شوؤن عربية

الشرق الأوسط : مفاوضات الوهم

مركز الناطور للدراسات والابحاث

الفكرة التي طرحها الرئيس فرنسوا هولاند، والتي تتحدث عن دعوة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى استئناف المفاوضات المباشرة دون شروط، تبدو للوهلة الأولى وجيهة حقاً، لأنها تنطوي على إرادة منح إعطاء الأطراف المعنية المساحة الكافية لحل صراع قائم بينهما منذ زمن طويل. لكن المشكلة هي أن ميزان القوى المرتبط بهذه المواجهة، يجعل من هذا النهج سلوكاً قائما على الأوهام في حقيقة الأمر.

لم تسفر المفاوضات التي شُرع فيها في مدريد في العام 1991، ثم في أوسلو في العام 1993 عن أي حل حاسم، باستثناء انسحاب الجيش الإسرائيلي من المدن الكبرى، مع تقسيم المساحة المخصصة للفلسطينيين إلى ثلاث مناطق أدى إلى تفتيت الأراضي الفلسطينية، وإلى منح إسرائيل كل السلطات على الأراضي… وفوق ذلك كله، جرى ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل أيضاً، وبصورة غير قانونية. وفيما بعد، ظلت فرص التفاوض الثنائي تتقلص أكثر فأكثر.

وابتداء من العام 2001، أدت العمليات الفلسطينية التي نفذت داخل إسرائيل، والقمع الرهيب الذي مارسه ضد الفلسطينيين أرييل شارون، ولفترة طويلة، إلى تعطيل كل الصلات ما بين المُجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني. وكان ذلك التاريخ هو حقبة انهيار معسكر السلام في إسرائيل، وتعمق التطرف اليميني في المجتمع الإسرائيلي. وفي الانتخابات التشريعية للعام 1992، حصل حزب العمل بقيادة إسحق رابين على 44 مقعدا (من بين 120 مقعدا يضمها الكنيست)، لكنه لم يتبق له أكثر من 19 مقعدا في العام 2006، و13 مقعداً في العام 2009. وفي الاتجاه المقابل، انتقل حزب اليمين المتطرف “إسرائيل بيتنا”، من حيازة 4 مقاعد في العام 1999 إلى 15 مقعدا في العام 2009.

ويظل بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، وأكثر من أي وقت مضى، المعارِضين العنيدين لأي تنازل حقيقي لفائدة الفلسطينيين. وبالنسبة إليهما، تظل مناقشة مسألة اللاجئين أمرا غير وارد بتاتا، وكذلك الشأن بالنسبة لوضع القدس التي يعتبرانها عاصمة موحدة لإسرائيل. وربما يكونان على استعداد للخوض في وضع الضفة الغربية، ولكن بشرطين هما ضم المستوطنات الكبيرة، والاحتفاظ بحق الإشراف على غور الأردن. وسيؤدي هذا النهج، في أحسن الأحوال إلى قيام “دولة” فلسطينية تتكون من ثلاثة “كانتونات”. وهو سيناريو لا يمكن أن يقبل به الفلسطينيون بأي حال من الأحوال.

إن العامل الرئيسي الذي قد يدفع قادة اليمين واليمين المتطرف الإسرائيليين إلى القبول بإنشاء دولة فلسطينية، يرتبط بالآفاق والتوقعات الديموغرافية. وفي هذا الشأن، يمكن القول إن التكافؤ السكاني بين اليهود الإسرائيليين وبين الفلسطينيين (إسرائيل والأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية) قد تحقق تقريبا. ففي العام 2011 كان عدد الإسرائيليين اليهود نحو 5.9 مليون، مقابل 5.7 مليون فلسطيني (4.2 منهم في الضفة الغربية وقطاع غزة + 1.5 في إسرائيل). وفي ظل هذه الظروف، وحتى يتسنى الخروج من المعضلة المعروفة للجميع، أي الحفاظ على هوية الدولة اليهودية والديمقراطية، فإن قيام دولة فلسطينية هو أفضل الحلول.

وعليه، يتم طرح هذه المعضلة بطرق مختلفة، لسببين؛ لقد أصبحت المصالحة بين فتح وحماس تبدو اليوم، وبصورة متزايدة، أمرا غير محتمل. وهذا يعني أن القطيعة على الأرض بين الضفة الغربية وقطاع غزة قد تستقر وتتكرس بصورة دائمة. وترى حكومة نتنياهو أن هذا الوضع يمثل ورقة استراتيجية رئيسية، لأن المعادلة الديموغرافية، مع الحصار المفروض على غزة، ومع هذا الانكسار الإقليمي والسياسي معا، سوف يتغير: يعني أن 1.5 مليون فلسطيني يمكن أن يصبحوا خارج اللعبة.

أما السبب الآخر فهو تصاعد أفكار اليمين المتطرف في المجتمع اليهودي الإسرائيلي. ويبيّن استطلاع للرأي العام نُشر في صحيفة هآرتس في 23 تشرين الأول ، أنه لم يعد في هذا المجتمع مَن يعارض بقوة نظام التمييز الذي كان ضد الفلسطينيين في الأراضي التي يتم ضمُّها إلى إسرائيل. وتعتقد غالبية من المواطنين اليهود الإسرائيليين أنه في هذه الحالة، لا ينبغي منح حق التصويت للفلسطينيين. بل ويذهب البعض إلى حد المطالبة بسحب حق التصويت من فلسطينيي إسرائيل.

وتعليقا على هذه النتائج، كتب زئيف ستيرنهيل يقول:”عند نهاية جُهد أيديولوجي استمر على مدى جيل كامل، نجح اليمين في فرض قِيَمه على كامل المجتمع الإسرائيلي… فإذا قمنا بضم الأراضي، سيصبح العرب من دون وضع قانوني.. ولن يصبحوا عندئذ سوى بقايا إنسانية من دون هُوية ولا حقوق”.

أخيرا، فإن الاستيطان، وهو عمل من جانب واحد، يستمر بوتيرة لا يُصدّقها العقل في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية. والغريب أنّ أحداً لا يحتج أو يندد بذلك في الغرب، اللهم إلا إذا اعتبرنا صدورَ بيانٍ رسمي مقتضب، لا يقرؤه أحد، احتجاجا دوليا كبيرا! والنتيجة: 100.000 مستوطن في الضفة الغربية في العام 1993، وأكثر من 300.000 اليوم، وأكثر من 500.000 إذا أضفنا القدس الشرقية. وحسبنا القول بأن الوضع على الأرض بات لا يطاق بالنسبة للفلسطينيين. إن تجزئة الأراضي الفلسطينية التي بدأت في أوسلو، والتي عُرضت في بداياتها كتجزئة مؤقتة، أضحت في النهاية فخا حقيقيا: لم يبق للفلسطينيين سوى جزء صغير من الأراضي (18 ٪ من المنطقة (أ)، في حين يسيطر الإسرائيليون سيطرة كاملة على المنطقة (ج) (أكثبر من 60 %) وإلى حد كبير على المنطقة (ب) (بنسبة 22 %).

إن المفاوضات هي أمر ضروري فعلاً. لكنها حتى تحظى بفرصة حقيقية لتحقيق سلام عادل ودائم، لا بد من إعادة النظر في النطاق وفي المرجعيات. تنبغي إعادة النظر في النطاق مع العمل على إشراك المجتمع الدولي، وإعادة النظر في المرجعيات مع التأكيد من جديد على أن أي تسوية يجب أن تستند إلى قاعدة احترام القانون الدولي. فمن دون هذا التحول الضروري في المنظور، سوف يظل استعمالُ القوة، التي لا يمكن أن تكون إلا وحشية وتعسفية، هو السيد، كما هو الحال الآن في غزة، حيث تحدُث مرة أخرى اشتباكات دامية تؤدي إلى سقوط العديد من الضحايا. إن القوة من دون حق لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مزيد من المآسي، وإلى جعل أي تسوية للنزاع متعذرة أكثر فأكثر..

يمكن أن يصبح انضمام فلسطين إلى الأمم المتحدة بصفة دولة مراقبة، الخطوةَ الرئيسية الأولى في هذه العودة الحيوية إلى القانون. وهذا الطلب، الذي لا يطعن أحد في مشروعيته، ينبغي أن يحظى بدعم كامل من قبل جميع الدول الحريصة على الدفاع عن المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العلاقات الدولية. بدءًا بفرنسا!

جون بول شانيولو- أستاذ جامعي ومدير معهد البحث والدراسات المتوسطية والشرق أوسطية.

صحيفة (لبيراسيون) – القدس – القدس – 26/11/2012

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى