الترامبية» وتعزيز معاداة الفلسطينيين
د. خالد الحروب ٦-٥-٢٠١٨م
«الفلسطينيون إرهابيون، وهم شعب مُخترع لا وجود له»، هذا ما قاله يوماً ما نيوت غنغريش اليميني الذي كان قريباً من ان يكون مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2012. قد ينُظر إلى هذا التصريح بكونه زلة لسان او «شطحة» مرشح رئاسي كل همه الحصول على دعم اللوبيات اليهودية في حملته الانتخابية. بيد أن نقمة غنغريش على الفلسطينيين ونعتهم بالإرهاب ونفي وجودهم كشعب عكست «ثيمة» مُستبطنة وظلت تترسخ مع السنين في دوائر صنع السياسة الأميركية، وبخاصة في مؤسستي الرئاسة والكونغرس. دونالد ترامب هو احدث ترجمات معاداة الفلسطينين في قلب المؤسسة الرسمية الأميركية، وفجاجته المباشرة في التعبير عن مواقفه تكشف ما كان يعتقده كثير من اسلافه لكن تمنعهم الديبلوماسية والحسابات السياسية من الذهاب إلى آخر الشوط في البوح بما يضمرونه تجاه الفلسطينيين. ليس في القول إن ثمة نزعة اميركية تتزايد يوماً بعد يوم يمكن وصفها بـ «معاداة الفلسطينين anti Palestinianism» تتشابه في مكوناتها العنصرية وحنقها على الفلسطينين بما تحويه معاداة اليهود anti Sematism. العداء في الحالتين كلاني وعام، فمثلاً لا يقول غنغريش ان «بعض» الفلسطينيين إرهابيون، بل كلهم رجالاً وأطفالاً ونساءً وكبار سن، وهذه التعميمية العنصرية تضمره معاداة اليهود.
ترامب لا يرى الفلسطينيين كجزء اساسي من الصورة عندما يتحدث عن إسرائيل او عن «الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» (بعد شطب البعد العربي)، او عن «صفقة القرن». ففي قلب تلك الصورة تتربع اسرائيل وتتمدد بكل الاتجاهات فلا تتبقى اية مساحات كي يظهر فيها «الآخرون». ترامب يسير على خطى غنغريش إذ لا يهتم بـ «الشعب المُخترع» فيقرر نقل السفارة الأميركية إلى القدس ناقضاً تعهدات من سبقوه بعدم اتخاذ هذه الخطوة. وهو ايضاً لا يرى اية حقوق للفلسطينين حتى في ما تبقى من ارضهم في الضفة الغربية ولا يدين الاستيطان، وسفيره المُتصهين في تل أبيب ديفيد فريدمان يعتبر ان الاستيطان حق من حقوق دولة إسرائيل، وهو الاستيطان الذي تضاعف بنسبة 600 في المئة منذ التوقيع على اتفاق اوسلو سنة 1993، وهو الاتفاق الذي كان من المفترض ان يفكك المستوطنات، فضلاً عن ان يسمح ببناء المزيد منها بوتيرة جنونية. ترامب وقيادة اركانه قرروا خفض المساهمة الأميركية في موازنة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا، في بداية واضحة لمحاولة إلغاء الوكالة برمتها تبعاً لإرادة وتصريحات بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي كرر مرات عدة ضرورة تفكيك وإلغاء الوكالة (بكونها الشاهد الحي على بقاء معضلة خمسة ملايين من اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في ملفاتها وتقدم لهم بعض الخدمات). ترامب هدد بوقف عمل مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وتخفيض الدعم المالي للسلطة الفلسطينية.
أين نعثر على جذور هذه المعاداة المتصاعدة للفلسطينيين في أوساط دوائر صناعة القرار الأميركي؟ بعض الجذور يفيدنا بها كتاب الباحثة الأميركية كاثلين كريستيسون «التصورات عن فلسطين وأثرها في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط» Perceptions of Palestine: their influence on the U.S. Middle East Policy، الذي كان قد صدر سنة 1999، ثم اعادت الباحثة نشره بعد سنتين مُحدثاً ومُضافاً إليه، وكنت قد نشرت عنه مراجعة مطولة في «كامبردج بوك ريفيوز» في حينها. ولأن الكتاب صدم كثيراً من المسلمات الأميركية والغربية ونقضها إزاء فلسطين والفلسطينيين فقد تعرض لإهمال ملفت كغيره من الدراسات الشجاعة والجريئة التي فاض بها كيل الانحياز الغربي للمشروع الصهيوني. الكتاب ناقش فعل وتأثير التصورات المترسخة سواء عند السياسيين أو الرأي العام حول فلسطين في تشكيل السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، وبحث في تكون «الإطار المرجعي» لتلك التصورات. والمؤلفة كاثلين كريستيسون هي صحافية أميركية عملت سابقاً كباحثة في المخابرات المركزية الأميركية، وهي متخصصة في الشرق الأوسط وكتبت عنه طيلة الخمسة والعشرين عاماً التي سبقت نشرها الكتاب. وبهذا فنحن أمام خبرة متراكمة ومتعددة الجوانب، بحثية وأكاديمية وذات بوصلة أمنية وسياسية. ومن هنا فإن كتاب كريستيسون عكس عمقاً وفهماً للشرق الأوسط وللولايات المتحدة وسياستها أزعج كل الذين لا يريدون لهذا العمق والفهم أن ينتشرا في الأوساط الغربية.
لا تتردد كريستيسون في اعتبار سياسة الولايات المتحدة منحازة بشكل مضر لإسرائيل وأن هذه السياسة تسببت في إطالة عمر الصراع العربي الإسرائيلي لسبب أساسي وهو إنصات الولايات المتحدة للصوت الإسرائيلي وعدم السماع للطرف الآخر الفلسطيني. غير أن الموقف الرسمي الأميركي لا يختلف عن الموقف الشعبي، وهو الأمر المثير للدهشة، والذي تنخرط كريستيسون في تحليل أسبابه وفي الغوص في عمق المخيلة العامة التي تحفل بالصور والإدراكات المشوهة عن فلسطين والفلسطينيين. ومن أجل الحفر في آركيولوجيا تلك المخيلة وصورها «الفلسطنيية» فإنها تعود بنا إلى رحلات الغربيين الاستكشافية إلى فلسطين في القرن التاسع عشر والكتابات التي كتبوها عن رحلاتهم تلك ونشروها وشكلت بالتالي إحدى أهم الأرضيات المؤسسة للتصورات الأميركية العامة عن فلسطين. فمثلاً تتساءل المؤلفة عن أثر كتابات رحالة مثل مارك توين عن فلسطين في أعقاب رحلاته إلى «الأرض المقدسة» في تخليق التصورات السلبية عن فلسطين وسكانها الأصليين عندما يصفهم بأنهم «شحاذون قذرون بالطبيعة، أو بالفطرة، أو بالتعلم» (ص 16). وتضيف المؤلفة أن مقولات توين وغيره عن فلسطين الجرداء وقراها الكالحة وسكانها البلهاء، مقابل الإزدهار والزراعة والتطور التي حلت بالبلاد مع الهجرات اليهودية هي الصور التي كررتها ماكينة الإعلام الصهيوني وكذا الأميركي ونسجت حولها مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وبهذا فإن المخيلة الأميركية كانت قد صارت معبأة من ناحية تاريخية ضد سكان فلسطين حتى قبل قيام المشروع الصهيوني. وما تناقشه كريستيسون في كتابها هذا أنه بالإضافة إلى التصورات الكريهة التي رسمها هؤلاء الرحالة والمؤرخون عن فلسطين والفلسطينين، فإن خلفية الاعتقاد المسيحي البروتستانتي حول البعد الديني لقيام دولة إسرائيل بخاصة في أوساط المسيحية الصهيونية، كما الأثر الذي خلفته الهولوكوست على صعيد خلق تعاطف عريض مع يهود أوروبا و «أحقيتهم بوجود وطن خاص بهم»، كل ذلك يشكل الأرضية الصلبة التي تنبني عليها السياسة الخارجية الأميركية سواء كان منفذوها ديموقراطيين أم جمهوريين. وخلاصة ذلك كله كان نشوء علاقة عضوية وطيدة بين الولايات المتحدة ومشروع إقامة إسرائيل يتعدى بأشواط كبيرة ما يعتقده البعض من أن العلاقة هي علاقة تحالف بين دولتين، بل إن ما يعرضه الكتاب هو أن إسرائيل تكاد تكون جزءاً من «الحلم الأميركي» على المستوى الشعبي والنخبوي على حد سواء، كما أن الولايات المتحدة بالنسبة إلى إسرائيل ليست هي الحليف الأول فحسب بل الحاضنة والمستودع العاطفي والتكاملي مع المشروع. وتلفت المؤلفة الانتباه إلى الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تخرج عن خط النظر إلى الشرق الأوسط من خلال البوصلة الإسرائيلية، بل وأن المستشارين والخبراء الذين أحاطوا بكل إدارة كانوا على أتم الإدراك بأن ما يضمن بقاءهم قريبين من صناع القرار هو إسماع القياديين ما يودون سماعه حول الشرق الأوسط وأن لا يقدموا رؤى وآراء مخالفة للإجماع العام المؤيد والمتعاطف مع إسرائيل بلا حدود. ونرى اليوم في حقبة «الترامبية» تفاقماً غير مسبوق لسيطرة مؤدي إسرائيل على مؤسسة الرئاسة، من الرئيس نفسه، إلى نائبة المسيحاني المؤمن بإسرائيل، إلى وزير خارجيته الجديد ومستشاره للأمن القومي المعروف بهوسه ضد الفلسطينين والعرب والمسلمين، بل وكل ما هو غير أميركي.
بعد تأسس إسرائيل أصبح الالتزام الأميركي بوجود الدولة الجديدة قريباً من الواجب الديني، كما ترسخت الصورة الرومانسية في المخيلة الأميركية حول تحقق النبوءة الإنجيلية بعودة اليهود إلى القدس. وفي المقابل اختفى الفلسطينيون من المشهد كلياً، فلا مئات الألوف من اللاجئين الذين طردوا إلى الخارج، ولا معاناة من تبقى منهم في الداخل أستحقت أن تكون موضوعاً يشغل بال الأميركيين. بل إن الصورة حول العرب كبدائيين ومتخلفين وشعب لا يستحق الحياة كانت تمثل إحدى الخلفيات التي بنيت عليها السياسة الخارجية وما زالت حتى الآن. ولذلك فإن عهود الرؤساء كندي، وجونسون ونيكسون وفورد وصولاً إلى بوش وليس انتهاء بترامب لم تكن إلا ترجمة للمخيلة والتصورات العامة الأميركية حول فلسطين والفلسطينين وحول الوعد الإلهي للشعب المختار بمنحه أرض فلسطين. الحنق على الفلسطينين هو الحنق ذاته على الهنود الحمر الذين «حدث وأن» ألقت بهم الأقدار في وجه حركة التاريخ والرب التي أقامت الولايات المتحدة جالبة النور للعالم. القصة والسردية الكبرى هي في قيام الولايات المتحدة، اما إبادة عشرات الملايين من الهنود الحمر أهل البلاد الأصليين فهي ليست سوى تفصيل هامشي. وهكذا الفلسطينيون الذين يستحقون الحنق والكراهية بسبب بروزهم في وجه سردية وقصة إسرائيل «المُدهشة»، ولا بأس من دوسهم أو حتى إبادتهم إن لزم الأمر بكونهم مجرمين جميعاً كما وصف ليبرمان وزير الدفاع الإسرائيلي المليوني فلسطيني في قطاع غزة بأن ليس بينهم أبرياء! في حقبة «الترامبية» المعادية للفلسطينين لم يعلّق أي مسؤول أميركي أو حتى غربي على تصريح ليبرمان العنصري والإبادي، بخلاف الانفجار الإعلامي والإدانات التي وقعت إزاء زلة الرئيس الفلسطيني محمود عباس عن اليهود في تاريخ أوروبا.