اللواء محمود الناطور: في الذكرى الـ20 لاستشهاد ياسر عرفات
اللواء محمود الناطور 11-11-2024: في الذكرى الـ20 لاستشهاد ياسر عرفات
يمر علينا دائما تاريخ 11-11 من كل عام ليذكرنا حينما أطل القائد الرمز ابو عمار من باب المروحية، في الرحلة الأخيرة، حيث كانت رائحة الموت تختلط بخواطر الوداع، أراد في يوم الصعود إلى المروحية، أن يضع ابتسامته أمانة في أعناقنا، فيأذن لنا بأن نتسلح بها في مواجهة عربدات العدو.
فالعظام وقوفاً يموتون. فأبو عمار قضى بطلاً واقفاً ممتنعاً عن الانكسار، في تشييعه المهيب. طوبى له حيثما يضطجع الآن على مقربة من القدس. ستظل سيرته، نبعاً لذاكرة المناضلين، نتعلم منها، أن الغزاة ذاهبون حتماً، وأن الوطن هو صنو الفطرة، وأن الأعداء لا عهد لهم ولا ميثاق، وأن الاستشهاد وقوفاً، هو أحلى أنواع الموت وأعذبها، أما أبو عمار فإنه سيظل حاضراً في الضمائر.
لقد ارتبط اسم ياسر عرفات بالتاريخ الفلسطيني الحديث، قائداً للثورة المعاصرة التي استطاعت أن تضع القضية الفلسطينية على اولويات الاجندة الدولية، ليس في سياقها الإنساني فقط كقضية لاجئين، وإنما قضية شعب يسعى إلى الحرية والاستقلال. فقد أنقذ ياسر عرفات الحالة العربية بعد هزيمة 1967م من حالة الانهيار إذ جعل الكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد والمقاومة مستمرة معتبراً أن الهزيمة العسكرية يجب ألا تؤدي إلى انهزامية الشعوب وبهذا مكن الشعب الفلسطيني من استئناف الأمل. وشكل ظاهرة وجدت فيها الجماهير العربية رغبة لاحتضان الفدائيين في ظل فشل الأنظمة العربية. وجاء انتصار معركة الكرامة عام 1968م والمناداة بعدها بأبي عمار ناطقاً رسمياً باسم حركة فتح حتى تعرف العالم على قائد الثورة الفلسطينية. ويذكر التاريخ مقولة الزعيم جمال عبد الناصر: “إن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى”.. ليضيف عرفات: “إن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى ولتنتصر”. لتصبح تلك الكلمات نبراساً يضيء الظلام الحالك الذي كان يلف العالم العربي وجماهيره التي كانت قد وصلت إلى أسوأ مراحل اليأس والإحباط بعد هزيمة حزيران 1967م.
خاض ياسر عرفات نضالاً طوال أكثر من 40 عاماً على مختلف الجبهات، في ظل السياسات والمصالح المتناقضة، وكرس الكيانية الفلسطينية. وعاش ثورة بساط الريح متنقلاً بين العواصم والدول. ومارس الكفاح المسلح وحرب الشعب طويلة الأمد، والدبلوماسية والإعلامية، وكرس فكر الوسطية والمرحلية والواقعية. واستطاع المحافظة على القضية الفلسطينية، بالرغم من الأمواج والعواصف العاتية، والتطورات التي حدثت في المنطقة والعالم، معتمداً على سياسية اللعب على التناقضات، والانتقال من تحالف إلى آخر، ومن سياسة إلى أخرى ومحتفظاً بالقدرة على اعتراف غالبية القوى بزعامته، ولذلك يعتبره الفلسطينيون والعرب وأحرار العالم رمزاً شامخاً للنضال الوطني والثورة العالمية.
منذ أن التقيت به لأول مرة في مخيم الكرامة في الأردن في بداية العام 1968م اكتشفت أنني أمام شخصية قيادية مذهلة، من خلال الممارسات التي تميز بها في تعامله مع المقاتلين في قواعد حركة فتح، التي كان يحرص على التواجد فيها بصورة دائمة، متنقلا في الأغوار وفي جبال السلط وقواعد الفدائيين من الشونة الشمالية إلى الشونة الجنوبية وفي الكرامة وفي عمان.وبعد خروج الثورة من الأردن إلى لبنان، كنت ملازماً له، أعمل معه لوقت طويل يزيد عن 14 ساعة يومياً، يشعرني خلالها بالثقة والمحبة والاطمئنان، ولي الفخر الشديد بتجربتي معه وتعلمي منه أن من يعمل يخطئ ومن لا يعمل لا يخطئ، ومن يعمل بإخلاص يكون الخطأ الذي يرتكبه خطأ فقط وليس خطيئة، وزرع في داخلي الإصرار والعزم والإقدام لأنه كان يردد على الدوام أنه لا يوجد مستحيل في هذه الدنيا، وكان يطبق ذلك بالفعل مؤكداً لي أن الحياة قصيرة والإنسان يذكره التاريخ بعمله الجيد والإخلاص لشعبه وقضيته لذلك كان حريصاً على سيرته القيادية وينفذ واجباته بصفته قائد عظيم لشعب عظيم، شعاره أن الحياة وقفة عز.
ياسر عرفات الذي عرفته كان رجلا مؤمنا قدريا، حياته المسكونة بفلسطين كان لها طابع مادي وطابع روحي استمده من خلفيته المتدينة ما ظهر جليا في معاملاته وسلوكه ومواقفه، ولطالما أظهر عرفات ذلك في معظم خطاباته التي كان يحرص على تضمينها الآيات القرآنية الكريمة بشكل دائم، واحيانا آيات من الإنجيل. وكانت شخصية عرفات الرصينة والملتزمة والمتدينة تحلق في فضاء الرحابة والانفتاح في حضارتنا العربية الإسلامية -والمستفيدة من حوار الحضارات كلها- التي طالما استشهد برموزها، وطالما ردد العديد من الاحاديث النبوية الشريفة، والمأثور من حكم العرب وقادتهم، كما كان يحفظ الشعر العربي ويحبه ويردده.
لقد مثل ياسر عرفات الفكر المنفتح السهل الذي يسمع ويستفيد ولا يقصي أحدا، فكانت رحابته بارزة في حرصه على تعدد الآراء واحتضانها واحترام المخالفين في ديمقراطية مارسها كما كان يقول “في ظل غابة البنادق”. وكان رقيقا مع خصومه السياسيين خلافا للانطباع الذي يعطي عنه سواء خصومه داخل “فتح” أو خارجها، وربما أكثر خصومه السياسيين مشاكسة كان جورج حبش لكن ياسر عرفات هو الذي سمى جورج حبش “حكيم الثورة”. كما أطلق على نايف حواتمه اسم “سوسلوف” منظر الحزب الشيوعي السوفييتي باعتبار أنه منظر الثورة الفلسطينية ومنظر البراغماتية.
اكتسب ياسر عرفات لقب “الختيار” من خلال صورة الأب الذي يحمل على كاهله هموم شعب فلسطين، ولذلك فقج جاءت مشاكل المواطنين على رأس اهتماماته، ولطالما كان برنامجه اليومي حافلا بالاستجابة لطلبات المساعدات المالية أو المتعلقة بالعلاج التي كان يؤكد دائما لمساعديه على ضرورة أن تكون ضمن بريده اليومي معتبرا أن هذه أمور شعبنا اليومية ويجب أن ننجزها فورا. ولا يمكن تصور قدرته على إدارة الوقت وإيجاد فرصة لمتابعة أمور إنسانية، وخاصة تلك التي تتعلق بأبناء الشهداء، الذين كان يبذل جهودا كبيرة ليؤمن احتياجاتهم الضرورية، فقد كان يقضي اسعد ساعاته معهم في مدارسهم ، وكان يجلس إلى طاولة الطعام لديهم وسط ضجيج الأطفال وفرحهم.
كان أبو عمار يعتز بالمرأة الفلسطينية ويرى فيها أصالة الروح النضالية، ويعتز بوجودها في كافة مواقع الثورة الفلسطينية باعتبارها طودا شامخا ورمزا رائعا لصمود وبسالة الشعب الفلسطيني، واتذكر احد المواقف التي حضرتها مع الاخ ابو عمار عندما توجهنا إلى بيت ام علي النصراوية ها لتعزيتها باستشهاد ابنها الثاني ، وطوال الطريق كان أبو عمار يشعر بالحرج الشديد ولا يدري ماذا سيقول لها ولذلك سألني: يا أبو الطيب والله لا اعرف ماذا سأقول لام علي، أنا محتار.. وعندما وصلنا ووقفت “أم علي” أمامه انهار وبدأ يبكي بحرقة .. فقالت أم علي بتبكي يمه.. اللي بدو يبكي لا ييجي لعندي !! وبعد أداء واجب العزاء وأثناء طريق العودة قال لي أبو عمار: هذا هو شعبنا الفلسطيني دائما متقدم على قيادته، شعبنا اقوى من قيادته ، شعبنا اقوى من قيادته.
كان يطلق للمبادرات العنان، فخلق المؤسسات التي رعاها بكل جوارحه، ونمى روح التعاون بين عناصرها، وساعد على أن تأخذ مكانها في الحياة النضالية للثورة الفلسطينية، فلكل عمل كانت مؤسسة هي التي تراقبه وتديره سواء العمل العسكري أو السياسي أو الاقتصادي أو العلمي والثقافي، أو الشؤون الاجتماعية. وأنشأ ياسر عرفات في لبنان المدارس والمستشفيات والعيادات ومؤسسات الثورة الاجتماعية مثل صامد والثقافية، والإعلامية (مثل مجلة فلسطين الثورة) فانخرط في هذا العمل، وفي المتاجر والمصانع آلاف الفلسطينيين واللبنانيين، وواصل “الثائر” أبو عمار رحلة الكفاح المسلح، فشرع في ترتيب صفوف المقاومة معتمدا على كوادر مخيمات اللاجئين، واجتذبت معسكرات التدريب العسكري في لبنان كافة الحركات الثورية في العالم حتى التروتسكيين والإسلاميين ومن آسيا إلى أوروبا فأمريكا الجنوبية.
كما كان هذا القائد الكبير يختزن وفاء عميقا لأصدقائه الذين وقعوا في المآزق من قادة الدول والأحزاب، فكان يعتني بزوجة نلسون مانديلا وابنته، وابنة أحمد سيكتوري وزوجها بعد رحيله وعرض أن يقدم المساعدة لإريك هوينكر رئيس ألمانيا الديمقراطية، الذي نفته القيادة الجديدة بعد وحدة الألمانيتين إلى تشيلي. وكذلك بينظير(بنازير) بوتو التي كانت تعتبره والدها ترجع إليه في كثير من الأمور، فبعد إعدام والدها ذو الفقار علي بوتو كانت بنازير بوتو محط عنايته الفائقة. وعلى نفس الشاكلة كانت علاقاته مميزة مع عائلة نهرو في الهند من السيدة أندريا غاندي إلى ابنها راجيف إلى زوجته سونيا، وارتبط بعلاقات هامة مع رؤساء ورؤساء وزراء وثوار أذكر منهم كنموذج فقط أولوف بالمه الذي فتح له أبواب أوربا من بوابة السويد بعد الخروج من بيروت ثم طرابلس، وكذلك كانت علاقاته مع عدد من الأخوة اللبنانيين الذين وقفوا معنا صفا واحدا في معاركنا ومنهم وليد جنبلاط الذي كان محط عنايته بعد اغتيال والده المناضل الكبير كمال جنبلاط وكذلك أولاد المناضل اللبناني معروف سعد والكثير من رجالات الحركة الوطنية اللبنانية.
تحت أي ظرف أو مبرر كان لا يرى الصواب بأن يجعل التحالف أساسيا مع دولة واحدة مهما كانت درجة استعدادها للتضحية وذلك لأنه يعتقد بأن هذا الحليف قد يستغل الأوضاع والأمر لا يحتمل الرهان أو قد تتبدل الأوضاع السياسية فتنقلب عليه ولذلك فهو لا يكتفي برأيه بل يدفع للتوجه ناحية اليمين الرجعي بحجة أنه أكثر استقرارا وثباتا في الدعم ضمن نقاط اللقاء رغم الخلاف المبدئي معه والذي يجب عدم الإعلان عنه أو تحريكه إلا في الدفاع فقط. وكان على وعي كامل بخطورة القضية التي يحمل أمانتها، وبحجم التداخلات الإقليمية والدولية، وكان على ثقة مطلقة بأن الآخرين لهم أيدي وأصابع في الاطار الفلسطيني، ولذلك كان يتوقع كل شيء، ويحافظ على أسراره بعيدا عن تلك الأيدي.
التركيبة النفسية لأبي عمار لا تقبل ولا تعترف بالهزيمة، وهذا بحد ذاته يبقى بابا مفتوحا للأمل دائما في مسيرة الثورة الفلسطينية، ويؤمن بالقوة ويعجب بها، ولذلك واجه التحديات ولم يتهرب، كان يواظب على ارتداء الزي العسكري والتمنطق بالمسدس مع اعتمار الكوفية الفلسطينية بشكل دائم، مما منحه كاريزما خاصة. وكان لديه حس أمني وقدرة على الإحساس بالخطر فائقة ولذلك كانت دوام حركته نابعة من ذلك. إضافة إلى قدرته على التكيف مع العسكريين عند بوادر التمرد واجتياز رغبته الحقيقية في ردة الفعل تجاههم إذا كانت الضرورة تقضي بذلك. فعرفات كان محبا للحياة، لكنه كان مدركا أن الموت يحدق به، لذا غالبا ما كان ينام بملابسه، حتى يستطيع التحرك بسرعة حيث تستدعي الأحوال ذلك، لا أذكر أنه نام يوما بدشداشة بل كان ينام ببدلة رياضة حتى يسهل عليه التحرك. واستطاع أن يكتسب احترام ومحبة المقاتلين في كافة قواعد الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها. وكان يتواجد في كثير من الأحيان مع المقاتلين في قواعدهم في الأوقات الخطرة، ولم يكن يحسب لتلك المخاطر أي حساب.
وفي هذا السياق أذكر أيضا الطبيعة الخاصة التي كانت تربط أبو عمار بالعسكريين الذين كان يرفض المطالب الكثيرة بإحالتهم إلى التقاعد أسوة بالكثير من الموظفين في العديد من دول العالم معتبرا أن أولئك العسكريين هم شركاء في النضال وأن المسيرة النضالية بحاجة إلى جميع جهود أبناء الشعب الفلسطيني. وتعرض أبو عمار أثناء حصاره في المقاطعة لضغوط وإغراءات كبيرة لإجباره على إحالة قدامى العسكريين إلى التقاعد حيث عرضت عليه جهات دولية تمويل مشروع تقاعد قدامى العسكريين بما يقارب الـ500 مليون دولار وهو الأمر الذي رفضه وعارضه بشدة حتى استشهاده.
ولقد ابدع شاعرنا الكبير محمود درويش في رثاء القائد الرمز ياسر عرفات قائلا : “انه استطاع أن يروِّض التناقض في المنافي، بمزيج من البراغماتية والدين والغيبيات وتحوَّل بديناميكيته الخارقة وتماهيه الكامل بين الشخصي والعام وعبادة العمل، من قائد إلى رمز شديد اللمعان. لم يزاول مهنة الهندسة لتعبيد الطرق، بل لشقّها في حقول الألغام. قد يحتاج التاريخ إلى وقت طويل لترتيب أوراق هذا الرجل – الظاهرة. لكنه سيمنحه رتبة الشرف في علم القدرة على البقاء منذ الآن، ومنذ الآن سيتوقف طويلاً عند مغامرته – المعجزة: إشعال النار في الجليد: فقد قاد ثورة معاكسة لأي حساب، لأنها ربما جاءت قبل أوانها، أو بعد أوانها ربما. أو ربما لأن موازين القوى الإقليمية لا تأذن لأحد بإشعال عود كبريت قرب حقول النفط… وعلى مقربة من الأمن الإسرائيلي! لم ينتصر في المعارك العسكرية، لا في الوطن ولا في الشتات. لكنه انتصر في معركة الدفاع عن الوجود الوطني، ووضع المسألة الفلسطينية على الخارطة السياسية، الإقليمية والدولية، وفي بلورة الهوية الوطنية للفلسطيني اللاجئ المنسيّ عند أطراف الغياب، وفي تثبيت الحقيقة الفلسطينية في الوعي الإنساني، ونجح في إقناع العالم بأن الحرب تبدأ من فلسطين، وبأن السلم يبدأ من فلسطين”.