الإيكونوميست – الديمقراطية وتداعياتها : التونسيون يفقدون إيمانهم بصندوق الاقتراع
تقرير خاص – (الإيكونوميست) 18/1/2018
على الرغم من بذل قصارى جهوده، عندما زار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي حي “التضامن” يوم 14 كانون الثاني (يناير) الحالي، فإنه لم يولِّد الكثير من الانسجام. وكانت الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق قد اندلعت قبل أسبوع من ذلك في كل أنحاء تونس، والعديد منها في مناطق مثل “التضامن”؛ الحي الذي تقطنه الطبقة العاملة في تونس العاصمة. ومع أن الاحتجاجات كانت سلميَّة في النهار، فإنها أصبحت قبيحة في الليل؛ حيث قام المشاغبون بإحراق مراكز الشرطة وتحطيم مراكز التسوق. وبعد ساعات من مغادرة السيد السبسي حي التضامن، اندلعت أعمال الشغب هناك مرة أخرى، تاركة الشوارع ممتلئة بالعبوات المنفجرة للغاز المسيل للدموع.
كان الذي قدح شرارة هذه الموجة الجديدة من العنف هو حزمة من الزيادات الضريبية التي أثرت على أسعار عشرات السلع الاستهلاكية، والتي دخلت حيز التنفيذ في الأول من كانون الثاني (يناير). كما أن أسعار الوقود التي كانت تتلقى دعماً كبيراً، ارتفعت أيضاً. وتقول الحكومة إنها تحتاج إلى تقليص عجز الموازنة الذي يعادل 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وإن العديد من تدابير التقشف الجديدة تستهدف الأغنياء -حيث ارتفعت أسعار النبيذ، على سبيل المثال، بشكل حاد. ولكن، كذلك فعلت أيضاً أسعار السلع الضرورية والأساسية، مثل الخبز وبطاقات الهاتف.
على أمل الحيلولة دون وقوع المزيد من الاضطرابات، أعلنت الحكومة أنها ستنفق 100 مليون دينار إضافية (نحو 40 مليون دولار) على مدفوعات الرعاية الاجتماعية لهذا العام. كما أن من المقرر أن تتم زيادة المعاشات التقاعدية أيضاً، إلى جانب استحقاقات الرعاية الصحية للعاطلين عن العمل. وسوف تحصل الأسر الفقيرة على ما لا يقل عن 20 في المائة من الزيادة في المساعدات -ولو أن ذلك سوف يعني للكثيرين تلقي مجرد 13 دولاراً إضافية في الشهر. وما تزال حتى الرواتب الأكبر تحت مستوى الـ240 ديناراً التي يعتبرها الاقتصاديون الراتب الشهري المعقول للعيش. ويقول سامي بيشيني، الموظف المدني المتقاعد: “إنه أمر مضحك. سوف يحتاجون إلى مضاعفة راتبي التقاعدي حتى أشعر بالراحة”.
على الرغم من أن التنازلات فشلت، فقد كان الإكراه فعالاً؛ حيث اعتقلت الشرطة أكثر من 800 شخص، من بينهم مدونون وناشطون، وتم نشر الجيش في بعض المناطق النائية. وقد خفتَت الاحتجاجات، في الوقت الحالي على الأقل. وكانت قد اجتذبت -حتى في ذروتها- عشرات الآلاف من المؤيدين فحسب؛ وظلت بذلك بعيدة كل البعد عن حجم الاحتجاجات الجماهيرية الهائلة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، الدكتاتور الذي حكم تونس لوقت طويل، في العام 2011. ومع ذلك، تشكل الاضطرابات واحداً فقط من أعراض مشكلة أكثر عمقاً بكثير.
بعد سبع سنوات من اندلاع الثورة، أصبح الكثير من التونسيين يفقدون إيمانهم بعملية الانتقال الديمقراطي التي كان القصد منها جلب قدر أكبر من الازدهار إلى البلاد. وقد وجد استطلاع أجراه المعهد الجمهوري الدولي، وهو مجموعة أميركية مؤيدة للديمقراطية، أن معظم التونسيين يعتقدون بأن البلد يذهب في الاتجاه الخاطئ. وعندما سئلوا عما إذا كان الازدهار أم الديمقراطية هو الأكثر أهمية، اختار الثلثان تقريباً الازدهار.
في المقابلات، ليس من غير الشائع أن نسمع نغمة الحنين -إن لم يكن لزين الدين بن علي، فلسلفه، الحبيب بورقيبة، الذي حكم البلاد 30 عاماً حتى 1987. ويستحضر الكثيرون ذكرى اضطرابات الخبز في الثمانينيات، والتي تسبب بها -مثل الاحتجاجات الحالية- خفض الإعانات المرتبط بالمحادثات مع صندوق النقد الدولي. وقد انتهت تلك الاضطرابات عندما ألغى الحبيب بورقيبة الخفض. وتقول سهام بن سدرين، التي ترأس لجنة الحقيقة والكرامة الوطنية: “فضيلة الدكتاتورية هي أن هناك سلطة للدولة. إنه أمر سيئ، لكنه يعمل. الناس يعتقدون أن الديمقراطية تساوي الفوضى”.
كانت تونس قد أجرت انتخابات برلمانية نزيهة في غضون عام من هروب الرئيس بن علي. وفاز حزب النهضة الإسلامي بأغلبية في المجلس التشريعي وقام بتشكيل تحالف. ثم فعل شيئاً أكثر أهمية: تنحى في العام 2014 بعد سلسلة من الاغتيالات السياسية التي أغرقت البلد في أزمة. وعندما حلّت حركة “نهضة تونس”، وهي كتلة من الأحزاب العلمانية، في المركز الأول في الانتخابات التالية، انضم حزب النهضة إلى تحالفها. ومع أن منظمة “فريدوم هاوس” وضعت تونس في مكان منخفض في مسحها الأخير للحريات في العالم، فإنها كانت الدولة العربية الوحيدة التي جاءت تحت تصنيف “حرة”.
مع ذلك، وبدلاً من تعزيز المضي قدماً بالانتقال الديمقراطي، تقوم النخب السياسية بتعطيله. فبعد أربع سنوات من اعتماده دستوراً جديداً، لم يقم البرلمان بتعيين محكمة دستورية بعد. ولا يستطيع المشرعون الاتفاق على القضاة الذين يُراد تعيينهم. كما لم تعقد تونس انتخابات محلية، والتي كان من المقرر أن تُعقد في العام 2016، لكنها تأجلت أربع مرات، ومن المقرر حالياً أن تُجرى مبدئياً في أيار (مايو) المقبل. وتخشى كتلة “نداء تونس” من تلقي ضربة من حزب النهضة الأفضل منها تنظيماً. ويضع كل من الحزبين عينيه على الانتخابات الوطنية في العام 2019. ومع ذلك، يظل الحكم المحلي الرشيد شأناً ضرورياً في بلد يتسم بالتفاوت العميق بين المناطق الداخلية الفقيرة وبين منطقة الساحل المزدهرة نسبياً.
يعمل الرئيس السبسي والسيد راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة، كنوع من الثائي الحاكم، بدعم من النقابات العمالية القوية. ومع ذلك، يصبح المشهد السياسي تحت هذين الزعيمين المسنّين أكثر تعقيداً باطراد. فقد خسرت كتلة نداء تونس أغلبيتها في العام 2016، عندما انشق نحو عشرين من نوابها في البرلمان لتشكيل كتلة مناهضة للإسلاميين. ومن جهته، أزعج حزب النهضة ناخبيه المنتمين إلى الطبقة العاملة بشكل كبير بسبب عمله في حكومة رفعت الضرائب، وخفضت المعونات، وجمدت التوظيف في القطاع العام. ويقول السيد الغنوشي: “جعلَنا ذلك نخسر الأصوات. لقد وضعنا كل رهاناتنا على تحالف مع خصوم الأمس”.
ومن ناحية أخرى، شهدت الانتخابات الفرعية سيئة الإعداد التي جرت في كانون الأول (ديسمبر) المغتربين المغاربة في ألمانيا وهم يشهدون فوز مدون من دون انتماء حزبي بمقعد. وفي استطلاعات الرأي، لم يكن السياسي الحائز على أكبر قدر من الثقة أياً من السيد الغنوشي أو السيد السبسي، وإنما كان رئيس الوزراء الشاب يوسف الشاهد. وكان الشاهد عضواً عادياً في “نداء تونس” قبل أن يقفز إلى رئاسة الوزراء في العام 2016. وهو يعمل الآن على تأسيس حركته السياسية الخاصة قبل موعد الانتخابات في العام المقبل.
ولكن، حتى ذلك الحين، سوف يكون السيد الشاهد بمثابة الوجه الظاهر أمام الجمهور للإصلاحات الاقتصادية المؤلمة. وفي الوقت الراهن، تلتهم رواتب القطاع العام نحو 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي؛ وتضم المؤسسات غير الكفؤة التي تديرها الحكومة عدداً كبيراً جداً من الموظفين (وما لا يكفي من العوائد). وينبغي أن يتقلص الاثنان معاً. وتحتاج الحكومة إلى القيام بعمل أفضل لتسويق هذه التغييرات. وفي المدى القصير، يمكن أن تساعد المعونات على تخفيف بعض ردود الفعل الارتدادية. لكنها تحتاج في نهاية المطاف إلى إظهار بعض التقدم، أو أن اضطرابات أوسع نطاقاً ستظل تلوح في الأفق. ويقول السيد الغنوشي: “كانت لدينا تسع حكومات في سبع سنوات، وكانت النتائج الاقتصادية هي نفسها مع كل واحدة منها”.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان :
Democracy and its discontents: Tunisians are losing faith in the ballot box
ترجمة علاء الدين أبو زينة – الغد – 1/2/2018
ala.zeineh@alghad.jo