ترجمات أجنبية

الإندبندنت  – روبرت فيسك – الانتفاضة اللبنانية لن تغير أي شيء طالما تشبثت النخب الطائفية بالسلطة

الإندبندنت  – روبرت فيسك * –  24/10/2019 

الطريقة الوحيدة لإنشاء دولة حديثة هي التخلص من المحاصصة الطائفية. ولكن بعد ذلك، سوف يتوقف لبنان، الذي هويته نفسها طائفية، عن الوجود.

*****

بيروت- الإطارات المحترقة لا تصنع ثورة. الصور جيدة، واللقطات التلفزيونية مثيرة. والكلمات الشجاعة تبدو جيدة، لكن التصريحات لا تسقط الحكومات.

وبالتأكيد ليس الحكومة اللبنانية التي كانت نخبها الطائفية تدير بلدها في حفرة كريهة من الفساد منذ أن قرر الانتداب الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى أن لبنان يجب أن يكون دولة طائفية، تدار بتقسيم المسيحيين والمسلمين والشيعة في اتفاق مشترك قائم على التعصب الوطني، والخوف، والغيرة وعدم الثقة. (ولنتذكر أن البريطانيين فعلوا الشيء نفسه في فلسطين وقبرص -نعم، وأيرلندا الشمالية أيضاً. كما فعله الفرنسيون في سورية).

ولا يتعلق الأمر بمجرد الكليشيهات القديمة عن سياسة “فرق تسد”. كنا نحن الغربيين دائماً خبراء في قدرتنا على أن نكون “منصفين” تجاه الأقليات والأغلبيات من خلال وضعهما في مواجهة بعضهما البعض في علاقة بديعة من الحب والشك. انظروا إلى إنشاء أميركا لدولة العراق الشيعية -لن نذكر الأقليات الكردية في هذه المرحلة- لكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة بالنسبة لي بشأن الانتفاضة اللبنانية الأخيرة ليس الاحتجاج على ضرائب “واتساب” والبطالة والسرقات الحكومية، وإنما أن اللبنانيين، في بلدهم الصغير والجريح، بعد كل إراقة الدماء والإخفاقات والديكتاتورية المستمرة التي أنجبتهان ثورات العام 2011 في الشرق الأوسط، ما يزالون يعتقدون بأنهم قادرون على النضال وإحداث فرق. إليكَ هذه الشجاعة!

لقد اعتقدت دائماً أن اللبنانيين، بمئات الآلافهم، هم الذين أجبروا الجيش السوري على مغادرة لبنان في العام 2005، بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وهو ما أدى إلى اشتعال الثورة الشعبية في إيران ضد الرئيس محمود أحمدي نجاد. أحمدي نجاد (الذي تخطى ترامب تقريباً) وألهم في النهاية التونسيين والمصريين وجميع إخوانهم العرب. كان هذا هو الإنجاز اللبناني الأعلى في تاريخ الشرق الأوسط الحديث -حتى لو أنهم لا يعرفون ذلك. كانوا أول من يقول “لا” في وجه السلطة.

يبقى اللبنانيون، مقارنة بأخواتهم وإخوانهم العرب، أفضل تعليماً. والحمد لله على أن الجيش اللبناني ليس الجيش المصري أو العراقي، اللذين أطلقا النار على محتجيهم ومتظاهريهم وأردوهم في شوارع مدنهم.

ويمكنك أن تأخذ هذا أبعد، إلى السوريين والجزائريين. وإذا انتقلت إلى خارج العالم العربي، إلى الإيرانيين: الذين أعطوا الأجهزة الأمنية الإيرانية إذناً باغتصاب وإعدام المعارضين لأحمدي نجاد في سجون البلاد؟

 ولكن عندئذٍ، ما هو مثالنا “المتحضر”؟ ما هو الفرق بين التعذيب الذي مارسته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في “موقع أسود” وبين مركز استجواب مصري؟

 يبدو أن الجيش اللبناني وزملاءه في مجال الأمن العام هم من بين أكثر مؤسسات لبنان لا طائفية -فلنُصلّ حتى يبقى على هذا النحو- وهم يتصرفون من أجل دولتهم، وليس الدويلات الصغيرة التي أنشأها قادتهم السياسيون على مدار عقود.

في الواقع، لم يكن أحد الأحداث الأكثر غرابة واستثنائية في الأيام القليلية الماضية هو غضب العاطلين عن العمل أو أولئك الذين وجدوا أن صوتهم في “واتسأب” سيخضع للضريبة (فيما يدل على بلاهة الحكومة)، وإنما عندما قام أولئك في جنوب وشرق لبنان، لأول مرة، بانتقاد وإدانة حزب الله.

فجأة، وجد السيد حسن نصر الله، زعيم حزب الله، نفسه وهو يواجه سكاناً لبنانيين من جميع الأديان وهم يسألونه لماذا لم يدافع عن الشعب اللبناني أمام الفقر والإحباط. ألم يكن اللبنانيون جديرين بالحماية مثل السوريين، الذين حارب مقاتلو حزب الله وماتوا من أجلهم لسنوات حتى الآن؟ وقد فعلوا ذلك بشجاعة كبيرة، ولكن، ألا يستحق لبنانيون مُعدمون (سواء كانوا شيعة أو سنيين أو مسيحيين) نفس القدر من العناية والمحبة مثل جيرانهم؟

 كان توجيه الانتقادات إلى نصر الله حدثاً غير مسبوق، أكثر إدهاشاً من أي شيء حدث في هذه الأيام السبعة الأولى من الاحتجاجات في لبنان. أو حتى في الثلاثين سنة الماضية. لا يمكن لأحد أن يتوقع بعد الآن أن يكون في مأمن من غضب الناس في لبنان.

وهكذا، ثمة الآن مسألة مهمة. إن النخب السياسية من أي دين تتشبث بالسلطة، سواء كان ذلك رئيس الوزراء اللبناني (سني)، والرئيس (ماروني)، ورئيس البرلمان (شيعي). ويحدث هذا، بأشكال مختلفة، في جميع أنحاء الشرق الأوسط بأكمله -بما في ذلك في إسرائيل. وتبدو مخالب هؤلاء مدفونة عميقاً في الأرض الطرية لبلاد الشام، وفي رمال العراق، وجبال الجزائر. إنهم لا يتخلون عن السلطة.

لقد عاشت هذه النخب من خلال مساواة ملكيتها للعقارات بالوطنية؛ وانتمائها الديني بقسم من الناس الذين يتقاسمونه معها. كان ما قاله الكثير من المتظاهرين في لبنان خلال الأيام السبعة الأولى من الاحتجاجات -والكثير من هؤلاء المتظاهرين اختبروا الحياة في الغرب، حيث لدينا أيضاً نخب سياسية، ولكننا نستطيع أن نقيلها على الأقل- هو أن السلطة السياسية في هذه المنطقة تصون نفسها من خلال إخبار مواطنيها وأعضاء حزبها بأنهم جميعاً محميون من قِبل الدولة، لكنهم سيكونون محميين أكثر بكثير إذا هم صوتوا لزعمائهم الطائفيين. هذه هي الطريقة التي تعمل بها المحاصصة الطائفية.

لماذا يكون وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل -الشخصية المكروهة أكثر ما يكون لهذه المظاهرات- صهر الرئيس؟ لماذا يكون رئيس الوزراء سعد الحريري نجل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري؟ ويستمر هذا ويستمر.

 (لماذا، كما قد تسأل، يكون رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو نجل رئيس الوزراء السابق لتلك الدولة، بيير ترودو؟ لكنهما فازا كلاهما بالسلطة من خلال الانتخابات، وليس من خلال العصبة، ولماذا لم يتحدد خيار إذا ما كان يجب أن يكونا في السلطة على أساس انتمائهما الديني).

هناك وزراء نزيهون في لبنان. كان وزير العمل، كميل أبو سليمان، الذي استقال بشرف من الحكومة بسبب الاحتجاجات، غنياً جداً بشكل مستقل لدرجة أنه رفض أن يتقاضى راتباً. ولكن، كما سألني شاب أمس، بعد أن طُرِد للتو من عمله في منطقة الحمرا للتسوق في بيروت لأنه شارك في المظاهرات: لماذا يخلف السياسيَّ ابنُه، ثم ابن ابنه؟ ونحن جميعاً نعرف الجواب.

كنتُ قد قلت منذ فترة طويلة أنك إذا قمت بإنشاء دولة طائفية، فإنها ستبقى دولة طائفية. بغض النظر عن عدد القلاع الصليبية، والآثار الرومانية والطعام الجيد التي تكون لديك في العالم العربي، فإن الطريقة الوحيدة لإنشاء دولة حديثة هي إلغاء المحاصصة الطائفية بحيث يمكن لأي شخص أن يستلم السلطة.

لكنك إذا أزلت المحاصصة الطائفية من لبنان، فإنه سيتوقف عن الوجود. لأن الطائفية هي هوية لبنان نفسها.

لذلك، نعود إلى المشكلة القديمة. يمكنك الاستمتاع بالجلوس في سيارة “رولز رويس” بمقاعد جلدية خضراء، لكنها لن تتحرك مطلقاً إذا كانت لها عجلات مربّعة. وهكذا، شاهد هذه النسخة الجديدة من الثورة اللبنانية. وتفقد الـ”رولز رويس”.

*صحفي بريطاني هو حالياً المراسل الخاص لمنطقة الشرق الأوسط لصحيفة الإندبندنت البريطانية، ويعيش الآن في بيروت، لبنان. ويعتبر فيسك أشهر مراسل غربي خلال ثلاثين سنة من تغطيته لأبرز الأحداث، ومنها الحرب الأهلية اللبنانية، وكان شاهداً على مذبحة صبرا وشاتيلا والثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية ومجزرة حماة وحرب الخليج الأولى وغزو العراق في العام 2003 ومذبحة قطاع غزة 2008/2009. يعتبر من المراسلين الغربيين القلائل الذين أجروا مقابلة مع أسامة بن لادن. ويعتبر فيسك من المعارضين لسياسة بريطانيا وأميركا -أو ما يسميه الأنغلو ساكسونيون. وله كتاب بعنوان “الحرب الكبرى بذريعة الحضارة :السيطرة على الشرق الأوسط”.

 *نشر هذا المقال تحت عنوان:

The Lebanese uprising won’t change anything while sectarian elites cling to power

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى