#شوؤن عربية

الجنوب الليبي .. بين الفراغ السياسي واستثمار الميليشيات في الاقتصادات غير المشروعة

نهال احمد *  ١٩-١٠-٢٠١٨

أسفرت حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي شهدتها ليبيا منذ أحداث فبراير 2011، وما تبعها من تداعيات بالغة الخطورة، عن إحداث تغيرات جوهرية في هيكل الدولة، لعل أبرزها ظهور الفصائل المسلحة، التي ساهمت بشكل كبير في تصعيد وتفاقم الوضع، وهو ما أثر بدوره على حالة الاقتصاد القانوني الليبي لاسيَّما المرتبط بالمنطقة الجنوبية، بدفعه نحو مزيد من الركود؛ مقابل ازدهار أنماط أخرى للاقتصادات غير القانونية؛ ليصبح بذلك الإقليم الجنوبي على مفترق طرق في ظل غياب سلطة مركزية قادرة على فرض النظام، في حين تمكنت فصائل مسلحة ومرتزقة -أجانب- من استثمار حالة الفراغ السياسي؛ لتحقيق مصالح يرتكز  قوامها على انهيار الدولة.

أولاً- دور الجنوب الليبي في صنع الميليشيات

أدت حالة التشرذم التي لا زالت الدولة الليبية تواجهها، إلى تعزيز تواجد وانتشار فصائل عسكرية ومرتزقة أفارقة داخل الأراضي الليبية عامة، مستغلين تفاقم التوترات الأمنية، واستمرار الانقسامات ما بين صفوف الليبيين، ولعل المنطقة الجنوبية كانت أبرز من تعرض لأوضاع متردية، بعدما ترسخت أقدام قوات وعناصر أجنبية تقاتل من أجل السيطرة على أهم النقاط الاستراتيجية ومنافذ التهريب بها؛ إذ أن الصراع بجنوب ليبيا لم يعد مقتصرًا على الليبيين فحسب، ولكن تداخلت فيه فصائل أجنبية، وأصبح هناك حالة من تشابك التحالفات(1).

وبناءً على ما سبق؛ فقد صارت هناك ضرورة ملحة تنصب حول تنويع مصادر الدخول اللازمة، لتمويل الأجندات التي تأسست من أجلها تلك الفصائل، فتعددت بذلك القنوات غير الشرعية الضامنة لاستمرار نشاطات تلك الفصائل؛ لعل أبرزها الاتجار غير المشروع في «السلاح، الأعضاء البشرية، تهريب المهاجرين غير الشرعيين، الاتجار في الجنس».. إلخ، لكن قبل التطرق إلى تلك الأنماط من الاقتصاد غير القانوني الذي تقوم عليه أنشطة الميليشيات، تجدر الإشارة مسبقًا إلى أبرز الميليشيات والفصائل العسكرية الفاعلة بالجنوب.

ماهية الفصائل العسكرية

اتجهت العديد من الدول الأفريقية نحو استغلال تردي الأوضاع الأمنية الليبية، ومن ثم نزوح عدد من القبائل الأفريقية التي لديها امتدادات بين شمال أفريقيا، ودول الساحل والصحراء، حيث تمكنوا حينذاك من تزوير هويات ليبية خاصة بهم، والاندماج في الصراع الدائر هناك، ولعل تلك التحركات كانت مدفوعة بالأساس من حكومات دول الساحل على غرار مالي والجزائر والنيجر وتشاد والسودان، بهدف التخلص من تلك القبائل التي تقطن الصحراء، على خلفية معارضتهم المسلحة لتلك الحكومات، وتهديدهم لاستقرار تلك الدول، ومن هنا أصبحت العناصر الأجنبية المتواجدة بالجنوب الليبي عبارة عن مزيج من الفصائل الأفريقية سواء التشاديّة أو النيجيرية والمالية وكذلك السودانية؛ ليصبح بذلك جنوب ليبيا مرتعًا لتجارة السلاح والمخدرات وتهريب البشر.

تغذية الصراعات

يتمركز بجنوب ليبيا ما يقرب من عدد كبير من الفصائل المسلحة تختلف انتماءاتهم، وقنوات تمويلهم، ولعل حركة «العدل والمساواة» السودانية، تعتبر أكثر المشاركين المرتزقة الذين لهم بصمات واضحة في الصراع الليبي، بعدما تمركزت في جنوب ليبيا، وشاركت في الهجوم على «سبها» عام 2011، حينها أصدرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا «UNSMIL» بيانًا أدانت فيه ممارسات الحركة، ودورها في تغذية الصراعات الليبية.

وفي يونيو 2017، قال المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، العقيد أحمد المسماري: إن «تمركز تلك الميليشيات داخل الأراضي الليبية، جاء بهدف توفير الأسلحة والذخائر لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا»، في حين تأتي «حركات المعارضة المالية والنيجيرية» ضمن أخطر الفصائل المسلحة، التي تضم  عناصر قادمة من مالي، وجنوب الجزائر، وشمال النيجر، وبوركينافاسو، وموريتانيا، وشمال السنغال؛ ليتمركز معظمهم في مدينة سبها، بحيث يرتكز جل اقتصادهم على قطع الطرق والانخراط في أعمال مسلحة.

ويأتي «المجلس العسكري لإنقاذ الجمهورية» ضمن أبرز حركات المعارضة التشادية، بل أكثر الميليشيات جذبًا للعناصر في صفوفها لاسيَّما هؤلاء المنشقين عن نظام «إدريس ديبي»، وكذلك “جبهة الوفاق من أجل التغيير في تشاد”، المرتكزة في عدة مواقع بالقرب من سبها بالجنوب، والتي تعتبر وثيقة الصلة بقطر؛ ليمثلا معًا فصائل ذات فاعلية كبيرة بجنوب ليبيا.

أما على صعيد القبائل، نجد ميليشيات قبائل “التبو” المسيطرة على مسارات التهريب الرئيسية، والمُكفلة بنقل المهاجرين إلى مدينة سبها، في حين تأتي ميلشيا قبائل “أحمد الدباشي” لتشكل أكثر  عصابات الهجرة غير الشرعية لما تمتلكه من مؤن ومعدات عسكرية، وأيضًا سيطرتها على معظم مداخل ومهاجر الطرق المؤدية إلى سواحل البحر المتوسط(2).

ثانياً- أنماط الاقتصاد غير المشروع في الجنوب الليبي

يواجه جنوب ليبيا أزمة ركود المؤسسات الاقتصادية والمالية الوطنية، فرغم غنى الإقليم بالموارد الطبيعية، فإن غياب السلطة المركزية، والعجز التام عن فرض نظام، هو ما أتاح  ظهور  أنماط عدة للاقتصادات غير المشروعة، كان أبرزها التهريب بجميع أشكاله، إلى جانب الاتجار غير المشروع سواء في الأعضاء البشرية، المخدرات، الأسلحة، الذهب، النفط.. إلخ، وقد كان الدافع وراء ذلك استغلال حالة الصراع القبلي والتوترات الاثنية التي أعقبت حالة الفراغ السياسي التي أصبحت تعاني منها الدولة الليبية عقب احتجاجات فبراير 2011 (3).

الاستثمار في تهريب البشر

عبّر أحد الأكاديميين في إحدى الجلسات النقاشية بشأن الوضع في جنوب ليبيا بقوله إن «الجريمة أصبحت بليبيا وظيفة»، فقد تسببت حالة الركود التي يعاني منها الاقتصاد الليبي على تشجيع الأنشطة غير المشروعة الذي تسبب في نقص السيولة والتضخم الحاد، بل أصبحت الأراضي الليبية عمومًا منفذًا للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، لاسيَّما القادمين من دول الساحل والصحراء، فيما قدرت احصائيات العوائد التي تخلفها الاتجار بالبشر بما قيمته من (1.5 ـ 3) مليار دولار سنويًّا.

في هذا السياق يشار إلى أن سيطرة قبيلة “التبو” على هذه التجارة جاء على خلفية تحكمها في الممرات الرئيسية الواقعة أقصى الجنوب على الحدود من النيجر وحتى سبها، في حين يسيطر «الطوارق» على الممرات الواقعة بين الحدود الجزائرية وسبها؛ ليسهل بذلك فكرة تهريب المهاجرين عبر مراحل عدة وصولًا إلى البحر المتوسط(4).

                وفي إحدى التقارير الميدانية التي أجرتها «مجموعة الأزمات الدولية»، كشفت حينها عن العوائد التي يمكن أن يتحصل عليها الفرد جراء عمله في نشاط تهريب البشر، حيث كُشف عن إمكانية تحصل الشاب الذي يعمل سائقًا على مقابل مادي يقدر بنحو  (1000-1500) دينار ليبي، مقابل كل رحلة يقوم بها من الحدود إلى سبها، وهو مبلغ يفوق بأربع مرات الراتب الشهري لرجل الشرطة، كما ذكر التقرير أنه بعد مضي فترة من العمل بهذا المجال، أصبح هناك تطلعًا نحو الاستقلال بهذا النشاط والانفصال عن المافيا الأصلية، بل والسعي نحو تأسيس أخرى منافسة.

وانتشرت أخيرًا تقارير للجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن الدولي، تتمحور حول أن معظم الجماعات المسلحة الضالعة في عمليات تهريب البشر والبضائع في ليبيا لها صلات بالمؤسسات الأمنية الرسمية في البلاد، وجاء في التقرير أن مجموعة من المهاجرين الأريتيريين تواصلوا مع مراقبين أممين وأبلغوهم بأنه جرى اعتقالهم على يد «قوات الردع الخاصة» التابعة لوزارة داخلية في حكومة الوفاق الوطني، وأن تلك القوات الخاصة سلمتهم إلى مافيا مهربي بشر(5).  

الاتجار بالسلاح

منذ الحملة العسكرية التي شنها حلف “الناتو” على الأراضي الليبية، بزعم القضاء على استبداد “القذافي”، أصبحت الأراضي الليبية مرتعًا لتهريب السلاح والاتجار فيه، وما ساهم في تعزيز تلك التجارة؛ التوترات الأمنية والانقسامات القبلية والصراعات فيما بينها على مقدرات الدولة الليبية؛ لتنتشر بذلك مخازن الأسلحة التي تتضمن أنواع مختلفة تتراوح بين أسلحة صغيرة، وأنظمة دفاع جوي محمولة على الكتف، ورغم الجهود الليبية للحد من هذا الأمر، فإن زيادة الطلب المحلي على الأسلحة أفشل بشكل كبير محاولة دحر الاتجار في السلاح كافة.

وما يعزز هذه التجارة؛ وجود دعم وتمويل خارجي، لاسيَّما من دولتي قطر وتركيا لتحقيق أهداف عدة، من ضمنها إحداث تهديدات أمنية للحدود الغربية بين مصر وليبيا، وقد كان عام 2011 هو نقطة انطلاق وازدهار تلك التجارة حينما وقعت أول حرب بين قبيلتي “التبو” و”أولاد سليمان”، حيث تشكلت عقب تلك المواجهة العديد من المجموعات المسلحة، وتنامت الأطماع القبلية على موارد الدولة؛ لاسيَّما في ظل انتشار معظم المناجم وحقول الغاز الثرية بالجنوب الليبي، في حين لن تتحقق أهداف المجموعات في السيطرة على الموارد الطبيعية المتشعبة، إلا بالهيمنة على كم مناسب من الأسلحة التي لا يمكن الحصول عليها، إلا بشكل غير شرعي كما هو سائد في جنوب ليبيا(6).

وفي سبها تحديدًا لم يعد هناك أي أجهزة تحمل على عاتقها مهمة مكافحة تهريب السلاح، بل وصلت الأمور لحالة من الانفلات التي صاحبها تهديدات فعلية لمنظومة الامن الإقليمي على خلفية تأثر دول الجوار الاقليمي بهذا النشاط؛ حيث نشرت صحيفة “صنداي تايمز” الإنجليزية، تقريرًا استخباراتيًّا بريطانيًّا، كشف عن تمكن جماعة “بوكو حرام” من تأمين طريقها لتهريب السلاح من ليبيا إلى نيجيريا عبر تشاد، حيث شمل السلاح مدافع مضادة للطائرات وقذائف هاون، وصواريخ «أرض- جو»، بل كشف التقرير أيضًا أن السلاح الليبي المهرب ساعد في تمكين تنظيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي، و”حركات التمرد الطارقية” من السيطرة على شمال مالي.

وعلى الجانب الآخر، كشف تقرير أممي تضمن في محتواه صورًا ووثائق وملاحق سرية، عن وجود انتهاكات مستمرة لقرارات حظر الأسلحة المفروضة على ليبيا، واستمرار تحكم جهات مسلحة غير تابعة للدولة على مخازن السلاح في الجنوب، وهو المصدر المادي الذي أكسبها ثقلًا مكنها من الاستمرار في ممارستها داخل الأراضي الليبية حتى الآن.

تهريب النفط

يمتلك جنوب ليبيا احتياطات ضخمة من الوقود النفطي، حيث أشارت احصائيات إلى أن «فزان» وحدها تستطيع ضخ ما يصل إلى 400 ألف برميل يوميًّا، ورغم تلك الإمكانات الهائلة، فإن الصراعات الممتدة منذ ما يقترب من 7 سنوات أثرت بشكل كبير على الإنتاج النفطي، ومنذ ذلك الحين أصبح وجود الحكومة يكاد يكون منعدمًا على تلك الحقول، وأصبحت الميليشيات والفصائل الأفريقية المنتشرة في جنوب ليبيا هي المتحكم الرئيسي هناك، فيما تقدر العوائد السنوية لتهريب الوقود بحوالي 4 مليار دولار.

وكشفت تقارير عدة عن القنوات التي يتم من خلالها تهريب الوقود، وذلك عبر آلية تتجسد في الإدعاء بأن صهاريج الوقود سيتم توزيعها وفقًا لحصص ما إلى محطات الوقود، حيث تتعدد منافذ تهريب الوقود منها التهريب البري عبر الحدود، ولكن  في حالة عمليات بسيطة أو عمليات تهريب داخل البلاد بشكل غير قانوني، وأيضًا عبر المنفذ البحري في حالة تهريب كميات كبيرة والتهريب البحري لكميات كبيرة(7).

وقد ازدادت وتيرة تهريب الوقود لاسيَّما عبر الحدود الجنوبية والغربية لدرجة أصبحت دولة تونس تعتمد بشكل كبير على الوقود المهرب من ليبيا، وهو الأمر الذي صارت له تداعيات خطيرة على الاقتصاد الليبي، وعلى صعيد الحكومة الليبية بطرابلس فقد اتخذت بعض الاجراءات لتقليص تلك الخسائر لعل أهمها  اطلاق عملية عسكرية خلال أبريل 2017 تعرف بـ«عاصفة المتوسط» بتكليف من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية؛ لمكافحة تهريب الوقود، بينما تعالت أصوات أخرى تنادي بوقف الدعم لردع عمليات التهريب، ورغم ذلك فإن تهريب الوقود لا يزال قائمًا، بل اتسعت رقعته بشكل مبالغ فيه؛ ليصبح من أهم أنماط الاقتصاد غير المشروع في جنوب ليبيا.

شبكات الاستغلال الجنسي

تبقى قنوات الاقتصاد غير  المشروع هي المتحكم الرئيسي، والمهنة المحورية التي تمتهنها ميليشيات الجنوب، فقد كشفت إحدى التقارير الأممية عن تورط مافيا ليبية في تأسيس شبكات استغلال جنسي للنساء والفتيات الهاربات من دول أفريقية، مقابل تأمين وصولهن إلى إيطاليا عبر الاراضي الليبية، وبالفعل أجرى الفريق الأممي المعني بإعداد التقرير، مقابلات مع نساء تعرضوا للاستغلال الجنسي، فأتضح أن معظم هؤلاء الفتيات قادمات من نيجيريا، وأنهن تعرضن للاستغلال الجنسي أثناء احتجازهن في بيوت بغاء تقع في القطرون وسبها ومنطقة قرقارش بالعاصمة طرابلس يديرها نيجيريون، في حين لم يقتصر هذا النمط من التجارة على الفتيات القادمات من مناطق الصراع في دول الصحراء، ولكن تمارس تلك التجارة مع ليبيات حاولن الفرار من مناطق التوتر بحثًا عن طوق نجاة، لكن وجدن أنفسهن في بؤرة أشد قسوة من تلك التي هربن منها؛ ليصبح بذلك البغاء إحدى القنوات الرئيسية التي تعتمد عليها ميليشيات الجنوب في تأمين مصدر مادي.

ومن هنا أصبح لزامًا، أن يتم الاتفاق على شراكة ليبية دولية من أجل اتخاذ خطوات أكثر حسمًا، تستهدف التوصل إلى آلية أمنية من أجل انهاء الاقتتال القبلي، والالتفاف حول هدف واحد، وهو القضاء على منابع الاقتصاد غير المقنن، والتركيز بشكل رئيسي على استقرار المنطقة الجنوبية باعتبارها المصدر الرئيسي لجُل التهديدات الأمنية بليبيا، وهو ما لن يتم إلا عبر محادثات فاعلة تضم القادة العسكريين للمجموعات المسلحة المهيأة لإيجاد حلول لأزمة الجنوب، والعمل على اشراكهم في حوار أمني شامل لمواجهة تفاقم الوضع الراهن.

* عن المركز العربي للبحوث والدراسات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى