السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب
محمود جمال عبد العال ، المركز العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية ٦-٥-٢٠١٨م
تتنوع مؤسسات صنع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية ما بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية كجماعات الضغط والمصالح، وذلك وفق نوعية القضايا المطروحة؛ حيث يبرز دور مستشار الرئيس للأمن القومي، ووزارة الدفاع (البنتاغون)، ووكالة الاستخبارات المركزية في القضايا التي ترتبط بالمعادلة الأمنية للولايات المتحدة، ولكن يبقى الرئيس ووزارة الخارجية هم القيميّيّن على تنفيذ هذه السياسة. ومع ولوج دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي، زاد تدخل العسكريين والمقربين في ظل إعلاءه من قيم الفردانية على حساب المؤسساتية. يرتبط بذلك تمسكه بشعارات حملته الانتخابية الشعبوية بعيدًا عن مقاربات السياسة الخارجية التقليدية(1)؛ حيث اتخذ ومن يعملون في إدارته من شعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” ((make America great againوسيلة لإعادة هندسة العلاقات والتوازنات داخل النظام السياسي الأمريكي خاصة فيما يتصل بملفات السياسة الخارجية، والأمن القومي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل سيتمكن ترامب من مواصلة سلوكه في فرض شخصيته على قيم المؤسسية الأمريكية الراسخة، وهل تؤكد الإقالات المتعددة التي شهدتها دوائر الأمن القومي والشئون الخارجية نجاحه في استعادة هيمنة البيت الأبيض على المؤسسات، وتمكنه من فرض رؤيته الجديدة فيما يتعلق بمستقبل الملفات الإقليمية لا سيما في منطقة الشرق الأوسط التي تشهد حالة من السيولة وعدم الاستقرار منذ أحداث 2011، انطلاقًا مما سبق، سيتعاطى هذا التقرير مع منطق التفسيرات والتأويلات السائل حول جوهر الاختلاف في السياسة الخارجية الأمريكية ما بين الرئيس ترامب، والمؤسسات الأمريكية خاصة فيما يتصل بحدود وشكل العلاقة بينهم.
أولًا- انتخاب ترامب وتحدي ثوابت مؤسسات السياسة الأمريكية
لم تكن الظروف التي جرت فيها انتخابات الرئيس الـ 45 للولايات المتحدة الأمريكية كسابقاتها من انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ حيث مثَّل فوز رجل الأعمال ترامب بثقة أعضاء الحزب الجمهوري خاصة والناخب الأمريكي على وجه العموم تحديًا كبيرًا للمؤسسية الأمريكية، وثوابتها التي اتسمت بالمحافظة لفترة طويلة؛ حيث اعتمد ترامب في حملته الانتخابية سواءً على مستوى الحزب الجمهوري أو مستوى الانتخابات العامة على ما يمكن تسميته “نقد الكل”، فلم يسلم منه أحدًا سواءً الآباء المؤسسين أو حتى السياسات الأمريكية سواءً الداخلية أو الخارجية. يؤكد ترشح ترامب وتحقيقه نجاحًا كبيرًا على المستويين الحزبي، والقطري تحديًا أمام المؤسسية الأمريكية خاصة فيما يتعلق بمسألة تعاطيها معه كوجه جديد لم يألفها أو يعمل في دولابها يومًا؛ حيث لم يكن ترامب يومًا منخرطًا ضمن مؤسساتها، ولكنه كان متفرّغًا لإدارة أعماله الخاصة، وبرز ذلك في العديد من الملفات التي احتك فيها ترامب بمؤسسات صنع القرار الأمريكية كالأزمة الخليجية، التي أبرزت تناقضًا كبيرًا ما بين ترامب والمؤسسية الأمريكية خاصة البنتاغون، ووزارة الخارجية كما سيرد تفصيلًا في هذا التقرير.
اتجهت العديد من التحليلات حول الشأن الأمريكي إلى اعتبار فوز ترمب على هيلاري كلينتون بمثابة إنذار أطلقه الناخب الأمريكي صوب المؤسسات الأمريكية، أو بالأحرى المؤسسة الحزبية التي أفرخت ساسة الولايات المتحدة، ورؤسائها على مر العصور. واعتبر الناخب الأمريكي أن كلينتون تُمثل الوجه الأسوأ لتلك المؤسسية بعكس ترامب الذي برز كثائرٍ عليها؛ حيث خدمت كلينتون كموظفة في البنتاغون، وكسيدة أولى لمدة ثماني سنوات في عهد بيل كلينتون، وصوتت لصالح حرب العراق 2003 عندما كانت عضوًا في الكونغرس، بالإضافة إلى عملها كوزير للخارجية في عهد الرئيس باراك أوباما. عزز خطاب ترامب الشعبوي من الانطباعات السلبية حول خبرة كلينتون داخل المؤسسات المختلفة؛ حيث ارتكز خطابه على أخطاء من سبقوه في البيت الأبيض، فضلًا عن تركيزه على المصالح الأمريكية الداخلية متنصلًا من كافة الالتزامات التي تقرها المؤسسات الأمريكية كالعلاقة مع دول الخليج، والاتحاد الأوربي بالإضافة إلى العلاقات المتوازنة مع الصين وروسيا، وكذلك المبادئ التي تدعيها السياسة الأمريكية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ونشر الحريات السياسية والمدنية بالعالم.
ثانيًا- شعبوية ترامب والعجز التفسيري لحقل العلاقات الدولية
اعتمدت دراسة السياسة الخارجية الأمريكية على أنماط ثابتة من المقاربات التقليدية في حقل العلاقات الدولية، فرغم تشعب العلاقات داخل النظام السياسي الأمريكي، لكنه يتميز بمبدأ التوازن في السلطات (Check and balance)، الذي ينعكس إيجابًا على مسألة فهم السياسة الخارجية الأمريكية في إطار النظريات التقليدية كالمقاربة المؤسسية على سبيل المثال، التي تعتبر السياسة الأمريكية محصلة لمجموعة من التفاعلات بين مؤسسات النظام السياسي. ولكن مع فوز ترامب برئاسة البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني 2016(2)، لم يعد مؤشر الثبات واضحًا على قراراته، ومن ثم باتت المقاربات التقليدية التي تفسر سلوك السياسة الخارجية الأمريكية عاجزة أمام المقاربة الشعبوية التي اعتمد عليها ترامب(3)، وغلب على سلوكه البُعد الفردي في التحليل (Individual level analysis) على حساب البُعد المؤسسي.
على صعيدٍ آخر، انتقدت بعض التحليلات هذا التفسير في التعاطي مع السياسة الأمريكية مُستندة على ما يُسمى بـ “مبدأ الترسخ المؤسسي” (Institutional Consolidation)، لكن على نقيض ذلك، أثبتت اتجاهات ترامب في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية جانبًا كبيرًا من صدقيّة التفسير الشعبوي، ولعل آخرها اعترافه التاريخي بالقدس كعاصمة للكيان الصهيوني(4) رغم أن القانون الذي استند عليه قراره حول القدس يمتد إلى أكثر من 22 عامًا؛ حيث دأب رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين على تأجيل تنفيذه بناءً على توصيات تتعلق بالأمن القومي للولايات المتحدة(5).
ثالثًا- المؤسسات الأمريكية وترامب: صراع النفوذ
أبرزت الملفات الدولية صراعًا مستترًا ما بين ترامب والمؤسسات الامريكية خاصة وزارتي الدفاع والخارجية ومستشاريه للأمن القومي. بدا ذلك واضحًا في العديد من الملفات الدولية التي خالف فيها ترامب توجهات المؤسسية الأمريكية مثل الأزمة الخليجية ومقاطعة قطر، ومحاولاته لإعادة فتح التفاوض في الاتفاق النووي الإيراني. أدى ذلك كله إلى فوضى عارمة، وسيل من التصريحات المتناقضة ما بين الرئيس وفريق عمله؛ وهو ما كان محل انتقاد كبير داخل أروقة الصحافة والإعلام الأمريكي. انتهى ذلك الجدل بالإقالة المهينة التي تعرض لها وزير الخارجية ريكس تيلرسون عبر تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر؛ حيث أرجع ترامب الإقالة لخلافات في وجهات النظر. وتم تعيين مايك بومبيو، مدير الاستخبارات المركزية، الذي بات أمامه تحديًا يتعلق باستعادة ثقة الرئيس ترامب والحلفاء الدوليين في وزارة الخارجية، التي شهدت تهميشًا وتجاهلًا متعمدًا من الرئيس ترامب طوال فترة تيلرسون، الذي أشار بنفسه ولكن بصيغ مبطنة عن اختلاف الكثير من مواقفه ورؤيته عن البيت الأبيض. لذا يعتبر ترامب إقالة تيلرسون تمثل مرحلة من انتهاء خطاب الازدواجية ما بين البيت الأبيض ووزارة الخارجية.
في إطار شعار حملته “أمريكا عظيمة مجددًا”، سعى ترامب لتجاوز المؤسسية التقليدية في إدارة العلاقات الخارجية، ونجح في ملفات واخفق في أخرى، ولكن من المؤكد ان الإقالات الأخيرة في البيت الأبيض تؤكد تفوق ترامب على المؤسسية التقليدية التي ستجد نفسها مجبرة للتماشي مع الخط الذي سيحدده الرئيس للعمل بما يضمن الثقة المتبادلة بين الطرفين. وسنحاول إيجاز الملفات التي شهدت تصارع بين ترامب والمؤسسات الامريكية فيما يلي:
1- الأزمة الخليجية
تعتبر إقالة تيلرسون خسارة كبيرة للقطريين خاصة ان الرجل كان حليفًا قويًا لهم منذ المقاطعة التي أعلنتها دول التحالف الرباعي العربي الداعية لمكافحة الإرهاب في الخامس من يونيو عام 2017. وأبرزت مقاطعة الرباعي العربي (مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين) للدوحة تناقضًا كبيرًا ما بين رؤية الرئيس ترامب للأزمة، والمؤسسات الأمريكية كالبنتاجون ووزارة الخارجية.
على صعيد مساعي حل الأزمة، زار تيلرسون السعودية والكويت وتركيا وقطر بعد شهر واحد من الأزمة، واعتبر في زيارته للعاصمة القطرية الدوحة في يوليو 2017، الموقف القطري من الأزمة منطقي داعيًا الرباعي العربي للسعي للوصول إلى نقطة للحل، وكان قد أعلن عرضه للوساطة لحل الأزمة في وقت سابق، وصرح قائلًا: ” أعتقد أن قطر كانت واضحة في مواقفها، وأعتقد أنها كانت منطقية جدا”(6).
كان هناك توافقًا كبيرًا بين وزيري الخارجية (تيلرسون) والدفاع (جيمس مايتس) حول انتقاد موقف الرباعي العربي الداعي لمكافحة الإرهاب، بل وتمكن الإثنين من إقامة الحوار الاستراتيجي الأول بين واشنطن والدوحة، وبالتالي استطاعوا إقناع الرئيس ترامب من تخفيف حدة خطابه تجاه الأزمة، والذي انتهى بلقاء جمعه مع أمير قطر في نيويورك سبتمبر عام 2017، وتبنيه دعوة قادة دول الخليج لقمة كامب ديفيد في مايو 2018. واعتبرت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أن أزمة حصار قطر قد تؤثر سلبًا على عملياتها في الحرب على الإرهاب خاصة أن قطر تستضيف قاعدة العُديد العسكرية التي تحوي زهاء 11 ألفًا من قوات التحالف العالمي لمكافحة الإرهاب(7). من ناحيةٍ أخرى، أغفل ترامب في تصريحاته حول تمويل قطر للإرهاب التقييم الإيجابي لدولة قطر في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول مكافحة الإرهاب لعام 2016، الذي اعتبر ها شريكًا استراتيجيا في مكافحة الإرهاب(8). على النقيض من موقف وزارتي الخارجية والدفاع، اعتبر ترامب في أحد تغريداته على تويتر أن دولة قطر الداعم الرئيس للإرهاب في المنطقة؛ حيث قال: “دولة قطر..للأسف.. لها تاريخ من تمويل الإرهاب على مستوى عالٍ للغاية”(9).
تتجه كثير من التحليلات لاعتبار أن إقالة تيلرسون وتعيين مدير المخابرات المركزية بومبيو لن يؤثر على مسارات الأزمة الخليجية رغم تأكيدهم المسبق بالعلاقة الوطيدة التي تربط بومبيو بالمملكة العربية السعودية، التي يعتبرها بومبيو استراتيجية خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب ومقاومة الأيديولوجية المتطرفة. ورغم ذلك فإن موقف بومبيو من الأزمة الخليجية ما زال غير واضح. ورغم تمكن ترامب من إقالة تيلرسون والإبقاء على مايتس القريب من تيلرسون إلا أن مايتس سيحاول تغيير مواقفه السابقة بما يتناسب مع المرحلة الجديدة.
من ناحية أخرى، حملت إقالة مستشار الرئيس للأمن القومي هربرت ماكماستر وتعيين المتشدد جون بولتون مفاجأة كبرى خاصة أن بولتون يؤمن بمبدأ القوة في إدارة ملفات العلاقات الدولية. يرى بولتون أن دولة قطر من أكثر الدول الداعمة للإرهاب والأيديولوجية المتطرفة، ويعتبر أن سياساتها في المنطقة أدت إلى الانشغال عن الخطر الإيراني. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي قام بها ماكماستر بالتعاون مع وزير الخارجية السابق تيلرسون ووزير الدفاع مايتس لحل الأزمة الخليجية للتفرغ لـ “الخطر الإيراني”، لكنه لم يتردد في التعبير عن ضيقه من قطر لدعمها الأيديولوجية الإسلامية المتشددة.
أبرزت الأزمة الخليجية الأخيرة تناقضًا كبيرًا بين وزارة الخارجية(10) والبنتاغون من ناحية، وترامب من ناحيةٍ أخرى، وقد كان ذلك محل انتقاد كبير داخل أروقة الصحافة والإعلام الأمريكي. في الوقت الذي يدعو فيه وزير الخارجية ريكس تليرسون التحالف الرباعي (مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين) إلى تخفيف الحصار عن قطر، فضلًا عن عرضه للوساطة لحل النزاع، يعتبر ترامب دولة قطر الداعم الرئيس للإرهاب في المنطقة؛ حيث قال “دولة قطر..للأسف.. لها تاريخ من تمويل الإرهاب على مستوى عالٍ للغاية”.
2- قرار حظر سفر بعض الجنسيات للولايات المتحدة
أعلى ترامب أثناء حملته الانتخابية من عنصريته تجاه المسلمين، وربطهم بالأيديولوجية المتطرفة، وذلك لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي للولايات المتحدة (وفق أطروحة ترامب للأمن القومي). وفي هذا الإطار، أعلن قرارًا تنفيذيًا يقضي بحظر دخول 8 جنسيات من الدول الإسلامية للولايات المتحدة الأمريكية مما أحدث إرباكًا في حركة المطارات عالميًا(11). استوجب ذلك تدخلًا من أحد القضاة الفيدراليين لإيقاف هذا القرار، فيما عاد ترامب للمسار المؤسسي ممثلًا في المحكمة العليا بعد إدخال تعديلات جوهرية على القرار. يُضعِف ذلك من فردانية اتخاذ القرار التي يتبناها ترامب، ويُعلي من قيمة المؤسسية ومبدأ توازن السلطات الذي أقرَّه الدستور الأمريكي.
لم يتردد ترامب من إبراز الخلاف بينه وبين تيلرسون فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني حيث قال: “أنا أرى الصفقة مع إيران سيئة، أما تيلرسون فكان يعتقد أنها جيدة. انا أردت إلغاء الاتفاق أو تعديله، وهو كان يفكر بطريقة مختلفة”. واستطاع تيلرسون في فترة ولايته للخارجية الحفاظ –ولو مؤقتًا- على الاتفاق؛ حيث اعتبر أن الخروج من الاتفاق بطريقة أحادية سيعزل الولايات المتحدة عن حلفائها الأوربيين. بالتالي تعول إيران كثيرًا على الحلفاء الدوليين لا سيما الأوربيين لكبح جماح ترامب وإدارته الساعين لإنهاء الاتفاق.
يعارض وزير الخارجية الجديد بومبيو الاتفاق النووي منذ أن كان عضوًا في الكونجرس، وانتقد في ذلك إدارة اوباما. وأشار ترامب أن اختياره لبومبيو يعود للتوافق فيما بينهم بشأن التعامل مع الملف النووي الإيراني؛ حيث تصر إدارة ترامب على ضرورة التخلص من كل بنود الاتفاق التي قد تسمح لإيران باستمرار جهودها لامتلاك السلاح النووي.
جدير بالذكر أن الشركاء الأوربيين يعارضون طرح ترامب حول ضرورة التوصل إلى اتفاق تكميلي يشدد الضغوط على طهران، وهدد ترامب شركائه الاوربيين في حال عدم استجابتهم لطرحه سيقوم بالانسحاب الأحادي من الاتفاق، بما يعني فرض عقوبات على الشركات الأوربية التي ستتعامل مع طهران. هدف تيلرسون من محاولاته لاستمرار ترامب في الاتفاق إلى تجنب الدخول في خلافات مع الشركاء الاوربيين لذا استطاع الحفاظ على الاتفاق، واكتفاءه بفرض عقوبات على عدد من الشخصيات المنشغلة في البرنامج، وهو ما يطرح تساؤلات تتعلق بقدرة الاتفاق على الصمود في ظل تخلي ترامب وإدارته عنه خاصة مع الأخذ في الاعتبار تصريحات بومبيو تجاه إيران باعتبار أنها تريد أن تصبح قوة مهيمنة على المنطقة، وهو ما يهدد الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.
3- الاتفاق النووي الإيراني
لم يبرز الاتفاق النووي الإيراني تناقضًا كبيرًا بين ترامب ومؤسساته باستثناء تيلرسون؛ حيث اتفق الجميع على ضرورة المواجهة مع إيران، ولكنهم اختلفوا في توقيت هذه المواجهة، واستراتيجياتها، وأهدافها. في هذا الإطار، لم يتردد ترامب من إبراز الخلاف بينه وبين تيلرسون فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني حيث قال: “أنا أرى الصفقة مع إيران سيئة، اما تيلرسون فكان يعتقد أنها جيدة. انا أردت إلغاء الاتفاق أو تعديله، وهو كان يفكر بطريقة مختلفة”(12). واستطاع تيلرسون في فترة ولايته للخارجية الحفاظ –ولو مؤقتًا- على الاتفاق؛ حيث اعتبر أن الخروج من الاتفاق بطريقة أحادية سيعزل الولايات المتحدة عن حلفائها الأوربيين. بالتالي تعول إيران كثيرًا على الحلفاء الدوليين لا سيما الأوربيين لكبح جماح ترامب وإدارته الساعين لإنهاء الاتفاق.
يعارض وزير الخارجية الجديد بومبيو الاتفاق النووي منذ أن كان عضوًا في الكونجرس، وانتقد في ذلك إدارة اوباما. وأشار ترامب أن اختياره لبومبيو يعود للتوافق فيما بينهم بشأن التعامل مع الملف النووي الإيراني؛ حيث تصر إدارة ترامب على ضرورة التخلص من كل بنود الاتفاق التي قد تسمح لإيران باستمرار جهودها لامتلاك السلاح النووي(13).
جدير بالذكر أن الشركاء الأوربيين يعارضون طرح ترامب حول ضرورة التوصل إلى اتفاق تكميلي يشدد الضغوط على طهران، وهدد ترامب شركائه الاوربيين في حال عدم استجابتهم لطرحه سيقوم بالانسحاب الأحادي من الاتفاق، بما يعني فرض عقوبات على الشركات الأوربية التي ستتعامل مع طهران(14). هدف تيلرسون من محاولاته لاستمرار ترامب في الاتفاق إلى تجنب الدخول في خلافات مع الشركاء الاوربيين لذا استطاع الحفاظ على الاتفاق، واكتفاءه بفرض عقوبات على عدد من الشخصيات المنشغلة في البرنامج، وهو ما يطرح تساؤلات تتعلق بقدرة الاتفاق على الصمود في ظل تخلي ترامب وإدارته عنه خاصة مع الأخذ في الاعتبار تصريحات بومبيو تجاه إيران باعتبار أنها تريد أن تصبح قوة مهيمنة على المنطقة، وهو ما يهدد الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين.
يتفق مستشاري الأمن القومي ماكماستر وبولتون مع الرئيس ترامب في حالة العداء الشديد لإيران؛ حيث يرى مستشار الأمن القومي السابق ماكماستر أن التعامل مع إيران يجب أن يكون شمولي لا يقتصر فقط على البرنامج النووي، ولكن مع كل سلوك إيران المزعزع لاستقرار المنطقة(15). أما بولتون(16) فيحمل عداء قديم لإيران؛ حيث اقترح سابقًا خطة للحوار السري مع المملكة العربية السعودية والشركاء الأوربيين للتنصل من التزامات الاتفاق. لم يتوقف بولتون عند مسألة الاتفاق النووي ولكن يدعم أي محاولة لإنهاء نظام ولاية الفقيه؛ حيث وعد أثناء حضوره أحد مؤتمرات المعارضة الإيرانية بانتهاء نظام الملالي بحلول عام 2019. لذا اعتبرت الحكومة الإيرانية تعيينه بمثابة تحدي واستهداف مباشر لطهران خاصة عند الأخذ في الحساب رؤيته لمفهوم القوة باعتباره من صمامات الأمن القومي الأمريكي. لذا لم يكن غريبًا أن يدعو الرئيس ترامب للانسحاب الفوري من الاتفاق أو تعديله، بل وصل إلى مطالبته بضرورة ضرب النظام الإيراني، وهو ما ظهر في كتابه “أوقفوا إيران، اقصفوا إيران”.
خاتمة
يتضح مما سبق أنه ورغم ترسخ المؤسسية الأمريكية عبر القرون، إلا أنها تواجه تحديًا حقيقيًا مع إدارة الرئيس ترامب، الذي لا يعبأ بها كثيرًا، بل يسعى لتهميش دورها كحال وزارة الخارجية لصالح المقربين منه. انعكس غياب التناغم بين المؤسسات والرئيس على ظهور تناقضات كبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية خاصة في الأزمة الخليجية الأخيرة. من ناحية أخرى، ما شهدته وزارة الخارجية من تهميش طوال الفترة الماضية انعكس سلبًا على ثقة الحكومات والشركاء في التعامل معها كمؤسسة فاعلة لدى صانع القرار في البيت الأبيض، وهذا ما سيحاول وزير الخارجية الجديد بومبيو التغلب عليه بالإضافة إلى جهوده لاستعادة ثقة الرئيس في هيكل الإدارة.