العلاقات الأميركية الألمانية على المحك
مركز الناطور للدراسات والابحاث
منذ انتهاء الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة وأوروبا المبدأ القائل إن الديمقراطية (لا حكم الحزب الواحد) هي العامل الأساسي للاستقرار السياسي، وإن رأسمالية السوق (لا التنمية التي توجهها الدولة) هي العامل الحاسم لضمان ازدهار مستمر.
كان يُفترض أن تكون هذه العلاقة مثالية، فمن المعروف أن باراك أوباما وأنجيلا ميركل هما سياسيان هادئان وبراغماتيان ولا يهتمان بالمبادرات الظاهرية الكبرى بل بالنتائج الملموسة. بفضل ميركل، تعرف واشنطن بمن يجب أن تتصل حين تمر أوروبا بأزمة. في المقابل، يقدم أوباما لأوروبا صورة الزعيم الأميركي المنشود منذ فترة طويلة لأنه مستعد للاستثمار في مؤسسات متعددة الأطراف والجنسيات.
لماذا برز إذن انقسام واسع بين برلين وواشنطن من شأنه أن يهدد التحالف الغربي كله؟
بسبب حدوث تحول جذري في المصالح والمقاربات، تواجه الولايات المتحدة وألمانيا اختلافات قد لا تكون قابلة للحل.
لا ترتكز استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى على الدبلوماسيين والجنود والبحّارة حصراً بل على المفاوضين التجاريين أيضاً، لكن من المعروف أن المبادرات الاقتصادية تخدم الأهداف الجيوسياسية. يتعلق دعم الشراكة العابرة للمحيط الهادئ (اتفاق تجاري واعد ومتعدد الأطراف) بإنشاء حلف يتصدى لنفوذ الصين وبنقل سفن حربية أميركية إضافية إلى المياه الآسيوية.
في المقابل، يتراجع تركيز المسؤولين الألمان على الاستقرار الاقتصادي والمشاريع المستدامة. قبل نشوء أزمة منطقة اليورو، بدا وكأن ألمانيا كانت تتحول إلى قوة غربية “عادية” تهتم بتوسيع نفوذها السياسي وتريد توفير القوات العسكرية اللازمة للدفاع عن قيمها الليبرالية والأمن في كوسوفو وأفغانستان، لكن في الآونة الأخيرة، لم تعد ألمانيا تؤيد المبادرات المتعددة الجوانب بالقدر نفسه، أقله في المسائل الأمنية، وأصبحت أقل استعداداً لنقل سيادتها إلى المؤسسات المتعددة الجنسيات (مثل الاتحاد الأوروبي) أو المشاركة في مهام دولية. نتيجةً لذلك، برز خليط غريب من الثقة الاقتصادية والامتناع عن المشاركة العسكرية، فأصبحت ألمانيا قوة جغرافية واقتصادية تستعمل التجارة لتوسيع نفوذها وخدمة مصالحها.
هكذا بدأ الطموح الجيوسياسي الأميركي والأجندة الاقتصادية الألمانية يتصادمان. منذ 18 شهراً، أثارت ألمانيا حفيظة البيت الأبيض حين انضمت إلى البرازيل والهند وروسيا والصين للامتناع عن التصويت على اقتراح مجلس الأمن بفرض منطقة حظر جوي على ليبيا. أدى ذلك القرار إلى صدور تكهنات كثيرة مفادها أن ألمانيا أرادت تقليص دورها الداعم في التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة والتوجه نحو اتخاذ مواقف مستقلة وغير منحازة كتلك التي تتخذها أبرز القوى الناشئة.
لكن الشرخ الحقيقي بدأ يتسع قبل ستة أشهر، خلال قمة مجموعة العشرين في كوريا الجنوبية، فبعد أن أمضى الرئيس أوباما أسابيع عدة وهو يحاول إقناع الدول النامية بفكرة إعادة التوازن العالمي، فوجئ حين عارضت المستشارة الألمانية تلك الفكرة واتخذت موقفاً مشابهاً لموقف الصين ودول مصدِّرة أخرى. لم يؤدِّ امتناع ألمانيا عن التصويت في الملف الليبي إلى إحداث فرق كبير في الخطط الأميركية، لكن برلين وواشنطن وقفتا خلال قمة مجموعة العشرين في معسكرين متناقضين في ما يخص أهم المسائل التي تواجه قادة العالم: كيف يمكن أن تعيد الحكومات التوازن إلى العلاقات التجارية في العالم وهل يجب تحفيز الطلب أم فرض سياسة التقشف؟
لسوء الحظ، لا يستطيع أوباما فعل الكثير لاستعادة دعم الألمان. يمكن أن تعزز واشنطن ولاء حلفاء آخرين عبر تقديم عروض حول العملية السياسية والمعدات العسكرية والاستخبارات. لا يهتم الألمان العمليون بانتقادات هؤلاء المسؤولين الأميركيين، ما يعني أن ميركل لن تصغي إلى نصيحة الرئيس حول طريقة إدارة أزمة منطقة اليورو. يقول المسؤولون الألمان إن ثاني أهم دائن في العالم لا يمكن أن يتعلم الكثير من أبرز مدين في العالم!
في غضون ذلك، بدأت علاقة برلين وبكين تلفت الأنظار (إنها شراكة تجارية مثالية). لم تسمح ميركل خلال رحلتها الأخيرة إلى الصين بتعقيد تلك “العلاقة المميزة” الناشئة بين الدولتين بسبب وجود اختلافات جوهرية في القيم السياسية.
خلال الأشهر المقبلة، من المتوقع أن يزداد التباعد بين الولايات المتحدة وألمانيا. ستصبح الاختلافات حول كيفية تعويم الاقتصاد العالمي أكثر وضوحاً، فقد يتحدث المسؤولون الأميركيون أمام نظرائهم الأوروبيين عن الحاجة إلى تقاسم الأعباء العسكرية، لكن من المتوقع أن يصر الأوروبيون على ضرورة ألا تدفعهم المطالب بالتقشف إلى إنفاق المزيد على الجيوش تزامناً مع تخفيض الإنفاق في جميع المجالات الأخرى.
على المدى المتوسط، ستحد الوقائع الاقتصادية من الطموحات الجيوسياسية الأميركية. ستحتاج واشنطن إلى الوقت كي تحصل على ما تريده من المفاوضات المتعلقة بالشراكة العابرة للمحيط الهادئ، ولم يتضح بعد كيف سترد واشنطن إذا حاولت بكين إجبار الدول المجاورة على الاختيار بين عقد شراكات أمنية موسعة مع الولايات المتحدة وتعميق الروابط التجارية والاستثمارية مع الصين.
من المتوقع أن يؤدي التركيز الألماني على قوة التجارة إلى مشاكل متعددة. سيبدو افتقار برلين للنفوذ الجيوسياسي أكثر وضوحاً إذا أدت مطالب ألمانيا بتوسيع نطاق التقشف في أوروبا إلى تأجيج الغضب من الألمان وإذا أجبرت العلاقات الوثيقة مع بكين المسؤولين الألمان على تجاهل الانتهاكات الصينية في مجال استغلال سلطة الدولة. قد يتناقص عدد الأصدقاء الخارجيين النافذين لحكومة ميركل.
لكن ستؤثر أكبر التحديات التي يطرحها التباعد الأميركي الألماني على أساس النظام العالمي الليبرالي. منذ انتهاء الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة وأوروبا المبدأ القائل إن الديمقراطية (لا حكم الحزب الواحد) هي العامل الأساسي للاستقرار السياسي، وأن رأسمالية السوق (لا التنمية التي توجهها الدولة) هي العامل الحاسم لضمان ازدهار مستمر. إذا أصبحت الولايات المتحدة أقل استعداداً لنشر تلك القيم في الخارج وإذا تحالفت ألمانيا (محرك أوروبا) مع دائنين آخرين في ديمقراطيات أخرى، من سيتولى نشر تلك المبادئ التي عززت قوة مئات ملايين الناس سياسياً واقتصادياً منذ سقوط جدار برلين؟
*بريمر، مؤلف كتاب “قوة المعرفة السياسية في الاستثمار الاستراتيجي” ( The Power of Political Knowledge for Strategic Investing ) ورئيس “مجموعة أوراسيا”، شركة استشارية لتقييم المخاطر السياسية العالمية. وليونارد، مفكر وخبير في السياسة الخارجية البريطانية ومؤلف كتابَي “أوروبا ستدير القرن الحادي والعشرين” (Why Europe Will Run the 21st Century) و”بماذا تفكر الصين” (What Does China Think).
كتب* Ian Bremmer, Mark Leonard – Washington Post
قسم الترجمة – الجريدة – 24/10/2012