الربيع العربي والشتاء الغربي
إسحق ديوان* بيروت – 6/4/2017
لا يملك المراقب إلا أن ينتبه إلى أوجه التشابه العديدة اللافتة للنظر بين “الربيع العربي” الذي بدأ في العام 2010، وبين الاستفتاء على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وانبعاث اليمين المتطرف في مختلف أنحاء أوروبا. ففي كل من هذه الحالات، سقط نظام قديم، وكانت الأحزاب التقدمية أضعف من أن تتمكن من مقاومة نشوء أشكال من الحكم تتسم بالاستبداد وكراهية الأجانب.
كانت حالة السخط إزاء الوضع الراهن التي ارتكزت عليها انتفاضات الربيع العربي في الأعوام 2010-2011 راجعة إلى أسباب عديدة، واتخذت المعارضة أشكالاً تقدمية ومحافِظة. فكان أبناء الطبقة المتوسطة ناقمون بسبب ضياع كرامتهم على يد نخبة غير خاضعة للمساءلة. واستنكر الشباب المستقبل الذي بدا قاتماً بشكل خاص بالمقارنة بتوقعات جيل آبائهم. ودأب الإسلاميون على إذكاء نار المعارضة لتضييع القيم الأخلاقية في المجتمع.
كل هذه مواضيع متكررة في المجادلات الدائرة في مختلف أنحاء الغرب، مع تنامي أعداد الساخطين من السكان من ذوي البشرة البيضاء، والعمال المشردين، والشباب المحبطين. وبمرور الوقت، ومع مزاحمة الليبرالية الاقتصادية لمبادئ المساواة والتضامن القائمة منذ فترة طويلة، نشأت تفاوتات شاسعة في الثروة، الأمر الذي أفسد العديد من سياسات الدول الغربية.
من ناحية أخرى، خلفت العولمة والإبداعات التكنولوجية تأثيرات سلبية عميقة على بعض الطوائف الاجتماعية، وفشلت السياسات العامة في التخفيف من الضرر. والآن، هناك حاجة ماسة إلى إدخال تعديلات بعيدة المدى على السياسات، وخاصة في ضوء التهديد المهلك الذي يفرضه تغير المناخ على كوكب الأرض بأسره.
ولكن، ما هي التعديلات الواجبة، ومن سيتولى تنفيذها؟ الواقع أن الثورات الشعبية -في الشوارع وصناديق الاقتراع- فشلت حتى الآن في توفير إطار حكم بديل يقدم حلولاً معقولة جديرة بالثقة للمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي اجتاحت المجتمعات الغربية والشرق أوسطية.
في العالم العربي، أدى انفجار الغضب الشعبي إلى إزاحة الأنظمة الراسخة. ولكن الحكام المستبدين القدامى عملوا جاهدين على منع ظهور المعارضة المعقولة على الإطلاق. وكانت ثورات العامين 2010-2011 بلا قيادة، فعجزت بالتالي عن ملء الفراغ السياسي الناتج. وبدلاً من ذلك، سارعت الجيوش، والقبائل، والمجموعات الطائفية، والأحزاب الدينية، إلى تصدر المشهد.
الآن تشهد مصر استعادة الاستبداد. واجتاحت الحرب الأهلية اليمن وسورية وليبيا. وتفتت لبنان والعراق. كما تعاني الدول المنتجة للنفط، التي حاولت إخماد النيران الإقليمية بسكب الأموال عليها، من عجز مالي هائل. كما تتجه تركيا أيضاً نحو نموذج حكم الرجل القوي؛ فيما تمكن الضعف من القوى التقدمية في إيران. وما تزال تونس فقط تسلك مساراً انتقالياً مشوشاً نحو الديمقراطية؛ ولكن، حتى هناك عجزت الإصلاحات الاقتصادية عن التصدي للتحديات التي تواجه البلاد.
الآن، يسعى الحكام المستبدون الجدد إلى توطيد سلطانهم بالاستعانة بتكتيكات “فَرِّق تَسُد” التي أدت إلى استقطاب المواطنين على أساس خطوط طائفية وأخرى ترتبط
بالهوية. ونظراً لانتشار مشاعر انعدام الأمان الشخصي، اختار العديد من المواطنين الطائفة قبل المجتمع، والأمن قبل الحقوق المدنية.
في الغرب اليوم، يحاكي الساسة الشعبويون الذين لا يحملون حقاً أي خطط لبناء مستقبل أفضل نظراءهم من الحكام المستبدين في الشرق الأوسط. فقد فازوا بالسلطة من خلال إذكاء نار الخوف من “الآخر” -اللاجئين، أو المسلمين، أو الإرهابيين الأجانب- والوعد بترسيخ الأمن بالاستعانة بالقوة. وبمجرد صعودهم إلى السلطة شرعوا في توطيد حكمهم وفقاً لذلك. وربما تكون المؤسسات الديمقراطية قادرة على الصمود في مواجهة الحكم الشعبوي؛ ولكن، كما أصبحنا نشهد الآن في الولايات المتحدة بالفعل، فإن هذه المؤسسات ستخضع قريباً للاختبار، وسوف يتمكن الضعف منها بلا أدنى شك قبل أن يستقر كل شيء.
وينطبق الأمر نفسه على العلاقات الدولية. الآن يُعاد رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بفِعل الانقسام الشيعي السُنّي العابر للحدود الوطنية، والذي يعمل على تغذيته خصوم مثل إيران والدول السنية، وبفِعل التدخل الخارجي في الصراعات الإقليمية. وعلى نحو مماثل، يعرقل الساسة الشعبويون في الغرب مصالح بلدانهم عندما يتعلق الأمر بالصين وروسيا والهند ودول شمال أوروبا، ويتحدون النظام الدولي السائد منذ العام 1945، من دون تقديم أي شيء يشبه بديلاً قابلاً للتطبيق ولو من بعيد.
ثم هناك فشل القوى السياسية التقدمية في توفير مثل هذا البديل. فقد تحول السرد السائد بالفعل في مختلف أنحاء العالم. ولم يعد أغلب الناس يؤمنون بمستقبل يغلب عليه التقدم: الدينامية الاقتصادية، والتكامل العالمي، والديمقراطية الاجتماعية.
وكانت الغَلَبة لنظرة أكثر تشاؤماً، والتي ترى مستقبلاً فاسداً بفِعل العولمة، والأسواق الجامحة، والإبداعات التكنولوجية الموفرة للعمالة، والانحباس الحراري الكوكبي.
سوف تعتمد استعادة التفاؤل في كل من الشرق الأوسط والغرب تعتمد على قدرة المثقفين، والنقابات، والأحزاب التقدمية، ومنظمات المجتمع المدني، على بناء قاعدة سياسية مشتركة وتقديم رؤية مشتركة للمستقبل. وسوف يتطلب هذا إيجاد حلول جديدة للمشاكل الناشئة، فضلاً عن ابتكار سبل معقولة لإحداث التغيير بطريقة ديمقراطية.
على أقل تقدير، كشف هذا العصر الجديد من المقاومة والثورة عن العديد من المشاكل التي كانت ذات يوم متروكة لتستفحل في الظلام. ونتيجة لذلك، صِرنا نعلم الآن أن السياسات الاقتصادية يجب أن توجه نحو الشمول؛ وانتبهنا إلى ضرورة الحد من الاستهلاك المادي وحتمية حماية الديمقراطية من التأثير الخبيث الناجم عن الثروات المركزة والمصالح الراسخة.
إن التحديات الماثلة تظل هائلة بكل تأكيد؛ لكننا إذا تمكنا من تحديدها بوضوح، فسوف يكون بوسعنا أن نبدأ بالتحرك في الاتجاه الصحيح. وربما يعمل الإنجاز في مكان ما كنموذج في كل مكان آخر. وإذا شهدت شوارع القاهرة في مرة قادمة مسيرات سلمية يشارك فيها الملايين من المواطنين المطالبين بالاستماع إلى أصواتهم، فقد لا تكون الشرارة تضحية شخص بنفسه في سيدي بوزيد، بل أعمال شغب في إسطنبول، أو عزل الرئيس الأميركي، أو انتصارات انتخابية تحققها أحزاب تقدمية في أوروبا.
*باحث يعمل مع مبادرة مركز بيلفر للشرق الأوسط في جامعة هارفارد.
*خاص بـ ‘‘الغد‘‘، بالتعاون مع “بروجيكت سنديكيت”.