التطهير العرقي للفلسطينيين: الأسباب لم تعد ديمغرافية فقط
دان شتاينبوك :30-12-2023
دمرت الحرب بين «حماس» وإسرائيل غزة وشردت شعبها. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى عمليات طرد للفلسطينيين في الضفة الغربية مع مرور الوقت. وبذلك، فإن الأمر يتعلق بنزع ملكية أمة وتشريدها وتدميرها.
بحلول منتصف كانون الأول، كان أكثر من 20,000 فلسطيني قد قُتلوا، حوالى 70% منهم من النساء والأطفال، في الحرب الدائرة بين «حماس» وإسرائيل (على الرغم من أن هذه الأرقام يغلب أن تكون أقل من الواقع بشكل كبير)، كما تم تهجير نحو 1.9 مليون من أصل 2.3 مليون فلسطيني يعيشون في القطاع. وإذا ما استمر الهجوم الإسرائيلي لمدة عام، وهو الهدف الضمني الذي تسعى إليه الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، فإن أكثر من 100,000 فلسطيني سيكونون قد قُتلوا بحلول 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2024. وبينما استمرت المحادثات بشأن صفقات الرهائن وشارك مئات الآلاف من الناس في مسيرات من أجل السلام في مختلف عواصم العالم، استمرت الحرب، على الرغم من توقفها الوجيز وارتفاع دعوات صاخبة لإقرار وقف دائم لإطلاق النار.
وهي رواية درامية حقا. لكن الأمر كله يتعلق بالأسباب المباشرة التي أفضت إلى أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والتي كانت قائمة لسنوات. ومع ذلك، يتعلق الأمر في نهاية المطاف بالتطهير العرقي الجاري منذ أمد طويل والجهد المبذول للسيطرة على احتياطيات النفط والغاز البحرية الضخمة.
مذكرة سرية عن ترحيل سكان غزة
بالكاد بعد أسبوع من هجوم «حماس» في 7 تشرين الأول، أعدت وزارة الاستخبارات الإسرائيلية مذكرة سرية. وهذه الوزارة هي التي تشرف على «الموساد» و»الشاباك»، تحت رئاسة رئيس الوزراء. وفي المذكرة المكونة من 10 صفحات، استندت ثلاثة خيارات تتعلق بالمدنيين الفلسطينيين إلى فرضية «إسقاط حماس» و»إجلاء السكان إلى خارج منطقة القتال»:
• الخيار أ: بقاء السكان في غزة تحت حكم السلطة الفلسطينية.
• الخيار ب: بقاء السكان في غزة، ولكن تحت حكم سلطة عربية محلية.
• الخيار ج: إجلاء السكان من غزة إلى سيناء.
ومن بين هذه الخيارات الثلاثة، أوصت المذكرة بالخيار «ج»: الترحيل القسري لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة إلى صحراء سيناء المصرية، باعتبار ذلك مسار العمل المفضل. وترى الوزارة أن مصر وتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وكندا ستدعم الخطة ماليا أو من خلال استقبال اللاجئين الفلسطينيين فيها كمواطنين.
وبعد أسبوعين من ذلك، تسربت المذكرة إلى وسائل الإعلام، وأثارت عاصفة دولية حول وجود «دعوة إلى التطهير العرقي». ومع ذلك، قامت بالترويج لهذا الخيار وزيرة الاستخبارات، جيلا غمليئيل، التي ادعت أن أعضاء الكنيست من مختلف الأطياف السياسية يدعمونه. لكن الاقتراح كان، من وجهة نظر إقليمية، حلم صيف بعيد المنال لم يشتريه أحد.
من المؤكد أن المراحل الأولى من الهجوم الإسرائيلي المضاد الذي سُمي «عملية السيوف الحديدية»، عززت الرأي القائل إن تهجير السكان أصبح الآن في الرأس والمقدمة.
من «القتل المستهدف» إلى الإبادة الجماعية
بعد يومين من هجوم «حماس»، صرح الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، بأن «التركيز ينصب على إيقاع الضرر وليس على الدقة». وكان ما أعقب ذلك هو التفويض الموسع للجيش الإسرائيلي بقصف الأهداف غير العسكرية، وتخفيف القيود المتعلقة بالخسائر المدنية المتوقعة، واستخدام نظام ذكاء اصطناعي لتوليد أهداف محتملة أكثر من أي وقت مضى.
ليست هناك علاقة على الإطلاق لما تسمى «عمليات القتل المستهدف» المفترضة بالحقائق على الأرض، حيث تحولت غزة إلى «مصنع للاغتيالات الجماعية». وكما اعترفت حتى الاستخبارات الأميركية، فإن ما يقرب من نصف الذخائر الإسرائيلية التي أسقطت على غزة كانت «قنابل غبية» غير دقيقة.
منذ 7 تشرين الأول، كان الهدف الاستراتيجي، الذي قبلته إدارة بايدن ضمنيا، هو تدمير البنية التحتية في غزة وإبادة أهلها وتقويض مستقبلها.
وبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يكافح للتقليل من أهمية المذكرة المذكورة التي أوصت بالتهجير، أدى تسربها إلى تفاقم التوترات الإسرائيلية المصرية. وفي الوقت نفسه، طرح مركز أبحاث مؤيد لحزب «الليكود» «خطة لإعادة التوطين وإعادة التأهيل النهائية في مصر لجميع سكان غزة».
لكن الحقيقة التي ينبغي قولها، هي أن خيار الترحيل ليس خبرا جديدا بالضبط. فقد تم في إسرائيل الكشف عن مثل هذه الأجندات مُسبقا منذ أكثر من ثلاثة عقود – وتم تنفيذها لأول مرة قبل أكثر من سبعة عقود.
التطهير العرقي منذ العام 1947
منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، قام «المؤرخون الجدد» الإسرائيليون – بمن فيهم بيني موريس، وإيلان بابيه، وآفي شلايم، وسيمحا فلابان – بمراجعة دور إسرائيل في طرد الفلسطينيين وإرغامهم على الفرار من وطنهم في العام 1948. وعلى النقيض من أسلافهم، جادل هؤلاء المؤرخون بأن التطهير العرقي تسبب فيما يسميه الفلسطينيون «النكبة» – أي تهجير الفلسطينيين وتجريدهم من ممتلكاتهم، وتدمير مجتمعهم. وحتى قبل هؤلاء المؤرخين، كان العديد من الباحثين والمفكرين الفلسطينيين مثل رشيد الخالدي، وعادل مناع ونور مصالحة، قد وصفوا النكبة بأنها عملية تطهير عرقي.
كان ما قسم المؤرخين الإسرائيليين الجدد هو مسألة ما إذا كانت الكارثة مخططة عمدا أم أنها كانت أضرارا جانبية لـ»خطة التقسيم» التي وضعتها الأمم المتحدة في العام 1947 و»استقلال إسرائيل» في العام 1948. وقام بالترويج لفكرة الضرر الجانبي بيني موريس، بينما تبنى إيلان بابيه فكرة التطهير العرقي المتعمد. وقد اعتمد موريس بشكل أساسي على المصادر العبرية، في حين استخدم بابيه كلا من المصادر العبرية والعربية.
في ضوء الأدلة التاريخية، رافق الطردُ العرقي مشروع الاستعمار اليهودي في فلسطين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر وبداية الحركة الصهيونية الحديثة، كما جادل بابيه مستشهدا بالوثائق. ولم يتم البت في عمليات الطرد هذه على أساس الوقائع، كما ادعى المؤرخون السائدون. بدلاً من ذلك، شكل تهجير الفلسطينيين وتجريدهم من ممتلكاتهم تطهيرا عرقيا مبيتا وفقا للخطة دالت (الخطة «د»)، التي وضعها قادة إسرائيل المستقبليون في العام 1947، مثل ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للدولة. ومن هذا المنظور، كان الهدف دائما، ولا يزال، هو «الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من فلسطين بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين».
واليوم، يتكون الفلسطينيون في إسرائيل والأراضي المحتلة والدول العربية المجاورة وفي جميع أنحاء العالم من أحفاد 720,000 من أصل 900,000 فلسطيني كانوا يعيشون في الأراضي التي أصبحت إسرائيل.
كما تُظهر الخريطة المرفقة، شكل الفلسطينيون في مرحلة ما قبل الانتداب البريطاني حوالى 90% من مجموع السكان وشكل اليهود البقية. وفي خطة التقسيم للعام 1947، منحت الأمم المتحدة 55% من فلسطين للدولة اليهودية الجديدة و45% للدولة العربية غير المتجاورة، في حين وُضعت القدس تحت السيطرة الدولية. وبحلول «استقلال إسرائيل» في العام 1948، كانت القوات اليهودية قد طردت بالفعل حوالى 750,000 فلسطيني بينما استولت على 78% من فلسطين التاريخية. أما نسبة الـ22% المتبقية فقد قُسمت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي حرب العام 1967، احتلت إسرائيل كل فلسطين التاريخية وطردت 300,000 فلسطيني آخرين.
من النزوح الديمغرافي
إلى الأهداف الاقتصادية
بعد شهر من بدء التدمير المنهجي الحالي لقطاع غزة، صرح وزير المالية اليميني المتطرف في حكومة نتنياهو، بتسلئيل سموتريتش، بأن «الهجرة الطوعية» للفلسطينيين في غزة هي «الحل الإنساني الصحيح». لن تتحمل إسرائيل بعد الآن «كيانا مستقلا في غزة».
وفي الوقت نفسه، ضغط نتنياهو على القادة الأوروبيين لمساعدته في إقناع مصر باستقبال اللاجئين من غزة، دون أن يحرز أي نجاح، حتى بينما كان يقلل من شأن الاقتراح المفضل لوزارة الاستخبارات، والقاضي بـ»إجلاء» جميع الفلسطينيين. وعلى النقيض من ذلك، قال وزير الخارجية المصري سامح شكري، إن بلاده ترفض أي محاولة لتبرير أو تشجيع تهجير الفلسطينيين إلى خارج غزة.
في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، تم تعريف التطهير العرقي في العام 1992 بأنه «سياسة هادفة صممتها مجموعة عرقية أو دينية لإبعاد السكان المدنيين من مجموعة عرقية أو دينية أخرى من مناطق جغرافية معينة بوسائل عنيفة تستلهم الإرهاب».
إن هذا النوع من التهجير الديمغرافي هو الدافع الكامن وراء جهود التطهير العرقي للفلسطينيين بشكل خاص منذ العام 1947. لكن الجهود الحالية لنقل السكان، سواء كان ذلك من غزة أو الضفة الغربية، لم تعد تمليها الأهداف الديمغرافية فحسب. منذ تسعينيات القرن العشرين، يبدو أن التطهير العرقي أصبح مدفوعا أيضا بأهداف اقتصادية.