروسيا. وفي تطرق بوتين لشؤون الشرق الاوسط، يتبين أنه على الرغم من صورة التدخل الروسي الناجح في سوريا، إلا أنها تجد صعوبة حتى الآن في احداث اختراق دراماتيكي لانهاء الازمة في هذه الدولة. التوصل مع لاعبين اقليميين آخرين الى تفاهمات بخصوص التسوية. مع ذلك، في السنتين الاخيرتين تحولت روسيا الى عامل مؤثر في الشرق الاوسط من خلال اظهارها سلوك سياسي متزن. هناك أهمية معروفة ايضا بأن اسرائيل يتم طرحها من قبل روسيا كشريكة ولاعبة اقليمية هامة. ويفهم من ذلك أن روسيا تدرك ضرورة الاهتمام بمصالح اسرائيل.
عمليا، خطاب بوتين عبر عن احباط بخصوص المكانة الدولية والتوق لتحسين هذه المكانة. الرد الذي تعرضه روسيا هو السعي الى نظام عالمي جديد، يتم فيه الاعتراف بها كدولة عظمى هامة لها دور اساسي في عملية تشكيل النظام المستقبلي. وقد أكد بوتين على أنه الى حين تحقق هذه الاهداف، فان لدى روسيا الآن القدرة على وضع تحديات هامة أمام الغرب، بما في ذلك تحديات عسكرية. ورغم أنه واضح أن روسيا ما زالت بعيدة عن الوضع التفاؤلي كما عرض من قبل بوتين، لا يجب الاستخفاف بقدرتها على اعادة بناء نفسها كقوة عظمى عالمية، تتحدى النظام العالمي. عليها مواجهة فجوات اقتصادية، انقسامات داخلية وتحديات جيوسياسية في فضاء مصالحها في المنطقة ما بعد النظام السوفييتي. ولكنها تصمم على مواصلة السعي الى تحقيق اهدافها.