#أقلام وأراءدراسات وتقارير خاصة بالمركز

العميد أحمد عيسى يكتب -التقييمات الإستراتيجية الإسرائيلية .. إستقراءات بدل القراءات .. وإرتباك مفاهيمي واضح.. وإختلاف في ترتيب الأولويات بين الشعب والمؤسسات المهنية

بقلم العميد أحمد عيسى – المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي – 8/8/2021

نشر معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS) يوم الأحد الموافق 1/8/2021، في إصدار خاص له، التقييم الإستراتيجي للنصف الثاني من العام الجاري، وقد إختص هذا التقرير بتحديث قائمة التحديات التي تواجه إسرائيل في بيئتها الإستراتيجية.

ويعتبر هذا التقرير إستثنائياً، إذ درج المعهد منذ أكثر من عقد على تحديد ونشر قائمة التحديات والتهديدات التي تواجه إسرائيل في بداية كل سنة وتحديداً عقب مؤتمر دولي متخصص في قضايا الأمن القومي يعقده المجلس سنويا، وكان المعهد قد عقد النسخة الرابعة عشر لهذا المؤتمر في بداية العام الجاري.

وقد برر المعهد إصداره للتقرير المحدث بجملة من الأسباب يقف على رأسها تولي رئيس جديد للدولة مهام منصبه، إذ حل الرئيس هرتصوغ محل الرئيس ريفيلين، سيما وأن المعهد قد درج بروتوكولياً على تقديم تقاريره السنوية لرئيس الدولة وليس لرئيس الوزراء.

وأضاف المعهد جملة أخرى من الأسباب التي دفعته لإعداد هذا التقرير مثل: حدوث جملة من التطورات المحلية والإقليمية والدولية خلال الشهور الستة الماضية أنتجت بدورها مجموعة جديدة من التحديات للدولة، كدخول إدارة جديدة للبيت الأبيض وتبنيها أجندة مختلفة عن أجندة الإدارة السابقة، خاصة قرار الرئيس بايدن محاولة العودة للإتفاق النووي مع إيران، وتشكيل حكومة جديدة في إسرائيل خلفاً لحكومة نتنياهو الذي هيمن على الحكم لأكثر من عقد، فضلاً عن إندلاع جولة جديدة من القتال مع غزة، وزيادة التوتر في المجتمع الإسرائيلي بما في ذلك إندلاع موجة من الصدام بين مواطني الدولة من العرب واليهود في معظم المدن المختلطة في إسرائيل.  

وأياً كانت الأسباب خلف إصدار هذا التقرير فهو يوفر فرصة للمراقبين خاصة الفلسطينيين منهم للوقوف على حجم الإرباك المفاهيمي المهيمن على مؤسسات التقدير الإسرائيلية عند قراءة البيئة الإستراتيجية للدولة، كما يعكس حجم الهوة بين الجمهور والمؤسسات المهنية في تشخيص التهديدات والتحديات وترتيب الأولويات، الأمر الذي يضاعف من القرائن الدالة على عجز النظرية الأمنية الإسرائيلية النافذة على توفير إجابات مطمئنة للشعب حول قدرة الدولة على معالجة ما تواجهه من تهديدات وتحديات، ويمكن إثبات صحة هذا الإستنتاج من خلال التحليل المقارن للتقرير السنوي الذي صدر في بداية العام الجاري بالتقرير الجديد الذي صدر في بداية الشهر الجاري. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن التقرير الجديد هو التقرير الإستراتيجي الأول الذي يصدره المعهد في عهد الإدارة الجديدة، إذ جرى مؤخراً إستبدال رجل الإستخبارات المعروف الجنرال المتقاعد عاموس يادلين الذي أدار المعهد لأكثر من عقد تقريباً، بالبروفيسور المتخصص في الشأن الإقتصادي إيمانويل 

تراجتمبيرج، الأمر الذي بحد ذاته لا يخلو من دلالة.

ووُسم التقرير الجديد بعنوان (التحديات الإستراتيجية التي تواجه إسرائيل: توصيات)، أما التحديات فقد عددها التقرير بسبعة تحديات جاءت مرتبة كالتالي: إيران (عدم الوضوح يتطلب تجهيزات لسيناريوهات متعددة)، الجبهة الشمالية (مطلوب تحديث السياسات لمواجهة جملة من التهديدات)، النظام الفلسطيني (تعزيز السلطة والتوصل لترتيبات مع غزة)، النظام الإقليمي (فرصة التطبيع، 2)، النظام الدولي (تبني سياسات تتلائم مع الإتجاهات الدولية)، البيئة العملياتية للجيش (الحرب الأخيرة على غزة بمثابة مكالمة إفاقة)، النظام الإسرائيلي (الخروج من الأزمة متعددة الأبعاد).

وألحق بالتقرير نتائج مسح مؤشرات مقياس الأمن القومي، وقد تضمن المسح هذه المرة أربعة أسئلة كانت إجاباتها كالتالي: ما هي أكثر الأشياء إقلاقاً لك؟ الصدامات بين المواطنين العرب واليهود 27%، التهديدات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي 21%، كل ما ذكر 42%، التهديدات الخارجية لإسرائيل 5%، لا يقلقني أي مما ذكر 5%.

لاحقا لتطورات السنة الماضية، هل ترى أن الموازنة يجب أن تعطي أولوية للمواضيع الخاصة بالإقتصاد، والوضع الإجتماعي، والنظام الداخلي أكثر من أولوية الأمن؟ نعم 59%، لا 27%، لا أعرف 14%.

اي من التوترات الداخلية تقلقك أكثر؟ التوتر بين العرب واليهود في إسرائيل 52%، التوتر بين اليمين واليسار 24%، التوترات الناتجة عن الوضع الإقتصادي-الإجتماعي 8%، التوترات بين الحرديم والعلمانيين 8%، التوترات بين جماعات إثنية 2%،  لا شيئ مما ذكر 6%.

أي من الجمل التالية هي الأقرب لوجهة نظرك؟ يتوجب على الحكومة الإستثمار في مواطني الدولة العرب بنفس القدر الذي تستثمره في المواطنين اليهود، 42%، على الحكومة الإسراع في الإستثمار بالمواطنين العرب لتقليص الفجوة بين العرب واليهود، 22%، على الحكومة ان لا تستثمر في المواطنين العرب داخل إسرائيل إطلاقاً، 15%، على الحكومة أن تستثمر في المواطنين العرب بدرجة أقل من إستثمارها في المواطنين اليهود، 12%، لا أعرف، 9%. 

أما تقرير التقييم الإستراتيجي السنوي الصادر عن المعهد في بداية العام الجاري فقد تضمن قائمة تهديدات وليس تحديات للعام الجاري 2021 تكونت من عشرة تهديدات كنت قد تطرقت اليها في مقالين منفصلين الأول كان بعنوان: (الفلسطينيون في ميزان الأمن القومي الإسرائيلي 2020-2021) متوفر على الرابط التالي: https://samanews.ps/ar/post/451628 ، والثاني كان بعنوان: (إسرائيل في ميزان الأمن القومي 2020-2021) متوفر على الرابط التالي: https://www.maannews.net/articles/2030762.html، تحيل إليهما هذه المقالة منعاً للإطالة والتكرار.

وتظهر مقارنة التقريرين أن التقرير الجديد تناول في دراسته لقائمة التحديات البيئة الإستراتيجية للدولة (المحلية والإقليمية والدولية)، فيما التقرير السنوي لم يتطرق اللبعد الدولي عند دراسته للتهديدات التي تواجه الدولة في العام 2021 واكتفى بالتركيز على البيئتين المحلية والإقليمية.

وتظهر المقارنة كذلك أن عدد التحديات التي تضمنها التقرير الجديد اقل من عدد التهديدات التي تضمنها التقرير السنوي، إذ تضمن التقرير الجديد سبعة تحديات في البيئة الإستراتيجية، فيما التقرير السنوي تضمن عشرة تهديدات تنبع من مصادر محلية وإقليمية.

ومن حيث التوافق بين التقريرين فتظهر المقارنة أن هناك إتفاق بين التقريرين على ترأس إيران قائمة التهديدات كما ورد في التقرير السنوي، وقائمة التحديات كما ورد في التقرير الجديد، كما يتوافق التقريرين على إفرادهما مساحة أوسع للتهديدات والتحديات الداخلية التي تهدد وتواجه المجتمع الإسرائيلي أكثر من المساحة التي خصصت للتهديات والتحديات الخارجية.

اللافت في هذا الشأن أنه على الرغم من مطالبة الجمهور بتركيز الحكومة على قضايا الداخل على حساب الإهتمامات الأمنية كما يبدو واضحا في المسوح الخاصة بمقياس الأمن القومي، إلا أن التقريرين قد وضعا التهديدات الأمنية الخارجية على رأس القائمة في الحالتين، الأمر الذي يعكس الفجوة في التفكير بين النخبة والمجتمع في ترتيب الأولويات.

وفيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي فتظهر المقارنة أن التحدي الناشئ عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد رتبه التقرير الجديد في المرتبة الثالثة بعد إيران والجبهة الشمالية، فيما إحتل الصراع كتهديد المرتبة العاشرة والأخيرة في قائمة التهديات المتضمنة في التقرير السنوي.

وتظهر المقارنة كذلك أن التقرير الأخير قد إستبدل مفهوم التهديدات بمفهوم التحديات عند التطرق للموضوعات ذاتها حيث ظلت إيران، سيما برنامجها النووي العسكري، والجبهة الشمالية التي تشمل سوريا ولبنان تتصدران قائمة التحديات في التقرير الجديد كما تصدرت قائمة التهديدات في التقرير القديم.

اللافت هنا أن التقرير الجديد لم يوضح الأسباب التي دفعته للإستبدال، كما لم يحدد المعايير التي بناء عليها جرى الإستبدال، وينبغي حول هذه النقطة التوضيح أنه من المعروف، سيما للعارفين بكيفية إعداد التقديرات في المؤسسات الإستخبارية والأكاديمية المتخصصة في قضايا الأمن القومي، أن إنتقال التحدي إلى تهديد، أو هبوط التهديد إلى تحدي أمر وارد، ولكن يبقى المعيار الفاصل هنا منوط بدرجة قدرة الدولة على المعالجة، فإنتشار البطالة على سبيل المثال في المجتمع تبقى تحدي للدولة ويتحول هذا التحدي إلى تهديد للأمن القومي عندما تفشل الدولة في معالجة الأسباب.

ويكشف الإرباك المفاهيمي في الحالة الإسرائيلية كما يتجلى في التقريرين المشار إليهما عن خللين جوهريين في نظرية الأمن الإسرائيلية كانا قد طفوا على السطح منذ بداية الألفية الجديدة، وقد تطرق لهما قلة قليلة من المختصين في الأمن القومي الإسرائيلي خاصة فيما يتعلق بالقيود التي تعتبر أحد مكونات العقيدة الأمنية الإسرائيلية، إذ تتكون هذه العقيدة وفقاً للبعض من المحللين الإسرائيلين من قيود وردود على هذه القيود، وربما يكون هذين الخللين أحد الأسباب التي تعزز ثقة السيد نصر الله في إعلانه بعد العام 2000 أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت.

ويدور هذين الخللين وفقاً لخبراء إسرائيليين كان قد وثق كتاباتهم الباحث الفلسطيني عوض منصور، حول قيدين جديدين هما تهديد الوجود، وعقيدة الأمن القومي ذاتها، وقد ساهم في كشف هذين القيدين تطورات مثل: الإنسحاب الإسرائيلي من جانب واحد من لبنان العام 2000، ثم إندلاع إنتفاضة الأقصى في نفس العام، وكذلك الحروب على لبنان العام 2006، وعلى غزة العام 2008، 2012، 2014، وأخيرا العام 2021.

من جهتها إسرائيل لم تقر رسمياً بهذين الخللين حتى تاريخه وذلك لأن الإعتراف والإقرار بهما يستوجب كنتيجة، إعادة تعبئة المجتمع بشأن أيدلوجيا موحدة، وإعادة هيكلة المؤسسة الأمنية وعلاقتها بالقيادة السياسية، الأمر الذي أدركه شارون وانعكس على قراراته خاصة قراره الإنسحاب من غزة من جانب واحد العام 2005، إلا أن نتنياهو أوقف هذا النهج لاحقا وحسناً فعل، تأسيساً على قناعة أيدلوجية راسخة لديه بأن هذين الخللين ليس أكثر من فانتازيا نظرية لا أساس لهما في الواقع أمام قوة إسرائيل العسكرية المرعبة مقارنة بدول الشرق الأوسط.

وتأسيساً على هيمنة أيدلوجيا اليمين النيوصهيوني التي يمثلها نتنياهو على المشهد الإسرائيلي برمته ظلت النظرية الأمنية دون تعديل أو تحديث، الأمر الذي غلب منطق الإستقراءات بدل القراءات للبيئة الإستراتيجية، وهذا بدوره أفقد الدولة ومؤسساتها العسكرية القدرة على قراءة المتغيرات بدقة، وتشخيص الخصم وتحديد هويته وأهدافه وقدراته وتوقيت بروز تهديداته، ومن ثم تحديد ما قد يترتب على هذه التهديدات من متطلبات للرد عليها خاصة فيما يتعلق بتحديد كيفية توزيع موارد الدولة وصياغة التحالفات الإقليمية والدولية.

ويجد منطق الإستقراءات هذا أوضح تجلياته في تغييب التقرير الجديد عمداً لما يحدث في القدس (الشيح  جراح وسلوان وباحات المسجد الأقصى) من أعمال مقاومة عنيدة للإعتداءات الإسرائيلية عند تناوله التطورات التي كانت سبباً في إعداده، 

إذ يعني هذا المنطق من قبل مُعدي التقييم أن الصراع في القدس قد حسم لصالح إسرائيل بمجرد نقل السفارة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس ترامب من تل أبيب للقدس وأن الإجراءات الإسرائيلية في القدس لن تثير مقاومة فلسطينية ذات شأن.

وقد جاء قصف حزب الله اللبناني الموثق يوم الجمعة الموافق 6/11/2021 لمناطق مفتوحة في شمال إسرائيل ردا على قصف الأخيرة لمناطق مفتوحة في جنوب لبنان يوم الخميس الموافق 5/11/2021، وإعتراف محللين إسرائيليين بسوء التقدير الإسرائيلي قرينة إضافية هي الأحدث على عدم مقدرة مؤسسات إسرائيل العسكرية على قراءة التغيرات في بيئتها الإستراتيجية بدقة، الأمر الذي يوجب على الفلسطينيين وغير الفلسطينيين عدم قراءة إسرائيل فقط من زاوية قوتها العسكرية والإقتصادية والتكنولوجية وعدم تجاهل القيود التي تقوم عليها عقيدتها الأمنية، لا سيما تلك التي لم تقر بها إسرائيل رسميا بعد.  

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى