الحبيب الأسود: إيطاليا وفرنسا ومعركة النفوذ في ليبيا
كان وضع فرنسا يدها على الأراضي التونسية ينعت لدى الإيطاليين بصفعة تونس، وبحبة الدواء المرة التي لم يستوعبوا مذاقها.
بعد الحرب الإيطالية التركية 1911 – 1912، كانت القوات الإيطالية تزحف نحو طرابلس الغرب وبرقة وفزان بهدف مواجهة النفوذ الفرنسي والرد على خسارة تونس. وكانت لدى روما مؤشرات أن فرنسا كانت تدعم المقاومة في الأقاليم الثلاثة التي لن تحمل اسم ليبيا إلا بعد العام 1934. خلال الحرب العالمية الثانية كانت فرنسا تشترك مع الولايات المتحدة وبريطانيا في الحرب على قوات المحور ومن بينها القوات الإيطالية التي خسرت نفوذها في ليبيا ليصبح إقليم فزان الجنوبي تحت وصاية باريس وامتدادا للمستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
يعتقد المحللون أن النظامين الاستعماريين الفرنسي والإيطالي كانا مختلفين تماما، وكذلك جغرافية الأراضي وتكوين المجتمعات التي استعمروها. وفي ذلك الوقت، لم يكن هناك أيّ إحساس بأفريقيا كمنطقة أو بالهوية المشتركة بين الناس هناك. استثمرت فرنسا في بعض النخب التي استفادت منها يوم قرّرت الرحيل عن مستعمراتها السابقة، فيما كانت إيطاليا قد اكتفت بتأسيس مستعمرات اقتصادية لها دون تأثير ثقافي في المجتمعات المحلية، ويوم أجبرت على المغادرة لم تترك وراءها من يدافع عن مصالحها.
هناك نقطة من الصعب تجاوزها وهي أن العسكر الذين استولوا على الحكم في ليبيا في سبتمبر 1969 بقيادة الضابط الشاب معمر القذافي، اتجهوا مباشرة لطرد المستوطنين الايطاليين، فيما كانت فرنسا أول دولة تعرض على النظام الجديد صفقة طائرات الميراج، كان ذلك بعد أقل من ثلاثة أشهر على الإطاحة بالنظام الملكي.
يعتبر الإيطاليون أن المشاعر المناهضة للقذافي في باريس عند اندلاع الحرب الليبية في العام 2011 دفعت ثمنها إيطاليا، ليس فقط بخسارة شريك أساسي في شمال أفريقيا على جبهة الغاز والنفوذ الإقليمي، بل أيضا بانفجار ظاهرة الهجرة وبأزمة عسكرية وإنسانية على بعد أميال قليلة من جزرها الأولى. وقالت وزيرة الدفاع السابقة إليزابيتا ترينتا التي تنتمي إلى حركة النجوم الخمسة، من موقعها على رأس وزارتها في العام 2019 إنه “بالطبع، لا يمكن إنكار أن ليبيا تجد نفسها اليوم في هذا الوضع لأن شخصا ما، في عام 2011، وضع مصالحه قبل مصالح الليبيين وأوروبا بحد ذاتها. ولكن الآن يجب علينا جميعا أن نجتهد من أجل خير الشعب الليبي وسلامه”، في إشارة إلى نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي الذي كان أول المندفعين لشن حرب الإطاحة بنظام القذافي.
في العام 1911 كانت إيطاليا قد وضعت يدها بالفعل على الجغرافيا التي تحمل حاليا اسم ليبيا، وبعد مائة عام، جاء الفرنسيون بحلم بسط نفوذهم على البلد ومقدّراته ونفوذه الذي كان واسعا في المنطقة وفي القارة الأفريقية وخاصة في الدول التي كانت سابقا خاضعة للاحتلال الفرنسي.
كانت العلاقات بين روما وطرابلس قد شهدت تطورا مهما خلال النصف الثاني من العقد الأول للألفية الثالثة، في 30 أغسطس 2008 شهدت مدينة بنغازي إقرار إيطاليا من رئيس وزرائها سيلفيو برلسكوني “بالأضرار والمسؤولية الأخلاقية التي لحقت بالشعب الليبي أثناء فترة الاستعمار الإيطالي”، وتم توقيع معاهدة الصداقة والشراكة والتعاون بين ليبيا وإيطاليا، وقال برلسكوني آنذاك إن المعاهدة هي “اعتراف أخلاقي بالأضرار التي لحقت بليبيا من قبل إيطاليا خلال فترة الحكم الاستعماري”، مكررا “أسفه وأسف الشعب الإيطالي”. وفي مارس 2009 وأثناء زيارة أخرى إلى ليبيا عبّر برلسكوني عن ارتياح إيطاليا لتصديق ليبيا على المعاهدة مطالبا الشعب الليبي بالصفح عن حقبة الاستعمار الإيطالي لليبيا، مجددا الاعتذار.
وتنص الاتفاقية على التزام إيطاليا بتقديم تعويض مالي يناهز الربع مليار دولار سنويا على مدى عشرين عاما، وبناء مستشفيات لعلاج الذين تأذوا من مخلفات الاستعمار وتحديدا الألغام كما تتعهد إيطاليا بالتعاون في الكشف عن حقول الألغام المزروعة في ليبيا، وعلى أن تقوم إيطاليا بإعادة القطع الأثرية والمخطوطات والكتب التي تم تهريبها إلى إيطاليا خلال حقبة الاستعمار، وفي هذا الشأن أعادت إيطاليا في يوم توقيع الاتفاقية تمثال “فينوس قورينا” الذي تم أخذه من بلدة شحات المستوطنة الإغريقية القديمة في برقة إلى روما خلال الحكم الاستعماري. وتنص الاتفاقية كذلك على أن تمنح روما بشكل سنوي منحا جامعية للطلبة الليبيين الذين يرغبون بمواصلة دراساتهم في إيطاليا، وأن تتم إعادة معاشات التقاعد للجنود الليبيين الذين حاربوا في الجيش الإيطالي.
قبل أيام، كانت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في طرابلس للتوقيع على جملة من الاتفاقيات المرتبطة بمعاهدة الصداقة، والمنخرطة في نفس الوقت في خطة “ماتي” الذي تقول ميلوني إنها تمثل شكلا جديداً من الشراكة بين إيطاليا والقارة الأفريقية، وتقوم على المنفعة المتبادلة والشراكات المتساوية، وتبتعد عن النهج “الأبوي” و”المفترس”، وتتغلب على “نموذج الدولة المانحة والدولة المتلقية”، وتمثّل رمزية مهمة في محور العلاقة مع ليبيا، انطلاقا من أن تسمية “خطة ماتي”، تعود إلى إنريكو ماتي، مؤسس عملاق النفط والغاز الإيطالي “إيني” الشركة المرتبطة بعلاقات وطيدة مع البلد الثري في شمال أفريقيا الذي طالما اعتبره الإيطاليون شاطئهم الرابع.
عندما كانت إيطاليا تدعم المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، وتنشر عددا من عسكرييها في طرابلس ومصراتة، وتعقد اتفاقيات مع ميليشيات مدن الساحل الغربي لتشجيعهم على منع قوارب الموت من الانطلاق بالمهاجرين نحو سواحلها، جرى الحديث وفي مناسبات عديدة عن دعم فرنسا لقوات الجنرال خليفة حفتر. كان دور فرنسا واضحا في صلة بتحالفاتها الإقليمية مع الدول التي كانت تساند قوات الجيش في معركة الكرامة ضد إرهاب الجماعات الدينية المتشددة، قبل أن تصطدم بالدور الروسي المتنامي ليس في شرق ليبيا وجنوبها فقط ولكن في مستعمراتها السابقة وفي مناطق نفوذها التي تم طردها منها بشكل مهين.
اللافت هنا، أن إيطاليا لا تهتم كذلك بدور روسيا أو غيرها، وهي مستعدة لوضع يدها في يد المتمردين على النفوذ الفرنسي، وعندما نزلت ميلوني في بنغازي، واتجهت لضاحية الرجمة لملاقاة الجنرال حفتر، كانت تود التأكيد على أنها مستعدة للتعامل مع الجميع طالما أن هناك ضمانات لخدمة مصالح بلادها.
درس مهمّ أعطته ميلوني لدول الجوار الليبي بما في ذلك الدول العربية التي يتحاشى كبار مسؤوليها الهبوط بطائراتهم في بنغازي، وللمنافس الفرنسي بأنها لا تكتفي بالرسائل والخطب وعقد الاجتماعات، وإنما جاءت بسلة مشاريع تؤكد من خلالها أن ليبيا تتصدر مركز اهتمامها في المنطقة ككل.
نقطة مهمة تحسب للإيطاليين، أنهم أكثر تواضعا وأكثر نشاطا وتحررا من أنظمة البروتوكول طالما أن الأمر يخدم أهدافهم ومصالحهم الوطنية.