السيطرة العسكرية والإدارية الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية تقود إلى معضلة سكانية

جولييتا فوينتيس ، فيليب سوربا، لوموند ١٦-٥-٢٠١٨م
لا ريب في أن نقل السفارة الأميركية إلى القدس يخالف القانون الدولي ولا يخدم السلام، ولكن نقل السفارة إقرار بواقع لا ينكر: بعد 120 سنة من مجيء المهاجرين الأوائل (إلى فلسطين) ونشر كتاب ثيودور هرتزل «دولة اليهود» تسيطر إسرائيل على 90 في المئة من أراضي فلسطين القديمة الإقليمية، ولا يشك أحد في أن ضم القدس لا عودة عنه. وهذه السيطرة شبه التامة هي ثمرة حربين: حرب 1948 التي مهدت إلى إنشاء الدولة، وحرب 1967 التي مكنت من السيطرة على الضفة الغربية. والحق يقال إن هذه الانتصارات كانت آثارها أضعف كثيراً من تلك التي نجمت عنها لو لم تدرج في استراتيجية عريضة وقديمة خططت للسيطرة على الأراضي الإقليمية من طريق سياسة متماسكة: إنشاء المزارع الجماعية (كيبوتزات) وتشييد عشرات المدن الجديدة، وبناء الأحياء والمستعمرات التي تضم مئات آلاف المنازل والشقق، وتعبيد الطرق، وحفر الأنفاق، ومد الجسور، وتسوير المساحات، ورفع الجدران.
وهذه الأشغال تبدو للوهلة الأولى تقنية، أي «محايدة»، إلا أنها هي التي أتاحت لإسرائيل ترجمة ميزان القوة العسكرية إلى وقائع ناجزة، ومن العسير جداً العودة عنها. وعلى خلاف الانتصار العسكري، تتمتع السيطرة السكانية بقوة وثبات يكادان يكونان نهائيين. ويدين بضعة الآلاف من المهاجرين اليهود الذين قدموا إلى فلسطين في أعوام 1890، والـ600 ألف من السكان اليهود في ختام الانتداب البريطاني، إلى هذه السياسة ببلوغهم 6.6 مليون اليوم. وفي كل مرة نحي السلاح جانباً وصمت، استأنفت السياسة التنظيمية والتجهيزية العمل العسكري، وتولت آلات الحفر مهمات المصفحات وسلاح الجو: وفي كلتا الحالين الغاية واحدة: السيطرة على أكبر شطر من الأراضي واستقبال مهاجرين جدد واستيعابهم ودمجهم، وإضعاف الحضور العربي وتعويض ثغرات البلد الجغرافية والاستراتيجية.
وإنشاء جدار الفصل وبناء المستعمرات في الأراضي المحتلة قرينتان واضحتان على دوام هذه السياسة وثباتها. وهما ليستا القرينتين الوحيدتين. فداخل حدود 1967 (وقبل السيطرة على الضفة الغربية) شُيدت جدران في المدن المختلطة، مثل اللد، وفصلت الأحياء اليهودية من الأحياء العربية، وهمشت الأحياء العربية. وتعمد بناء المزارع الجماعية والمدن الجديدة حصار قرى الجليل العربية أو بلدات المثلث أو مضارب البدو شمال النقب. وفي الضفة الغربية أتاح مد شبكة طرق جديدة، وقف استعمالها على اليهود، انتقال المستوطين من غير معوقات، وهو حاجة حيوية لا يستقيم الاستيطان إلا بها. وسهر على عرقلة انتقال الفلسطينيين، وأكرههم على السير على طرق ضيقة تعوزها الصيانة وتعترضها الحواجز الكثيرة.
وإلى أدائها دوراً وظيفياً وعملياً (السكن والانتقال والفصل والإكراه) أنشأت أشغال التجهيز هذه مشهداً متجانساً في طول البلاد بين المتوسط وبين نهر الأردن وعرضها. فكتل المباني البيض هي واحدة في أنحاء هذه البلاد، شأن البيوت الصغيرة تحت أسطح القرميد، وعلامات السير. وتتضافر الأبعاد الثلاثة على تقوية الواحد البعدين الآخرين. فتشييد جدار الفصل والمستعمرات والمواقع المحصنة والمتقدمة فرض الاستيطان اليهودي في الضفة (400 ألف مستوطن في 2016). وفتت الأراضي التي يأهلها العرب، وحال دون إنشاء دولة فلسطينية حقيقية. وشبكة الطرق الجديدة تنفي وجود الفلسطينيين، وتلتف حوله، وتساهم في محوه. ووحدة المشهد تسعى في إثبات اندماج الضفة الغربية، المسماة «يهودا والسامرة»، في إسرائيل. والضم الرمزي والمشهدي لازم الضم الفعلي ويسوغ الضم القانوني ويمهد الطريق له.
وحين تؤتي هذه الاستراتيجية أكلها، وتبلغ تمامها، يبدو عجزها عن جبه القضايا الضخمة التي على إسرائيل معالجتها. والقضية الأولى أخلاقية وسياسية، وتتناول أثر 50 عاماً من الاحتلال في المجتمع الإسرائيلي. فالسكان الفلسطينيون مجبرون على الإقامة في 60 بؤرة تضيق بهم، من غير أفق مستقبلي ولا حرية انتقال. وفي غزة، يتكدس مليونا فلسطيني في مساحة تبلغ 400 كلم مربع، ويدينون بالبقاء على قيد الحياة للمساعدات الدولية، وتحت رحمة القمع العسكري الإسرائيلي، ورهن تقنين الدولة العبرية الكهرباء والتموين. وهذه حال تشبه الفصل العنصري في كل الوجوه، ولا تفتقر إلا إلى الاسم.
والتهديد الثاني سكاني. فالأرض الإسرائيلية – الفلسطينية تعاني نمواً سكانياً سريعاً جداً تغذيه الهجرة اليهودية ونسبة الولادات العالية في بعض فئات السكان، في مقدمها العرب المسلمون والمتدينون اليهود. واليوم يقيم 13 مليوناً على أرض تبلغ مساحتها مساحة محافظة فرنسية (البريتاني). وتحصي التوقعات 25 مليوناً في 2015، وهذا النمو لا يحتمل، على الأمد البعيد. فالتمدين واستهلاك الموارد الإسرائيليان يستنزفان المياه والأراضي الزراعية والمساحات الطبيعية.
وتترتب على هذا مشكلة جغرافية وسياسية ضخمة. فالسكان العرب لا يقلون عن نصف جملة السكان: 6.6 مليون عربي- هم فلسطينيو الضفة الغربية وغزة 1948- نظير 6.6 مليون يهودي في إسرائيل والمستوطنات. ويؤدي الإقرار لهؤلاء السكان بالحقوق السياسية التي يتمتع بها السكان اليهود إلى تقويض البرنامج الصهيوني الذي قامت عليه الدولة اليهودية. وإبقاء نصف السكان في وضع المغلوب إلى أجل غير مسمى يفوق طاقة أي نظام سيطرة بالغاً ما بلغ من القوة والحنكة. ونمو السكان اليهود المتدينين مشكلة وجودية ثالثة. ويبلغ الحريديم اليوم 10 في المئة من سكان إسرائيل اليهود. وتلد المرأة من الجماعة 6 أولاد، أي 3 أضعاف متوسك خصوبة المرأة اليهودية العلمانية. ويقدر أن يبلغ الحريديم 25 في المئة من السكان في 2040. ويقيم هؤلاء في مدن وأحياء تكاد تكون تامة التجانس، ويعتزلون المجتمع الإسرائيلي، ويلتزمون أحكام عبادات ومعاملات قريبة من تلك التي يلتزمها الإسلاميون في أمور النساء، ومكانة الرجال، والفصل بين الجنسين في الحياة العامة، وتبديع شطر المجتمع العلماني.
وليس «حل الدولتين» في هذه الحال، إلا تستراً على استمرار عملية السيطرة الإقليمية (على الأراضي). ومنطق الاستراتيجية الاقليمية الإسرائيلية، في مرآة سياسات تنظيم الأراضي وتجهيزها، يقود إلى الدولة الواحدة، وإلى تهميش الفلسطينيين في «معازل» توكل تدبيرها إلى السلطة الفلسطينية. وتبقى مسألة السكان، وحلها على وجهين: إما من طريق هجرة الشباب الفلسطينيين تدريجاً وإما من طريق تهجير السكان العرب إلى بلدان الجوار. والشروط الجغرافية السياسية لمثل هذا النزوح الجديد غير متوافرة اليوم. فما ستكون عليه الحال بعد 15 أو 20 سنة؟
* أستاذة في تانتيرو جيو في مكسيكو،
** أستاذ في المعهد الفرنسي للجغرافيا السياسية في جامعة باريس الثامنة، عن «لوموند» الفرنسية، 16/5/2018، إعداد منال نحاس