الاحتمالات المستقبلية لتفاعلات الأزمة الليبية
بقلم : حسين معلوم، الحياة ٢٩-٣-٢٠١٨م
أن يُعلن مبعوث الأمم المتحدة، غسان سلامة، أمام مجلس الأمن أخيراً أن «بوادر أزمة مادية ونقدية تلوح في الأفق في ليبيا»، فهذا تقرير عن واقع التردي الذي وصلت إليه الأمور في هذا البلد العربي، الذي يزيد فيه إنتاج النفط عن مليون برميل يومياً؛ وهو، في الوقت ذاته، ما يُثير التساؤل حول لِمَ يتسبب الإنتاج النفطي في مزيد من التدهور الذي يطاول مستوى معيشة المواطن الليبي؟ وهو، أيضاً، ما يؤشر إلى ما تتعرض له عوائد النفط من سوء الاستثمار، فضلاً عن المؤسسات المالية التي تعاني من الانقسام، والإنفاق الحكومي الذي يعاني من التضخم.
ثم، أن يتزامن مع تصريحات سلامة، فشل الجولة السادسة من اجتماعات توحيد الجيش الليبي، التي جمعت في العاصمة المصرية، القاهرة، قادة عسكريون تابعون لقائد «الجيش الوطني»، المشير خليفة حفتر، مع نظراء لهم موالين لحكومة الوفاق الوطني التي يرأسها فائز السراج، فهذا تقرير آخر عن واقع الانقسام الذي تشهده الساحة الليبية، على أكثر من مستوى، في مقدمها المستوى العسكري؛ ما يدفع إلى حال من التشاؤم حول إمكانات اللجان الفنية الأربع، التي تشكلت خلال الجولات الست الماضية، فيما سُميَ بمسار القاهرة، لجهة استكمال عملها بشأن آليات التنفيذ والتطبيق الفعلي للمشروع الوطني لتوحيد الجيش الليبي؛ وهو، أيضاً، ما يؤشر إلى صعوبة، إن لم تكن استحالة، إلحاق قوات حفتر وضباطه بقيادة الجيش الموالي لحكومة الوفاق، أو العكس بوضع هذه الأخيرة تحت القيادة الفعلية للمشير.
قولنا الأخير هذا تدل عليه، وتؤكده، محاولة بعض الأطراف الدولية خصوصاً الأوروبية، فضلاً عن بعض القوى الإقليمية، اختزال الأزمة الليبية بين شخصي السراج وحفتر، ما يُمثل أحد أهم العوامل التي تؤسس إلى مزيد من تعقيدات المشهد، وهي مسألة مقصودة، إذ إن الوضع في ليبيا بات يُمثل تهديداً للأوروبيين، بسبب وجود تنظيمات سلفية جهادية ومتطرفة، فضلاً عن تصدير الهجرة غير الشرعية عبر سواحلها إلى جنوب أوروبا، إضافة إلى احتمال وجود نقص حاد في إمدادات الغاز والنفط لبعض دول الاتحاد الأوروبي، وأبرزها إيطاليا، بسبب سيطرة الميليشيات المُسلحة على بعض مرافئ وحقول تصديرهما.
وبعيداً من محاولات شخصنة الأزمة، ومدى نجاحها النسبي، فإن الساحة الليبية تشهد انقساماً سياسياً وعسكرياً منذ سقوط نظام القذافي قبل ما يزيد على سبع سنوات، أسفر عن حكومتين وبرلمانين، إضافة إلى جماعات قبلية وميليشيات متنافسة ومتناحرة في طرابلس غرباً، وطبرق والبيضاء شرقاً، إضافة إلى الجنوب الليبي الذي يشهد بين الحين والآخر مواجهات عسكرية بين الكتائب المرتبطة بالقبائل هناك.
ولا عجب، والحال هذه، أن يثور التساؤل حول مستقبل ليبيا، ليس فقط من منظور العوامل الدافعة إلى الفوضى هناك، ولكن أيضاً من حيث إن ما يحدث على هذه الساحة من تجاذبات واستقطابات، حادة، بين أطراف «المعادلة الليبية»، هو في أحد تجلياته، تعبير عن امتدادات لتناقض المواقف والمصالح بين أطراف فاعلة عربياً وإقليمياً ودولياً. وفي نظرنا، وتبعاً لما يؤشر إليه الوضع الليبي، وتحركات القوى «الفاعلة» على الساحة هناك، فإن ثمة احتمالات مستقبلية ثلاثة تلوح في الأفق. أولى هذه الاحتمالات، هو تفكك ليبيا إلى أقاليم ثلاثة، برقة وفزان وطرابلس، وهو ما يعني الانهيار الكامل للدولة الليبية. إلا أن هذا أمر بعيد المنال، نتيجة عدد من العوامل، منها: غياب عامل الاختلاف الديني، إذ إن ليبيا دولة مسلمة سُنِّية، ولا وجود لديانات أخرى بها، إلا من الأجانب، فضلاً عن غياب عامل الاختلاف العرقي، فالأغلبية المطلقة من الليبيين عرب. أما العامل الوحيد الذي يلعب عليه بعض الأطراف فهو التاريخ البعيد، أيام كانت ليبيا عبارة عن أقاليم ثلاثة، قبل أن تتوحد في إمارة واحدة تحت اسم ليبيا. ومن ثم، فإن الوحدة الوطنية، التي لم يستطع نظام القذافي أن يتحول بها من الوضعية القبلية إلى الاندماج الوطني، قد لا تصمد كثيراً أمام استمرار العبث بحقوق بعض مكوناتها، أو استمرار تعامل «السلطات» الحاكمة بمفهوم يختزل ليبيا في مدينة طرابلس وما يجاورها.
الاحتمال الآخر، يتمثل في تحول ليبيا إلى دولة فيدرالية، تتمتع فيها الأقاليم الثلاثة بالحكم الذاتي، في إطار سلطة عامة تحكم البلاد. إلا أن غياب هذه الأخيرة، وكذلك غياب المؤسسات الأمنية المركزية، مثل الجيش، التي يمكن أن تُمثل الرابط الأساس بين الأقاليم، فضلاً عن عدم وجود قاعدة التوافق بين القوى السياسية حول الفيدرالية، كل ذلك يجعل من هذه المسألة، كنظام سياسي للحكم، أمراً يصعب تنفيذه على الأقل في المدى الزمني القريب. ضمن أهم المؤشرات على ذلك، تأتي التباينات الواضحة حول الفيدرالية بين الفاعلين المحليين. إذ، بينما يُفضل زعماء الغرب الليبي الحفاظ على الدولة المركزية، التي تُمثل طرابلس مرتكزها الرئيس، تضغط قيادات الشرق والجنوب باتجاه اللامركزية، وهو اتجاه يجد صداه لدى بعض الأصوات الانفصالية، الداعية إلى فك الارتباط بالعاصمة طرابلس، في محاولة لتقوية النفوذ القبلي والجهوي والمناطقي.
أما الاحتمال الأخير، فهو الإبقاء على ليبيا دولة منزوعة السيطرة على مناطق داخلها، لضعف تأثير الوظيفتين الأمنية والتنموية، وسيطرة الميليشيات المسلحة على مناطق بعينها. إذ، من بين الدول العربية التي شهدت ثورات على أنظمة الحكم فيها، وإسقاط رؤوسها، انفردت ليبيا بظاهرة الميليشيات المسلحة؛ وهي الظاهرة التي ساهمت في ذلك التدهور الأمني وعدم الاستقرار السياسي طوال السنوات السبع الماضية. يتوازى مع ذلك تفكك السلطة وتبعثرها بين القوى السياسية المتناحرة، في ظل غياب حكومة قوية تستطيع السيطرة على الأوضاع في البلاد. ولعل هذا الاحتمال هو الأقرب إلى الحالة الليبية، على الأقل في المدى الزمني القصير.
نقول إن هذا الاحتمال هو الأقرب، لما يبدو بوضوح من أن القوى الغربية عموماً، والولايات المتحدة بشكل خاص، تحاول التملص، أو تحديداً: التنصل، من مسؤولياتها تجاه ما يحدث على الساحة الليبية، من فوضى وعدم استقرار وتشاحنات داخلية ومواجهات عسكرية؛ بل، وتحاول أن تتناسى مسؤوليتها في ما حدث ومايزال يحدث.
وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، وعما يسميه البعض بالتفكير «الخرافي» للعقل العربي، فإن الواقع يشير إلى حلف شمال الأطلنطي، الذي أدخل ليبيا إلى هذه الأزمة التي تكاد أن تُمزق البلاد، عندما تدخل عسكرياً في ليبيا، ثم تركها لتنشغل في حروب وصراعات داخلية، واضعاً نصب أعينه العودة إلى هذه الساحة بموقعها المتميز استراتيجياً، ومواردها التي يحتاج الغرب إليها، في حال خرجت الأزمة الليبية عن «السيطرة».
وفي ما يبدو، هكذا، لنا أن نتصور مدى ما يمثله الوضع المتردي على الساحة الليبية من تهديد حقيقي، ليس لبنية الدولة الليبية، سياسياً واجتماعياً وعسكرياً؛ ولكن، وهذا هو الأهم، مدى ما يمثله ذلك من عامل خطورة على الوضع العام بالنسبة إلى الدول المجاورة لليبيا؛ خصوصاً إذا لاحظنا التمدد القبلي عبر الحدود بين ليبيا وجيرانها: مصر في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب، وتشاد والنيجر ومالي في الجنوب.
وبالتالي، فإن الذي نود تأكيده أنه لا يُمكن العرب عموماً، ولا يُمكن دول الجوار الليبي العربية خصوصاً، ترك هذا البلد ومستقبله للآخرين، ولنا في العراق والصومال والسودان نماذج صارخة على تداعيات ترك الآخرين، الأوروبيين والأميركيين، لكي يحددوا مستقبل هذا البلد العربي: ليبيا. وبكلمة: «ليس كل التاريخ مؤامرة، ولكن المؤامرة توجد في التاريخ».