التموضع الاقتصادي الإيراني في سورية
المصدر : مركز عمران للدراسات الاستراتيجية ٤-٤-٢٠١٨م
ملخص تنفيذي
تمكنت طهران من خلال تموضعها الاقتصادي الجديد بعد الثورة من رفع سوية علاقاتها الاقتصادية مع سورية بعدما كانت تعاني من مشاكل هيكلية واستثمارات منخفضة بالرغم من كثرة الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، حيث تحسن الميزان التجاري من 361 مليون دولار في العام 2010/2011 إلى 869 مليون دولار في 2014 وأدى ارتفاع الصادرات الإيرانية إلى سورية بشكل مطرد إلى تحول سورية لسوق تصريفية للمنتجات الإيرانية لتصبح الشريك التجاري الأول لسورية.
حصلت إيران على استثمارات سيادية وسريعة الربح مثل رخصة خط الجوال الثالث، واستثمارات استراتيجية في مناجم الفوسفات بخنيفيس، وعقود لبناء مصفاة نفط كبرى قرب مدينة حمص بطاقة تكريرية 140 ألف برميل يومياً. كما ساهمت الشركات الإيرانية بشكل كبير في المعارض المقامة في دمشق لأغراض إعادة الإعمار ووقعت عقوداً مهمة في هذا المسار إذ بلغت القيمة المالية للعقود الموقعة بين شركة “مبنا غروب” الإيرانية في 2016 مع وزارة الكهرباء السورية حوالي تريليون ليرة سورية. كما دعمت طهران النظام السوري مالياً عبر فتح خطوط ائتمانية بلغ إجمالي ما قدمته أكثر من 5.6 مليار دولار لدعم العجز المالي في الموازنة المالية لسورية وتجنب توقف المؤسسات عن العمل.
يتباين التموضع الإيراني في الاقتصاد السوري مع السياسات الاقتصادية الروسية التي تحاول الاستئثار بالقسم الأكبر من الاستثمارات لاسيما فيما يتعلق بالنفط والغاز وإعادة الإعمار دون مراعاة لمصالح الإيرانيين والاتفاقات الموقعة مع الجانب السوري، وقد تؤدي التداخلات في الاتفاقيات والعقود في بعض القطاعات بين إيران وروسيا إلى تحول هذا التباين لأشكال خلافية بين البلدين على اقتسام التركة، ومن التداخلات بين البلدين في مجال الطاقة اتفاقيات روسيا مع النظام السوري التي تتيح لروسيا الاستكشاف والتنقيب عن النفظ والغاز في المياه الإقليمية السورية، كما ستحصل روسيا على ربع الإنتاج النفطي السوري مقابل تحرير مناطق تحتوي على آبار ومنشآت نفطية، وسيتم إنشاء شركة للفوسفات تحت إشراف روسيا في منجمي الشرقية وخنيفيس، إضافة لذلك فإن روسيا تسعى للحصول على الحصة الأكبر من إعادة الإعمار.
يواجه النفوذ الإيراني في الاقتصاد السوري مستقبلاً سيناريوهين، الأول: متنامي؛ ستكون فيه إيران بـ”أمان” بفضل تزايد فرص فرض رؤية الحل الروسية بسورية، وبالتالي حماية النفوذ الإيراني وتنفيذ الاتفاقيات والعقود المبرمة بين الجانبين، وهو أمر يستوجب صده وعدم تناميه ووصوله لمناطق المعارضة التي ليس لها – رغم تعدد الصعوبات- سوى منطق اللامركزية وسياسات الحوكمة الرشيدة، والسيناريو الثاني: متضائل؛ يأتي عبر حلحلة الأزمة السورية من خلال تطبيق كافة القرارات الدولية ذات الشأن كالقرار رقم 2254 والذي يُفضي إلى حكم انتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة، وهو أمر سيعزز من مناخات محاصرة النفوذ الإيراني على الاقتصاد السوري وعرقلته.
مدخل :
أدى طول أمد النزاع في سورية وتغول النظام في سياساته العسكرية التدميرية إلى تدهور الاقتصاد السوري على المستوى الكلي والجزئي، إذ تضرر الناتج المحلي الإجمالي على مدار السبع سنوات الماضية لتصل الخسائر المتراكمة 226 مليار دولار حسب تقديرات البنك الدولي في تقرير يونيو/حزيران 2017 وهبوط قيمة الليرة بنحو 90%، كما أصبح قرابة 85% من السكان تحت خط الفقر إضافة إلى معدلات بطالة فاقت الـ53% في العام 2014 عدا عن التقارير التي أشارت ببقاء نحو مليار دولار من مخزون القطع الأجنبي في المركزي السوري هبوطاً من 17 مليار دولار قبل الأزمة.
أمام هذا الوضع الاقتصادي الصعب؛ طلب النظام من حلفاءه الروس والإيرانيين إضافة إلى المساعدات العسكرية والسياسية الدعم المالي والاقتصادي مقابل الحصول على امتيازات واستثمارات وتوقيع اتفاقيات عديدة في مجالات مختلفة وهو ما أفرز تموضعاً اقتصادياً واضحاً للحلفاء في الاقتصاد السوري واستحقاقاته القادمة، وستركز هذه الورقة على طبيعة التموضع الاقتصادي الإيراني في سورية، موضحةً بالبداية نوعية العلاقة الاقتصادية بين دمشق وطهران وكيفية استغلالها من قبل ايران بهدف تحويلها لتحكمٍ بخيارات الدولة الاقتصادية، ثم تستعرض أدوار ايران المتوقعة في استحقاق إعادة الإعمار وأهم المجالات والقطاعات التي تحاول طهران الاستحواذ عليه وأهم القضايا التي تتنافس فيها مع موسكو، لتقف الورقة في نهايتها عند المآلات المتوقعة لهذا التموضع وفق السيناريوهات السياسية المحتملة، مقدمة حزمة من التوصيات لتحجيم هذا التموضع.
قبل الثورة: علاقاتٍ اقتصاديةٍ متواضعة
وصِفت العلاقات الإيرانية -السورية قبل 2011 بأنها علاقات استراتيجية في المجال السياسي والتعاون العسكري والأمني([1])، بينما لم ترق تلك العلاقات على المستوى الاقتصادي لذات الدرجة الاستراتيجية بالرغم من أهمية سورية الجيواستراتيجية بالنسبة لإيران الطامحة للاستحواذ على طريق إمداد يصل أراضيها بالأراضي السورية ليتم من خلاله نقل الغاز الإيراني إلى الأسواق الأوروبية عبر أنبوب يعبر الأراضي العراقية والسورية ويصل إلى موانئ البحر المتوسط.
إذ لم تكن التبادلات التجارية بين إيران وسورية مرتفعة كما خُطط لها من قبل المسؤولين الإيرانيين لتصل إلى 5 مليارات دولار؛ حيث احتلت سورية مرتبة متأخرة بين الدول التي تستورد منها إيران بحصولها على المرتبة 61 ويُعزى ذلك أن الأسواق الإيرانية لم تكن وجهة مهمة للصادرات السورية إذ لم تزد عن 0.3% عام 2007 وانخفضت إلى 0.1% لاحقًا، وقد أظهرت بيانات غرفة تجارة دمشق بعد النزاع حول العلاقات التجارية السورية الإيرانية أن سورية تصدر أقل من 6 مليارات ليرة أي بنسبة 1% من الصادرات إلى إيران وتستورد من إيران بقيمة نحو 16 مليار ليرة أي بنسبة 2% من المستوردات السورية وهذا مؤشر على “ضعف العلاقة التجارية بين البلدين وعدم تلاؤمها مع التصريحات المعلنة من الحكومتين حول أهمية تعزيز التبادل التجاري. ([2])
يعد الميزان التجاري بين البلدين ميزاناً متواضعاً شهد دوماً ميلاً لصالح إيران (أنظر الشكل أدناه) ([3]). إذ بلغ نحو 361.6 مليون دولار في العام 2010-2011 بينما أشارت مواقع اقتصادية متعددة أن الرقم وصل إلى 553 مليون دولار([4])؛ كما صدرت إيران إلى سورية في ذلك العام سلعاً بقيمة 524.48 مليون دولار، أما الواردات الإيرانية من سورية فقد بلغت في نفس الفترة ما قيمته 26 مليون دولار. وبلغت واردات إيران من سورية خلال الفترة بين 2007 -2017 متوسطاً سنوياً قدره 23 مليون دولار، كما يظهر حجم انخفاض هذه الأرقام إذا ما قورنت بعلاقات سورية التجارية مع تركيا في نفس الفترة، إذ بلغ التبادل التجاري ما قبل 2011 بين سورية وتركيا نحو 2 مليار دولار وصدرت سورية إلى تركيا في العام 2010 بنحو 629 مليون دولار واستوردت بقيمة مليار و 672 مليون دولار، كما احتلت تركيا في العام 2011 المرتبة الأولى من بين الدول المصدرة إلى سورية بنحو 77 مليار ليرة سورية ( مليار و 540 مليون دولار على سعر 50 ليرة للدولار)([5]) ([6]).
كما بلغت الاستثمارات والمشاريع الإيرانية في سورية في الفترة بين 2006 – 2010 نحو 7 مشروعات فقط، بقيمة 20 مليار ليرة سورية على الرغم من اتباع السطات السورية سياسات الانفتاح والتحرر الاقتصادي والتي أسهمت في تحسين بيئة الاستثمار عبر سن خفض الضرائب والرسوم، بينما بلغت الاستثمارات التركية في نفس الفترة 26 مشروعا([7]). وفي الفترة الممتدة بين 1991 -2005 بلغت عدد المشاريع التركية 14 مقابل 4 مشاريع لإيران([8])، وفي العام 2010 وافقت الحكومة السورية على 37 استثماراً أجنبياً استحوذت تركيا على 10 مشاريع منها ما جعلها في المرتبة الأولى من بين المشاريع الأجنبية المنفذة في سورية. ومن المشاريع الإيرانية في سورية، معمل إسمنت حماة المنفذ بين شركة “صنعت” الإيرانية والمؤسسة العامة السورية للإسمنت، وعقود شركة “بارسيان” الإيرانية مع المؤسسة العامة لتوزيع واستثمار الطاقة الكهربائية في سورية، ومشروع “سيامكو” وشركة “سيفكو” لإنتاج السيارات في سورية.
على الرغم من ارتباط البلدين بالعديد من الاتفاقيات في مجالات متعددة تجارية واستثمارية ([9])، إلا أنها لم تنعكس على تطور العلاقات التجارية بين البلدين، ويُعزى ذلك لعدة أسباب منها أن الاقتصاد الإيراني يعتمد على الاكتفاء الذاتي وتنتج إيران منتجات زراعية وصناعية تشابه ما تنتجه سورية، ناهيك عن معاناة إيران من العقوبات الأممية بسبب تطوير برنامجها النووي والتي حدّ بشكل كبير من تطور اقتصادها واستثماراتها في الخارج، بالإضافة إلى أن الاستثمارات والشركات الإيرانية في سورية لم تتمتع بالتنافسية العالية إذ أخلّت العديد من شركات القطاع الخاص الإيراني بالتزاماتها بتنفيذ مشروعاتها الموكلة لها ضمن الجدول الزمني المحدد وتسجيل حالات فساد في تنفيذ المشروعات([10])، ويضاف أيضاً تنامي الروتين والبيروقراطية في البلدين واختلاف الأنظمة التجارية وتضاربها وضعف الثقافة التصديرية والمعلومات التجارية وعدم وجود خط بحري مباشر ومنتظم بين الموانئ التجارية الإيرانية والسورية أو مصارف وشركات صيرفة تحويلية لتسهيل عمليات السداد والتحويل([11]).
ووفقاً لأعلاه يمكن استخلاص نتائج عدة أهمها بقاء العلاقات الاقتصادية بين البلدين دون المستوى المأمول منها، ومعاناتها لعدة مشاكل هيكلية، مع التأكيد على البعد الطاقوي لسورية وأهميته بالنسبة لإيران؛ كما ارتبط البلدين بأكثر من 20 اتفاقية في مجالات متعددة معظمها كانت عرضة للتسكين أو التأخير أو الفشل في بعض الأحيان؛ تبدو العلاقات التجارية متواضعة بالمقارنة مع غيرها، إذ بلغ الميزان التجاري 361 مليون دولار في العام 2010-2011 مع ميله لصالح إيران على الدوام؛ وبقيت وتيرة الاستثمارات الإيرانية منخفضة مقارنة مع استثمارات الدول الأخرى في سورية بعد الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته سورية مطلع العام 2000.
الدعم الإيراني الاقتصادي وطموحات السيطرة على خيارات دمشق
تعاظم الدور الإيراني اقتصادياً في سورية في أواخر العام 2011 بعد مقاطعة دول عربية وأجنبية للنظام السوري جراء سياساته الأمنية المفرطة ضد المتظاهرين والتي فرضت عقوبات على النظام شملت وقف التعامل مع المصرف المركزي السوري ووقف المشاريع التجارية وتجميد أرصدة لمسؤولين سوريين، إذ دعمت إيران النظام السوري بعد توسع رقعة الاحتجاجات مدربين ومستشارين وعناصر من قوة النخبة “القدس” إلى سورية للمساعدة في قمع الاحتجاجات بإرسال مدربين ومستشارين وعناصر من قوة النخبة “القدس” إلى سورية للمساعدة في قمع الاحتجاجات وتقديم الدعم التدريبي واللوجستي والمخابراتي ومده بالأسلحة والعتاد وأجهزة المراقبة والتجسس([12]).
كثفت طهران (بالتوازي مع الدعم السياسي والعسكري) في العام 2012 من زيارات مسؤوليها إلى دمشق لدعمها واقتصادياً.
على الصعيد التجاري؛ رسخت إيران وجودها في سورية لوجستياً عبر تدشين طريق طهران دمشق وتأمين خط بري يعبر وسط وشمال العراق وحتى دمشق وسواحل المتوسط في اللاذقية ولبنان([13])؛ يشكل الطريق نقطة تحول كبيرة لإيران في المنطقة إذ سيتيح لها لعب دور محوري في زيادة صادراتها من السلع غير النفطية إلى العراق وسورية ولبنان والأردن والمنطقة العربية عموماً ويقدم لمنتجاتها ميزة تنافسية عن المنتجات الأخرى بفضل خفض كلف النقل وسهولة الطريق.
كما أن تفعيل اتفاقية منطقة التجارة الحرة السورية الإيرانية في 21 مارس/آذار 2012 والتي خفضت بموجبها نسبة الرسوم الجمركية البينية للسلع المتبادلة بين البلدين بنسبة 96% وإضافة إلى الوفرة المالية الناجمة عن خط الائتمان والقروض،([14]) أدى إلى ارتفاع الصادرات الإيرانية إلى سورية بشكل مطرد (انظر الشكل المجاور والذي يبين التبادل التجاري بين البلدين من عام 2010 حتى 2014، وذلك استناداً إلى بيانات مؤسسة تنمية التجارة الإيرانية، القيمة: مليون دولار أمريكي) وأصبحت الأسواق السورية سوقاً تصريفية للمنتجات الإيرانية لتتربع طهران على قائمة الشريك التجاري الأول لسورية. وعلى إثر هذا تحسن حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 869 مليون دولار في عام 2014.([15])
أما على صعيد الطاقة؛ انطلاقاً من الأهمية الاستراتيجية لسورية كممر للطاقة وشريان الغاز إلى الأسواق الأوروبية، فقد عززت إيران إمدادات الغاز للدول المحيطة بها كالعراق وسورية عبر الاستمرار بما بدأت به في يوليو/تموز 2010 من مفاوضات أولية مع كلا البلدين لمناقشة مشروع مد ” الأنبوب الإسلامي”، وفي يوليو/تموز 2011 تم عقد اتفاقية لمد الأنبوب وتم التوصل إلى اتفاق نهائي بين الدول الثلاثة في مارس/آذار 2013 بحيث يمتد من إيران ليعبر العراق وسورية ويصل إلى البحر المتوسط بتكلفة تصل إلى 10 مليارات دولار،([16]) وسيضخ الأنبوب نحو 110 مليون متر مكعب من الغاز يومياً تحصل سورية والعراق على احتياجاتهما من الغاز الإيراني البالغة نحو 30.25 مليون متر مكعب يومياً فيما سيحصل لبنان على احتياجاته من الغاز والبالغة 7.5 ملايين متر مكعب يومياً كما سيتم تزويد الأردن بالغاز الإيراني أيضاً عبر خط الغاز العربي، وتخطط إيران مستقبلا لشحن الغاز إلى أوروبا عبر ميناء في اللاذقية وقعت مذكرة تفاهم بشأنه مع النظام مطلع 2017([17]).
وضمنت إيران أيضاً في مجال الطاقة حصتها من سوق الطاقة السوري عبر مذكرات التفاهم الموقعة مع النظام للاستثمار في الغاز والنفط في مناطق عدة بسورية. فبموجب مذكرة تفاهم تم توقيعها في بداية العام 2017 أثناء زيارة لوفد الحكومة السورية إلى طهران، سيتم بموجبها إنشاء مصفاة نفط كبرى قرب مدينة حمص تبلغ طاقتها التكريرية 140 ألف برميل نفط يومياً وستقوم إيران بموجب الاتفاق بإعادة بناء وتجهيز مصفاتي حمص وبانياس بعد تضررهما بسبب الحرب، علمًا أن إنتاج كلا المصفاتين يكفي حاجات سورية الاستهلاكية([18]).
في المجال الصناعي، حصلت إيران بموجب مذكرات تفاهم تم توقيعها مع وفد الحكومة السورية الذي زار طهران مطلع العام 2017 على استثمارات استراتيجية في مناجم الفوسفات بخنيفيس في ريف حمص ويشمل العقد الموقع التنقيب عن الفوسفات واستخراجه واستثماره لمدة 50 عام، وبهذا حصلت طهران على احتياطي مهم بسورية إذ تعتبر مناجم الفوسفات بسورية من أكبر حقول الفوسفات في العالم ووفق أرقام الشركة العامة السورية للفوسفات والمناجم فقد بلغ احتياطي سورية من هذا الفوسفات 1.8 مليار طن خام في 2009 كما قدرت أرباح الشركة خلال 2008 بمليارين ومليوني ليرة سورية ( قرابة 40 مليون دولار على سعر صرف 50 ليرة للدولار) ([19]).
على الصعيد المالي، زوّدت إيران المؤسسات السورية بالمال اللازم لسد العجز الحاصل وتجنباً لتوقفها عن العمل حيث فتحت إيران خط ائتماني لدمشق في هذا الإطار ومنحتها العديد من القروض المالية. في يناير/كانون الثاني من العام 2013 قدمت إيران قرضها الأول بمقدار مليار دولار لدعم العجز المالي الذي عانت منه الحكومة السورية بعد هبوط إيراداتها بمقدار النصف عمَا كانت عليه في 2010 بسبب العقوبات التي فُرضت عليها من أوروبا وأمريكا ودول عربية([20])، حيث تراجعت الإيرادات العامة بين عام 2011 و2018 بنحو 63% وانخفضت العوائد النفطية بنسبة 93% بين 2010 –2016([21]). وفعّلت كل من طهران ودمشق في شهر آب/أغسطس 2013 منح القرض الثاني للحكومة السورية والبالغ 3.6 مليار دولار ليتم إنفاقه بشكل أساسي على استيراد المشتقات النفطية من إيران حصراً([22])، حيث من المقرر أن تمد طهران سورية بمعدل ناقلتي نفط شهرياً عبر الخط الائتماني الإيراني، في الوقت الذي وصلت إلى سورية في مايو/أيار 2017 ناقلتي نفط خام تحمل كل ناقلة مليون برميل نفط خام تسهم في تشغيل مصافي النفط في البلاد لإنتاج المشتقات النفطية وطرحها في السوق المحلية، وستسهم هذه الناقلات إضافة إلى عقود النفط المبرمة مع الشركات الإيرانية لتغطية السوق المحلية السورية من مواد الطاقة([23]). وفي يوليو/تموز وقّع الرئيس السوري بشار الأسد على قانون يصادق على القرض الثالث البالغ مليار دولار مقدم من إيران بهدف تمويل الصادرات([24]).
في مجال الاتصالات، حصلت إيران على إحدى أهم الاستثمارات القومية التي ستدر عليها أموالاً سهلة، ففي زيارة الوفد السوري لإيران مطلع العام 2017 وقع الجانبين على منح إيران رخصة تشغيل الهاتف المحمول الثالث في البلاد علماً أن عائدات شركة النقال في سورية تقدر بنحو 12 مليار ليرة سورية سنويًا، على أن يبلغ حجم الاستثمار في المشغل الجديد نحو 300 مليون دولار، بحيث تكون حصة الجانب السوري 20%، في مقابل 80% لشركة إيرانية.
يبين الجدول أدناه توزع الاستثمارات الإيرانية في سورية:
أما فيما يتعلق بإعادة الإعمار سورية، فقد تُرجمت دعوات النظام لإيران للمساهمة فيها عبر مشاركة الشركات الإيرانية في المعارض التي عُقدت في دمشق مؤخراً، إضافة إلى مجموعة من العقود التي أُبرمت بين الجانبين في عدة قطاعات في إطار إعادة الإعمار، حيث احتل الجناح الإيراني المساحة الأكبر في معرض إعادة الإعمار في دمشق في سبتمبر/أيلول 2017 بعنوان “عمّرها” الذي أُقيم بمشاركة نحو 40 شركة من بين 164 شركة جاءت من 23 دولة في مختلف المجالات؛ الإنشاء؛ ومواد البناء؛ إضافة إلى قطاع النفط؛ والطاقة الكهربائية؛ والنقل وغيرها. وكان للشركات الإيرانية أيضاً النصيب الأكبر في أول معرض تجاري تقيمه سورية في أغسطس/آب 2017 حيث شاركت فيه أكثر من 30 شركة إيرانية في مختلف التخصصات. كما تم الاتفاق في مطلع العام 2017 بين طهران ودمشق على التعاون في إنشاء محطات توليد كهرباء ومجموعات غازية على الساحل السوري، وإعادة تأهيل محطات الكهرباء في دمشق وحلب وحمص ودير الزور وبانياس وفق مذكرة تفاهم في سبتمبر/أيلول 2017([25])، وعدت فيها دمشق إيران بأنها ستقدم عقود إعمار لشركات إيرانية لإعادة بناء محطات وشبكات الكهرباء في كل أنحاء البلاد؛ إذ وقعت حكومة النظام مع شركة “مبنا غروب” الإيرانية عقداً لإعادة إنشاء خمس محطات توليد الطاقة الكهربائية في جزء من مدينة حلب مقابل 130 مليون يورو، وستستورد سورية من إيران وفق هذه المذكرة 540 ميغاوات من الكهرباء إلى محافظة اللاذقية. وبلغت القيمة المالية للعقود الموقعة مع إيران في العام 2016 مع وزارة الكهرباء السورية حوالي ترليون ليرة سورية (أكثر من 4.5 مليار دولار على سعر صرف 430 ليرة للدولار) تم توقيعها مع الشركة المذكورة لتوريد مجموعات لمحطات في حلب وبانياس([26]).
على ضوء ما سبق يمكن استخلاص مجموعة من المؤشرات حيال النفوذ الإيراني في سورية بعد 2011 لعل أهمها: تمكن إيران من تشكيل حلقة جغرافية ربطت العراق وسورية ولبنان، إضافة إلى تأمين الطريق البري الواصل بين هذه البلدان سيسهم في تعزيز صادرات إيران إلى الأسواق السورية والعراقية واللبنانية والأردنية من السلع غير النفطية؛ وتوقيع اتفاق مد “الأنبوب الإسلامي” الذي سيسمح لإيران بإيصال إمدادات الغاز إلى سورية والعراق ولبنان والأردن وإيصاله مستقبلا إلى الأسواق الأوروبية؛ ورفع أرقام التبادل التجاري بين البلدين إلى حدود مليار دولار، وأصبحت سورية سوقًا تصريفية للسلع الإيرانية؛ كما اعتبر عام 2017 كان عام قطف ثمار التدخل بالنسبة لإيران إذ وقعت خمس مذكرات تفاهم بين حكومتي دمشق وطهران في يناير/كانون الثاني تضمنت العديد من الاستثمارات السيادية في الطاقة والاتصالات والصناعة والزراعة والثروة الحيوانية([27])؛ ناهيك عن الحصول على استثمارات سيادية عبر توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مجالات عدة منها خط المحمول الثالث، واستثمارات صناعية وزراعية؛
روسيا وإيران: عقدة المصالح
تعتبر سورية بالنسبة لروسيا أهم حليف استراتيجي في المنطقة منذ أكثر من 60 عاماً، فسورية منفذ روسيا الوحيد على المياه الدافئة عبر ميناء طرطوس وكان من دواعي تدخل روسيا في سورية منافسة الولايات المتحدة وإعادة أمجاد روسيا القيصرية سابقاً. فضلا عن الأهمية الاقتصادية لسورية بالنسبة لروسيا فهي مشتري للسلاح الروسي بوقوعها في المرتبة الخامسة بين 80 دولة تشتري السلاح الروسي، وقدرت الاستثمارات الروسية في سورية بحسب غرفة تجارة دمشق حتى العام 2011 بنحو 19 مليار دولار تتركز في مجال النفط والغاز([28]).
توصف العلاقة بين روسيا وإيران في سورية بأنها “تنسيق استراتيجي وليس تحالفاً استراتيجياً”([29]). وقد ظهرت تداخلاتهما في الجغرافية السورية تبايناً في المصالح حول الثروات الطبيعية والقطاعات الأكثر ربحية في الاقتصاد السوري بين إيران وروسيا، يبين الجدول التالي أبرزها:
تُظهر تحركات الروس بسورية على الصعيد الاقتصادي محاولتهم الاستئثار على القسم الأكبر من الاستثمارات، بالأخص ما يتعلق بالنفط والغاز وإعادة الإعمار دون مراعاة مصالح الإيرانيين والاتفاقات الموقعة من جانبهم مع النظام السوري([30])، بل وقد تكون روسيا المهدد الحقيقي للنفوذ الإيراني في قطاعات النفط والغاز بسورية والعامل الأبرز في الحد من طموحاتهم بهذا الشأن. إذ وقعت شركة “يوروبوليس” الروسية مذكرة تعاون مع وزارة النفط والثروة المعدنية السورية مطلع 2017، تلتزم الشركة فيها بـ”تحرير مناطق تضم آبار نفط ومنشآت وحمايتها”، مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي. وتسعى وزارة النفط السورية بمساعدة الشركات الروسية للوصول إلى إنتاج 219 ألف برميل نفط و 24.5 مليون متر مكعب من الغاز يومياً بحول نهاية 2019([31]).
كما بدأت شركة “سيوزنفط” الروسية بأعمال الحفر والتنقيب عن النفط في ريف مدينة اللاذقية والمياه الإقليمية السوريةبموجب الاتفاقية الموقعة بين الطرفين عام 2013 بعد الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السورية وبروتوكول العمل والتعاون الذي تم توقيعه في الدورة التاسعة للجنة المشتركة بين روسيا وسورية في أكتوبر/تشرين الأول 2014 التي نصت على زيارة التبادل التجاري وإزالة الحواجز وتسهيلات جمركية([32])، وتُوجت أخيراً بمنح حكومة النظام روسيا امتيازات اقتصادية بتوقيع اتفاقية تسهيل جمركية من المقرر العمل بها مطلع العام 2018([33]).
وحول الفوسفات، فإن موسكو ودمشق ستعملان على إنشاء شركة مشتركة لاستغلال المخزون السوري من الفوسفات تحت إشراف روسيا، وقد بدأت شركة روسية بأعمال الصيانة لأكبر مناجم الفوسفات في سورية في منجمي الشرقية وخنيفيس([34]). وكانت حكومة النظام قد صادقت في 23 إبريل/نيسان على اتفاقية بين المؤسسة السورية و “STNG logistic” بهدف تنفيذ أعمال الصيانة اللازمة للمناجم وتقديم خدمات الحماية والإنتاج والنقل إلى مرفأ التصدير “سلعاتا” بلبنان.
في موضوع إعادة الإعمار، فقد حرصت روسيا أن يكون لها حصة كبيرة من إعمار سورية كما وعد النظام السوري أن يكون للشركات الروسية الحصة الأكبر في إعادة الإعمار في الوقت الذي استبعدت إيران بشكل واضح في المباحثات الجارية في هذا الإطار إذ ترى طهران أن من حقها الحصول على حصة كبيرة من مشاريع إعادة الإعمار كـ “رد جميل من نظام الأسد”. إذ دخلت الشركات الروسية على خط بناء السكك الحديدية في سورية، وتسعى كذلك شركة روسية أخرى لإنشاء معمل إسمنت في منطقة السلمية في حلب على أن يكون طاقة المعمل الإنتاجية 3 ملايين طن سنوياً، إضافة إلى تأهيل السدود المتأذية بسبب الحرب سد الفرات والبعث وتشرين وتأهيل محطة الخفسة في حلب ومحطتي تصفية المياه في اللاذقية وحماة. وبحث ملتقى رجال أعمال روس وسوريين مطلع مارس/آذار 2018 فرص الاسثتمار وإقامة مشاريع روسية في سورية وقد توصل الطرفان إلى اتفاق على خارطة تعاون اقتصادي يتيح إقامة مشاريع واستثمارات في سورية تحقق لها فائدة اقتصادية([35]).
ما ذُكر آنفًا من تداخل في المصالح بين روسيا وإيران في قطاعات النفط والغاز والفوسفات وإعادة الإعمار قد يؤدي إلى تطور التباين لخلافات بين البلدين على اقتسام التركة، وهذا من شأنه أن يقود بلا شك إلى حالة من عدم الاستقرار في الهيمنة الإيرانية على الاقتصاد السوري.
مآلات التموضع الاقتصادي الإيراني في سورية
يبقى مستقبل النفوذ الاقتصادي لإيران في سورية أمام اتجاهين سياسيين، أحدهما متنامي والآخر متضائل مع ترجيح الاتجاه الأول على الثاني بسبب ما تشهده الأزمة السورية من تطورات أدت لتزعم روسيا المشهد وهندستها للحل على مقاس النظام السوري.
السيناريو الأول: الاتجاه المتنامي (مرجح): إذ تعتزم روسيا عبر سياساتها الداعمة للنظام بالذهاب بالحل العسكري إلى آخره لفرض سياسة أمر واقع على المعارضة وتخرجها من كافة دوائر التأثير المحتملة كما هو جرى في حلب ويجري في الغوطة، وتسير في نفس الوقت بالشق السياسي عبر رعاية مؤتمر “أستانة” الذي أقر اتفاقيات “خفض التصعيد” ومؤتمر ” الحوار الوطني” الذي أقيم في سوتشي في 30 يناير/كانون الثاني 2018 بهدف تضمين شروطها في أي إطار سياسي محتمل للحل ومستقبل سورية.
ووفقاً لهذا الاتجاه ستستمر طهران في تدعيم تموضعها الاقتصادي في سورية عبر عدة أدوات تمتلك القدرة على التكيف مع تطور أي مؤشرات من شأنه ضبط او تحجيم هذا التموضع، كمؤشر تحول التباينات الروسية الإيرانية إلى خلافات وتناقضات، او معطيات عدم القدرة على تجاوزها التحديات الاقتصادية التي تواجه سورية في المرحلة المقبلة بحكم اقتصادها المستنزف والمنهك من العقوبات الدولية والأزمات الإقليمية([36])، وتحسباً لتنامي مؤشرات دولية رامية لمحاصرة طهران. وتتمحور هذه الأدوات حول ثلاث سياسات، الأولى: تعميق شروط سيطرتها على طرق وشبكات الإمداد والمواصلات الحيوية في سورية عبر وكلاء محليين استطاعت تشميلهم بمسمى القوات المسلحة كاللواء 313 وقوات الدفاع المحلي، والسياسة الثانية تتركز على الاستثمار في النفوذ الإيراني ليكون نفوذاً إدارياً واقتصادياً واجتماعياً على كافة المناطق التي تسيطر عليها، عبر تشكيلها لمجالس محلية تدين بالولاء المطلق لها ودعمها بكافة استراتيجيات الاستجابة المستعجلة والتنمية المستقرة، والثالثة الاستمرار في محاولة المزاحمة على الاستثمار في القطاعات الكبرى في سورية.
وفي ظل تلك الأدوات المتفرعة، يبقى خيار “حُسن التمكين الاقتصادي المحلي” في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو تلك التي تشهد اتفاقات هدنة هو الخيار الأبرز لمواجهة هذا التموضع وحصره بمناطق النظام، وبالرغم ما تعيشه تلك المناطق من تحديات صعبة ومركبة إلا أنه السبيل الذي مهما تعثر فإنه يتوجب القيام به، وعليه يمكن الدفع بالآتي: أن تكون الإدارة هذه المناطق وفق نظام لا مركزي تُبقي أدوات التحكم بيد المجالس المحلية والهيئات الإدارية التابعة لأجسام المعارضة، وتعزيز سياسات الحكم الرشيد الأمر الذي سيعزز ثقة المجتمع الدولي كمؤسسات فاعلة قادرة على إدارة شؤونها وتلبية احتياجات السكان فيها؛ وتكوين نموذج سياساتي اقتصادي تقوم دعائمه على الآتي:
تبني سياسات اقتصادية على المدى القصير تضمن خلق فرص عمل في الأنشطة الاقتصادية المتنوعة تصب في فكرة الإنعاش المبكر وتنمية سبل العيش، وتوجيه الأموال الممنوحة من الهيئات والمنظمات والدول المانحة إلى مشاريع تنموية ذات نفع عام تعزز الإنتاج في القطاعات المختلفة وبالأخص الزراعة، للمساهمة في استقرار الأثمان الداخلية بالشكل الذي من شأنه تحسين مستويات المعيشة وخفض معدلات الفقر؛
تعزيز دور المشاريع الصغيرة والمتوسطة للمساهمة في النشاطات الاقتصادية بالمجتمع عبر دعمها وتمويلها وتشجيعها للدخول في القطاعات المختلفة؛
تصميم برامج إعادة إعمار وفق حوافز جاذبة لرأس المال المحلي والأجنبي تتضمن أدوات استثمارية وعقود المختلفة من بينها العقود المتنوعة لـ (بناء، تشغيل، نقل) وتسويقها لدى الجهات المتخصصة للبدء في صيانة البنية التحتية والخدمات الأساسية المختلفة تضمن استقرار السكان في المناطق المعنية في المرحلة المقبلة؛
تطبيق سياسات اقتصادية للحد من تجار الأزمة واقتصاديات العنف عبر الحوافز السلبية التي تحد من نشاطات تلك الفئة من التجار؛
تبني استراتيجية اقتصادية بعيدة المدى تتضمن تأسيس مؤسسات متنوعة تقوم على مبادئ الشفافية والنزاهة لجذب رأس المال الأجنبي للاستثمار في الأنشطة المختلفة، ومن بين المؤسسات الاقتصادية الموصى بتأسيسها: سوق أوراق مالية، بنك مركزي، مكتب إحصاء مركزي، مكتب حماية المستهلك، مكتب المصدرين، هيئة الاستثمار؛
تعزيز التشاركية الاقتصادية بين الهيئات الإدارية والسكان تهدف لترسيخ أسس التعاون في البناء والتشغيل وتحميل مسوؤلية الاستقرار للجميع والاستثمار الأمثل للموارد، والعمل على اعتماد سياسات اقتصاد المعرفة الكفيلة بتمكين الفرد والاهتمام بالتعليم والصحة.
السيناريو الثاني: الاتجاه المتضائل (ضعيف): بمقتضى هذا الاتجاه ستؤدي المفاوضات المستمرة في جنيف وغيرها بين وفدي المعارضة والنظام السوري إلى اعتماد القرار 2254 المنبثق عن مجلس الأمن حول الأزمة السورية، والذي أكد على سيادة واستقلال ووحدة سورية انسجامًا مع أهداف ومبادئ الأمم المتحدة. والتأكيد على أن الحل في سورية يقوم فقط من خلال عملية سياسية شاملة بقيادة سوريّة تلبي تطلعات الشعب السوري المعني الوحيد بإقرار مستقبل بلاده ضمن التطبيق الشامل لبيان جنيف الصادر بتاريخ 30 يونيو/حزيران 2012 المتضمن قيام جسم انتقالي شامل، بصلاحيات تنفيذية كاملة يجري تشكيله على أساس التوافق المتبادل بالتوازي مع ضامن استمرار عمل المؤسسات الحكومية([37]). وعليه ستبقى النظم اللامركزية (إعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات ما بين الطرف والمركز) هي الإطار الأكثر مرونة لترميم الشروخات الحاصلة في كافة القطاعات والمستويات السورية، إلا أن افتراض ظهور جسم برلماني وحكومة مستقبلية يغلب عليها الدافع الوطني الرافض والمعارض للهيمنة الإيرانية على الاقتصاد والموارد السورية، يجابه عدة احتمالات منها:
الرضوخ لإيران والامتثال للعقود والاتفاقات الموقعة بسبب “قانونية” تلك العقود من جهة، والديون والأعباء المترتبة على ذمة الدولة السورية من جهة ثانية؛ أو التعامل مع التموضع الإيراني في سورية بسياسة الأمر الواقع واتباع براغماتية في العلاقة معها عبر الوعي اللازم بضرورة التأثير على العقود والاتفاقيات الموقعة سابقاً من خلال إصدار قوانين وتشريعات معينة تحد من استنزاف الموارد الطبيعية. والتخلص من احتكار الشركات الإيرانية عبر فتح الأسواق وتشريع المنافسة وإدخال شركات أجنبية أو تأسيس شركات وطنية بغرض التضييق على المستثمر الإيراني وإضعافه. إضافة إلى تشريع رسوم وتعريفات جمركية جديدة على البضائع الإيرانية الداخلة إلى الأسواق كنوع من الالتفاف على الاتفاقيات التجارية الموقعة مع النظام السوري والتي خفضت الرسوم الجمركية على السلع الإيرانية إلى 4%، وكذلك زيادة الصادرات السورية إلى إيران لتعديل الميزان التجاري وجعله مائل لصالح سورية بشكل أو بآخر.
أما الاحتمال الآخر مع كونه الأكثر ثورية على إيران إلا أنه يبدو مستحيلا في ظل التشبث الإيراني بسورية، ويكمن عبر إصدار تشريعات وقوانين تعارض التموضع الإيراني في الاقتصاد السوري بالمطلق برفض العقود والاتفاقات والامتيازات الممنوحة لها واعتبارها غير شرعية. وأن إيران استغلت ظروف الحرب للتعامل مع نظام متهم بأبشع وأكبر أزمة في التاريخ للحصول على تلك المكاسب. وإصدار تهم لإيران عبر محاكم وطنية تؤسس لهذا الغرض على جرائمها في سورية وجعلها ورقة لمقايضتها بعقودها واتفاقاتها المجحفة، ومن ثم جدولة الديون والفوائد المترتبة عليها على سنوات لسدادها بالطريقة المناسبة.
الخاتمة
تمكنت إيران عبر سياساتها الصلبة في سورية منذ 2011 من بسط هيمنتها على النظام السوري واستلاب اقتصاد الدولة عبر توقيع الاتفاقيات والعقود في قطاعات الإنتاج المختلفة، ضامنة حصص مهمة في الثروات السيادية لسورية لقاء دعمها المالي وديونها المترتبة على الدولة السورية. حيث نقلت إيران تموضعها الاقتصادي بسورية من علاقات مترهلة وضعيفة تعاني من مشاكل هيكلية عديدة قبل 2011 إلى سيطرة وتحكم بالاقتصاد السوري بعد انطلاق الثورة عززت من خلاله التبادل التجاري ورفعت من مساهمة الاستثمارات الإيرانية في مجالات الطاقة والاتصالات والتجارة. وتمكنت من وصل طهران بدمشق عبر طريق بري ستتمكن من الانفتاح على أسواق المنطقة وبالتالي تعزيز صادراتها غير النفطية، كما حصلت على نافذة بحرية على المياه الدافئة في المتوسط ستعمل من خلالها على إيصال الغاز الإيراني إلى الأسواق الأوروبية.
لقد كان العام 2017 عام قطاف ثمار تدخل إيران العسكري ومساندة النظام السوري. ففي مطلع العام 2017 وقعت طهران ودمشق خمس اتفاقات تضمنت استثمارات مهمة في الطاقة والصناعة والزراعة والثروة الحيوانية وميناء في اللاذقية، فضلا عن عقود إعادة الإعمار حيث كانت إيران أكبر المشاركين في معرض إعادة الإعمار والمعرض التجاري.
تُظهر مآلات التموضع الاقتصادي لإيران في سورية بعد تلمس ملامح المرحلة المقبلة وفق سيناريو متنامي ومرجح الحدوث تقوده الهندسة الروسية عسكرياً وسياسياً، أن الهيمنة الإيرانية بأضلاعها الثلاثة (سياسي، عسكري أمني، اقتصادي) في سورية قد اكتملت وستكون في مأمن ببقاء نظام الأسد على رأس أي سلطة مقبلة بفضل المساعي الروسية. ولكن على الرغم من هذا فلا يبدو أن المشروع الإيراني سيكون بدون منافس أو أن الساحة خالية تماماً لها، فروسيا الساعية إلى إعادة أمجادها عبر البوابة السورية استأثرت بحصة الأسد من أغلب الاستثمارات التي قد تتداخل جغرافياً مع إيران وهو ما قد يؤدي إلى احتدام التنافس بين البلدين على الثروات السورية، فضلا أن أي حل سياسي يخلو من استبعاد الأسد لن تشارك الدول الغربية وأمريكا بموجبه في تمويل إعادة الإعمار( وفق لتصريحاتها حتى الآن)، وأمام ما يوجه إيران من أزمات اقتصادية وعقوبات أممية فإن قدرتها على تطبيق العقود والاتفاقيات الموقعة ستخلو من آليات التنفيذ، سيكون التوجه نحو تنوع أدوات السيطرة الاقتصادية لتغدو محلياتية شكلاً ولصالح طهران وظيفةً وتحصيل.
([1]) تعد سورية حليف إيران الثابت منذ العام 1979 ارتبطت بها عبر مشروع “المقاومة والممانعة” وهي رابط جغرافي حيوي مع حزب الله في لبنان، كما أنها الخط الأمامي لإيران كما اعتبر المسؤولون الإيرانيون وعلى رأسهم خامنئي الذي أقر أيضًا بأن سقوط نظام بشار الأسد سيحطم الجبهة الإقليمية والاستراتيجية للدفاع عن نظامه. انظر كريم سجادبور، “إيران حليف سورية الإقليمي الوحيد”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 9 يونيو/حزيران 2014. الرابط: https://goo.gl/fkVcGx
([2]) صحيفة الوطن السورية، “بدء تطبيق رسوم جمركية 4% على صادرات سورية إلى إيران”، 13 يونيو/حزيران 2016 رابط: https://goo.gl/6dffVb
([3]) تامر البدوي، “العلاقات الاقتصادية بين إيران والنظام السوري: مؤشرات الاختلال”، مركز الجزيرة للدراسات، 2 يوليو/تموز 2015. رابط: https://goo.gl/uVx38c
([4]) Trade balance between Syrian and Iran from 2007 to 2017, Financial Tribune, 28 November 2017 link: https://goo.gl/HaruUH
([5]) World Integrated Trade Solution, Syrian Arab Republic 2010 Export Partner Share in 2010, link https://goo.gl/WVF2d4
([6]) سلام السعدي، “إيران وروسيا تغيران خارطة سورية الاقتصادية”، العربي الجديد، 15 مايو/أيار 2014. رابط: https://goo.gl/SNA4ZT
([7]) “الاستثمارات في سورية لعام 2008″، تقرر الاستثمار الثالث في سورية، رئاسة مجلس الوزراء، هيئة الاستثمارات السورية، عام 2008، صفحة رقم: 26
([8]) التقرير السنوي الخامس للاستثمار لعام 2010، مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر المشملة خلال الفترة بين 1991 – 2010، هيئة الاسثمار السورية، صفحة رقم 64
([9]) من بين تلك الاتفاقات: الاتفاق التجاري الموقع عام 1996 والذي دخل حيز التنفيذ في عام 2002 وينص على عدم التمييز بين سلع البلدين ذات المنشأ الوطني، واتفاق حول تجنب الازدواج الضريبي واتفاقية التجارة التفضيلية الموقعة في 2006 واتفاقية لتأسيس مصرف سوري إيراني مشترك، واتفاقية منطقة التجارة الحرة السورية الإيرانية 2010 التي تهدف إلى تخفيض الرسوم الجمركية والضرائب على كل السلع المتبادلة بين البلدين خلال مدة خمس سنوات وبشكل تدريجي.
([10]) كما حصل مع شركة “صنعت” لتنفيذ معمل الاسمنت في حماة في بداية استلامها العقد في العام 2006 وشركة أزراب لتجديد محطة بانياس الكهربائية، وتشييد 50 ألف شقة في عدرا بريف دمشق وإنشاء سكك حديد من إيران إلى سورية ومد خط أنابيبن يصل من العراق إلى سورية وتأسيس شركة ملاحة مشتركة بين البلدين وبناء مدينة صناعية قرب حمص، وتوريد شركة “أميران” 1200 حافلة نقل داخلي، زمان الوصل، ويكليكس: مشروعات إيران في سوريا… كثير من الوعود والاتفاقات، قليل من التنفيذ 26 أبريل/نيسان 2013، رابط: https://goo.gl/6R12GV
([11])جريدة الثورة السورية، 18 أغسطس/آب 2010، “100 مشـروع استثـماري ومصـرف وشركة طيران مشتركة واتفاقية للتجارة الحرة نهاية 2010″، رابط: https://goo.gl/Hi7kkZ
([12]) الجزيرة نت، “الكشف عن دور إيراني بسورية” 28/5/2011. رابط: https://goo.gl/n79SDK
([13]) تم تدشين الطريق البري بين إيران ولبنان، مرورًا بالعراق وسورية بعدما صار سالكًا في منتصف ديسمبر/كانون الأول على شكل خطين: طريق قصر شيرين الإيرانية ــ ديالى ــ البعاج العراقية وصولاً إلى دير الزور السورية وتحديدًا عبر نقطة البادي الحدودية مع العراق، ثم الطريق السوري البري مع شرقي لبنان لناحية منطقة الهرمل ــ القاع عبر معبر جوسية. العربي الجديد، 15 ديسمبر/كانون الأول 2017 رابط https://goo.gl/ufphCc
([14]) سيريا ستيبس، “الاتفاقية السورية الإيرانية تؤمن سوقًا لم يستثمره المصدرون السوريون من قبل”، 25 أبريل/نيسان 2012، رابط: https://goo.gl/Vv24wA
([15]) تامر البدوي، العلاقات الاقتصادية بين إيران والنظام السوري: مؤشرات الاختلال، مرجع سابق.
([16]) Naresh Amrit, Syria’s transit future: all pipelines lead to Damascus? Open Oil, 28 March 2012, Link: https://goo.gl/4bEwse
([17]) أنابيب الغاز الطبيعي.. أدوات الصراع الخفي في الشرق الأوسط، الخليج أونلاين، 28 شباط/فبراير 2016، رابط: https://goo.gl/vqseuy
([18]) كريمة عدنان، “الاستثمارات الإيرانية في سورية وأهمية القلق الأمريكي”، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2017، صحيفة الحياة، رابط: https://goo.gl/BCpyY2
([19]) تقع مناجم خنيفيس على بعد 60 كم جنوب غرب مدينة تدمر، وتعد من أكبر مناجم الفوسفات في سورية، إلى جانب مناجم الشرقية التي تقع على بعد 45 كم جنوب غرب تدمر. وقدرت الكثافة الإنتاجية للمنجمين، في 2009، حوالي 2650000 طن منها 800000 طن من منجم خنيفيس، و 1850000 طن من منجمي “الشرقية أ و ب”. يُشار أن سورية جاءت في المرتبة الخامسة على قائمة مصدري الفوسفات في العالم في 2011 ومن بين الدول المستورده للفوسفات السوري الهند وروسيا ولبنان ورومانيا واليونان. للمزيد حول ثروة الفوسفات في البادية السورية راجع الدراسة التالية https://goo.gl/PLfE8G
([20]) The Syrian Report, Iranian Credit Line to go to Power Sector, 21 January 2013, link: https://goo.gl/5Gpbeb
([21]) The world bank, The Toll of War: The Economic and Social Consequences of the Conflict in Syria, 10 July 2017.
([22]) Reuters, Iran grants Syria $3.6 billion credit to buy oil products, 31 July 2013. Link: https://goo.gl/xqSd9o
([23]) عنب بلدي، إيران تورد مليوني برميل من النفط الخام إلى سورية، 7 مايو/أيار 2017 رابط: https://goo.gl/dKxecu
([24]) Reuters, Syria ratifies fresh $1 billion credit line from Iran, 8 July 2015, link: https://goo.gl/JH2RHT
([25]) Tasnim News Agency, Iran Signs MoU to Repair Syria’s Power Grid, 13 September 2017, link: https://goo.gl/8Z511d
([26]) سيريانيوز، ترليونا ليرة قيمة مشاريع الكهرباء الموقعة مع روسيا وإيران في الـ2017، 19 ديسمبر/كانون الأول 2017، الرابط: https://goo.gl/UYp8wG
([27]) Reuters, Iran’s Revolutionary Guards reaps economic rewards in Syria, 19 January 2017, link: https://goo.gl/vCNAxH
([28]) الاقتصادي، “استثمارات روسيا في سورية نحو 19 مليار دولار”، 5 مايو/أيار 2014. رابط: https://goo.gl/h1xNaD
([29]) الشرق الأوسط، “روسيا وإيران في سوريا… الصراع الخفي تحت سقف التحالف”، 22 ديسمبر 2016 رابط: https://goo.gl/EXsmEd
([30]) أعلن نائب رئيس الوزراء الروسي ديمتري روغوزين أثناء زيارة لوفد اقتصادي روسي إلى سورية ولقاءه بالرئيس السوري بشار الأسد في 18 كانون الأول/ديسمبر 2017 إن روسيا الدولة الوحيدة التي ستعمل في قطاع الطاقة السوري وإعادة بناء منشآته التي تضررت جراء الصراع.
([31]) تراجع إنتاج النفط الذي يسيطر عليه النظام السوري من 380 ألف برميل عام 2010 إلى أقل من 10 آلاف برميل خلال سنوات الثورة.
([32]) اكتشفت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن الساحل الشرقي للمتوسط يحتوي على مخزون هائل من الغاز يقدر بـ700 مليار متر مكعب إضافة إلى النفط الذي قدرت كميته بـ1.7 مليار برميل نفط. كما تم اكتشاف حقل غاز في منطقة قارة قرب حمص تقدر كميته بـ437 مليار متر مكعب.
([32]) سيرياستيبس، “الاتفاقية السورية الإيرانية تؤمن سوقًا لم يستثمره المصدرون السوريون من قبل”، 25 أبريل/نيسان 2012، رابط: https://goo.gl/Vv24wA
([33]) عبد الرزاق عدنان، حكومة بشار تمنح روسيا تسهيلات جمركية.. والتنفيذ بداية العام 2018، 19 ديسمبر/كانون الأول 2017، العربي الجديد، رابط: https://goo.gl/Lqfj1j
([34]) روسيا اليوم، ملياردير روسي يبدأ الاستثمار في فوسفات سوريا، 27 يونيو/حزيران 2017، رابط: https://goo.gl/zDDJQK
([35]) السورية، مزيد من المشاريع الاقتصادية لروسيا في سورية يمنحها حضورا واسعا في إعادة الإعمار، 1/3/2018، رابط: https://goo.gl/xLUyp8
([36]) هناك عدة تحديات قد تواجه سورية في المرحلة المقبلة منها سياسية تتعلق بالتوافق بين الأطراف كافة والذي من شأنه أن ينهي القتال ويؤسس لمرحلة انتقالية بتم التوافق عليها بين النظام والمعارضة، وتحديات اقتصادية ناجمة عن ضخامة الأضرار الاقتصادية التي ألحقتها الحرب وتكاليف إعادة الإعمار المقدرة بين 200 -500 مليار دولار وفق ما أعلن في الملتقى السوري الروسي لرجال الأعمال ملطع مارس آذار 2018، وهناك تحديات أمنية متعلقة بنزع السلاح من الفصائل واستتباب الأمن ومنع تدحرج الأوضاع نحو الاقتتال مرة أخرى.
([37]) الجزيرة نت، قرار مجلس الأمن رقم 2254 بشأن سوريا، رابط: https://goo.gl/tqGtrx