#أقلام وأراء

السفير ملحم مسعود يكتب – الصراع على السودان  (3)

السفير ملحم مسعود – اليونان 20.11.2021

ماذا اكتب اليوم ؟ على سودان يتمزق ويتفكك … أو ماذا … ؟ ما بين  إنفصال الجنوب الذي تمخض عن حكم عسكري لبلد كبير متعدد الإثنيات والديانات … أو عن الجرح الدامي في دارفور  أويقظة أبناء الشرق مطالبين بحصصهم في الحكم  أو على السودان العربي  الذي عرفناه  … وما يوصف بما يجري فيه اليوم …. سوى أن نقول : 

السودان  …  على صفيح ساخن

من كان يصدق أن امريكا  بقدها وقديدها  تدفع  إسرائيل الآن  وتحثها على العمل لإقامة حكومة مدنية  في السودان ( بمعنى … ما  لها من دلالة  على السودان  ومؤسساته ) بهدف انهاء الانقلاب العسكري في البلاد .   حسب ما جاء في  وسائل إعلام عبرية قبل أيام :

 أن “الولايات المتحدة ترى وجود تأثير إسرائيلي على ما يحدث في السودان  حيث زار السودان مسؤولون من جهاز الموساد قبل أسابيع، وأجريت الزيارة بعد فترة قصيرة من الانقلاب، وأجرى المسؤولون الإسرائيليون محادثات في الخرطوم مع قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان”، ( لقدرتها  على التدخل في السياسات الداخلية في السودان  ) بهدف إعادة الأيام السابقة التي أديرت فيها البلاد من خلال حكومة مشتركة مع القيادة المدنية “

لا أريد أن اصدٍق (  فبركات ) وأساليب  الإعلام الإسرائيلي … لكن من هو الذي إختطف الدولة السودانية وسياساتها  وراح بعيدا … كما تحدّثت صحف عالمية عديدة أيضا عن وجود غطاء إقليمي للانقلاب …  أما تأكيد صحيفة «واشنطن بوست» إلى أن الانقلاب يمثل تحديا مباشرا للولايات المتحدة الأمريكية، فيؤشر إلى ظلال صراعات النفوذ بين الصين وروسيا، من جهة، وأمريكا، من جهة أخرى، على السودان. 

هل كان إنقلابا ؟  فالبرهان كان عملياً ممسكاً بزمام السلطة، وما زال كذلك، أما الذين خرجوا فهم المكون المدني في المجلس السيادي، الذين كانوا ينتظرون انتقال السلطة لجانبهم، ولذلك فوصف «الاختطاف» يبدو مناسباً، والطبيعي أن الطرف الذي يتنطع للتحالف مع الترتيبات العسكرية، بعد أي ثورة سيلقى هذه النتيجة …

 البرهان راح بعيدا …

 وإلتقى نتنياهو في غفلة من القوم  في  ” طبخة ” متعددة  ( النكهات … يُقال عن دولة او دول عربية  مهَدت وشجعت البرهان على ذلك  )  فاجأت السودان واهله اكثر من غيره من العرب …  اتسمت ردود أفعال السلطة الانتقالية بالسودان بالارتباك والتخبط حيال لقاء  البرهان رئيس المجلس السيادي مع نتنياهو …  وخيّم التوتر بين قيادات الجيش والجماعات المدنية التي تتقاسم السلطة بعد الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير العام الماضي .
وفي الوقت الذي أكد فيه البرهان أنه أخطر عبدالله حمدوك رئيس الحكومة الانتقالية باللقاء الذي جمعه بنتنياهو قبل يومين من موعده، جدد مجلس الوزراء السوداني تأكيده على عدم عمله المسبق باللقاء  ( وحسب التفاهمات المعقودة  تكون  السياسة الخارجية من اختصاص الجهاز التنفيذي للدولة )

لكن في السياسة ايضا ينطبق هذا المثل العربي : 

عش رجباً… ترى عجبا

وكان قد طلب  صباح اليوم التالي  أحد الصحفيين الأجانب  من وزيرة الخارجية السودانية التعليق على الخبر قالت : سمعت الخبر من الإذاعات …

وحالها كان كما قال طرفة بن العبد في معلقته الشهيرة :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا .. ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ومن الواضح ان الضبابية كانت لفًت موقف رئيس الوزراء … لحسابات وأسباب مختلفة … ودفع ثمها لاحقا كما قالوا : توقف المسكين لا ناله … لا عنب الشام ولا بلح اليمن.

 ويمكن وصف مبادرة البرهان بلقاء بنيامين نتنياهو، ثم بالزيارات السرية الأمنية المتكررة بين تل أبيب والخرطوم.  للاحتماء بالنفوذ الإسرائيلي، ضمن  خطة مدروسة تم التعاون على تنفيذها بين أطراف وقوى دولية وغطاء عربي ـ إسرائيلي ( كما يقال … )  لكنّ هذا كلّه لا يجعل النظام محصنا، فاستمرار ضغوط القوى السياسية والشعبية عليه وما زالت مستمرة و تتصاعد … والتي ترافقت مع ضغوط دوليّة وازنة، يمكن أن تغيّر موازين القوى على الأرض وتدفع العسكر لإعادة حساباتهم مجددا.

أما الشئ المضحك المبكي  على حالنا وسياساتنا العربية  عندما   أكد البرهان أن لقاءه مع نتنياهو “سيسهم في اندماج السودان في المجتمع الدولي … وايضا  قال كما يبدو وكأنه  اراد  إضفاء مقولة باهتة لم تعد لها مصداقية لا منه ولا من أمثاله من الزعامات العربية   لذر الرماد في العيون :

 “السودان يعمل من أجل مصالحه، دون التعارض مع عدالة القضية الفلسطينية” …  مضيفا “سنوقف التفاهمات مع إسرائيل إذا لم تؤت ثمارها .

اكتب هذه السطور عن ”  مٌوَال ”  ومقولات العسكر  لكن ما يجري على الارض وسقوط المزيد من المدنيين في الأيام الاخيرة وتشبث العسكر  بالسلطة امام رفض شعبي عارم للإنقلاب  لا يبشر بالخير ابدا … لذلك لا بد مما ليس منه بد … 

    بات من الصعب على كل من أراد الكتابة أو التحليل على ما يجري اليوم في السودان , في ظل الأحداث المتلاحقة رغم كل المحاولات والإتصالات واللقاءات التي جرت وتجريها شخصيات دولية مع زعيم الإنقلاب وأطراف اخرى ليستمر البرهان في تصريحاته من نوع : أن المكون العسكري بالسودان غير راغب في الاستمرار بالسلطة، مؤكدا أنه ملتزم بالوثيقة الدستورية وبالحوار مع القوى السياسية كافة … 

لم ينعم هذا البلد بالحكم المدني سوى سنوات قليلة . وما حدث هذه المرة كان بمثابة سطو على السلطة بإمتياز إحترفها العسكر على مدار العقود السابقة … 

بعد قيام ثورة الـ 19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018، ثمّ إسقاط حُكم البشير في أبريل (نيسان) 2019، والتحوَّلات التي صاحبت مسار الثورة التي أبهرت العالم في سِلميتها وصولاً إلى توقيع المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على ميثاق الإعلان الدستوري بعد مفاوضات طويلة بين الطرفين،  بما عرف  اتفاق الـ17 من أغسطس (آب) بين العسكر والمدنيين حول الوثيقة الدستورية والإعلان السياسي وقيام الحكومة (العسكر والمنيين ) . وكان البرهان  البرهان  رئيس مجلس السيادة السوداني الانتقالي .

( للتذكير  كانت هذه الوثيقة الدستورية  قد دشنت دخول السودان بعد ثلاثة عقود من سلطة العسكر  إلى حقبة جديدة كان من المفترض بها أن تحقق عملية الانتقال إلى الحكم المدني وانقضاء حقبة العسكر …  الرئيس السابق، عمر البشير، الذي أحكم قبضته على البلاد طوال أكثر من ثلاثة عقود )

وكانت هناك   ( وصفة  )  حاضرة وجديدة من  ” ادبيات العسكر ” هذه المرة في السودان  ليتداول العسكر على الحكم  والسلطة أولا  … ( إنتهت في  هذه الأيام ) مع مشاركة مدنية تتولى السلطة في المرحلة الثانية … لكن ” البرهان ” والزمرة العسكرية إنقلبوا ( كعادة العسكر ) مبررين الإنقلاب بعدم قدرة المدنيين على الحكم … وخوفا من : حرب اهلية !! سبحان الله العظيم … ولله في خلقه شؤون . وربما الوصف الدقيق لما يحدث :

خرج العسكر من الباب وعادوا من الشباك للحكم …

ما أكثر ما كُتب عن السودان في هذه الأيام … عن الحكاية السودانية وما حل بهذا البلد العربي العزيزعلينا  ( سلة الغذاء العربي ) لا يمكن تلخيصها ببضع مقالات ,  إنها حكاية قدرية إنها  الصراع بين العسكر والقوى المدنية في البلاد منذ الإستقلال حتى يومنا هذا . عندما ثار الشعب  مطالبا إسقاط النظام بمعنى إطاحة الحكم العسكري , وهي ليست المرة الأولى … منذ إعلان إستقلال السودان في الاول من يناير عام 1956  .. لتبقى  منظومة الدولة المدنية والمواطنة السوية  في السودان في مهب الريح  … كماهو الحال في أماكن أخرى من عالمنا العربي …

لي صديق سوداني في اليونان مثقف ومُطلٍع ومتابع للتطورات التي تعصف في بلده … أتصل به و أتشاور معه دائما ويحيطني بالجديد بما يجري في السودان … قال لي قبل أيام  وهو في حالة إحباط ويأس : لا نريد ان تكون السودان ليبيا جديدة … ولا سوريا وما حل بها … ولا ما آلت عليه اليمن السعيد … 

قلت له إنه إنها مؤشرات  الشرق الأوسط الجديد  … يا زول 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى