الأتلانتيك – جيل الإنترنت : هل دمرت الهواتف الذكية جيلاً كاملاً؟
الأتلانتيك – جين م. توينغ* – عدد أيلول (سبتمبر) 2017
تقديم:
تتعقب هذه الدراسة، التي أجرتها مختصة نفسية، تأثيرات الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية على المراهقين في الولايات المتحدة. ولا شك في أن هناك فروقات ثقافية واجتماعية بين مجتمعاتنا ومجتمعهم، مثل عادات شرب الكحول والمواعدة والجنس، التي تُميز انتهاء المراهقة وبدء مرحلة النضج عندهم. لكن هناك تشابهات كثيرة أيضاً بين المراهقين في كل مكان، عندما يتعلق الأمر بالتفاعلات الاجتماعية، والعلاقة بالأبوين والأسرة، والتي تتأثر بقضاء المراهقين معظم أوقاتهم مع هواتفهم أو أجهزتهم الموصولة بالإنترنت. ونستطيع أن نشعر بهذه التأثيرات بقوة في مجتمعاتنا التي أصبحت هذه الأجهزة جزءاً منها أيضاً، بما حملته من تأثيرات اجتماعية ونفسية.
الأمر الخطير الذي استكشفته المسوح التي تستعرضها الكاتبة، هو ظهور إشارات على اعتلال الصحة النفسية والعقلية الذي ينجم عن قضاء المراهقين معظم أوقاتهم وحيدين في غرفهم مع أجهزتهم الذكية، من دون إشراف الوالدين، ومن دون التفاعل الشخصي، وجهاً لوجه، مع الأصدقاء، ومن دون ممارسة أنشطة مثل الخروج والتجول ومحادثة الأصدقاء وممارسة الرياضة وغير ذلك من أنشطة “غير الشاشة”. وإذا ترافق ذلك في مجتمعاتنا مع اضطرابات البيئة العامة بسبب الأزمات والأحوال الاقتصادية وضيق فرص العمل، فإن الحصيلة تصبح إنتاج جيل معرض في أغلبيته للاكتئاب والإحباط وافتقاد السعادة.
بطبيعة الحال، ثمة الكثير من أجراس الإنذار التي تُقرع حول التأثيرات السلبية التي جلبتها الهواتف الذكية والاتصال بالشبكة العالمية، لكن الحلول -إن وجدت- ما تزال نظرية، وقلة هم الذين يشعرون بحجم الآثار التي تترتب على أبنائهم ويفكرون في الحلول. بل إن هناك افتقاراً في مجتمعاتنا إلى رصد الظاهرة وإجراء المسوح والدراسات على مستوى جيلي لتعقب الاختلاف ووجهاته. ولا شك أن الحاجة تمسّ إلى الشروع في مثل هذه الجهود البحثية التي تأخذ في اعتبارها الخصوصيات الثقافية والحضارية في مجتمعاتنا، وتبحث عن حلول. والدراسة المرفقة هي مثال على أنواع هذه الجهود، بما تثيره من الانتباه، وما تطرحه من الأسئلة، وما تعرضه من الكيفيات.
هل دمرت الهواتف الذكية جيلاً كاملاً؟
ذات يوم في الصيف الماضي، عند الظهيرة، اتصلت هاتفياً بأثينا، وهي فتاة بعمر 13 عاماً تعيش في هيوستون، تكساس. وأجابت على هاتفها -لديها جهاز “آيفون” منذ كان عمرها 11 عاماً- وبدا كما لو أنها استيقظت من النوم تواً. دردشنا عن أغنياتها وبرامجها التلفزيونية المفضلة، وسألتها عما تحب أن تفعله مع أصدقائها. قالت: “نحن نذهب إلى مركز التسوق”. سألتها، وأنا أتذكر أيامي في المدرسة الإعدادية، عندما كنت أستمتع ببضع ساعات من التسوق مع أصدقائي من دون وجود الوالدَين: “هل يوصلُك والداك إلى هناك؟”، وأجابت: “كلا -أنا أذهب مع عائلتي. نحنُ نذهب مع ماما وإخوتي ونسير خلفهم على بعد مسافة قليلة. وعليّ أن أخبر ماما بأين سنذهب. ويجب أن تتحقق مني كل ساعة أو نصف ساعة”.
هذه الرحلات إلى مركز التسوق متباعدة -نحو مرة في الشهر. أما الأكثر تكراراً، فهو قضاء أثينا وأصدقائها الوقت معاً على هواتفهم، بلا رقابة ولا إشراف. وعلى عكس المراهقين من جيلي، الذين ربما كانوا يقضون في بعض الأحيان أمسيةً وهم يحتجزون خط هاتف الأسرة الأرضي للثرثرة، فإن أثينا وأصدقاءها يتحدثون عبر “سنابتشات”، تطبيق الهواتف الذكية الذي يسمح للمستخدمين بإرسال الصور والفيديوهات التي تختفي بسرعة. وهم يتأكدون من إبقاء شريط إرسالياتهم على “سناب” متصلاً، ليبين كم من الأيام المتعاقبة تواصلوا بواسطة التطبيق مع بعضهم بعضاً. وفي بعض الأحيان يحتفظون بلقطات شاشة لصور تكون سخيفة بشكل خاص. وتقول أثينا: “إنها وسيلة جيدة للابتزاز”. (لأنها قاصر، لا أستخدم اسمها الحقيقي). وقالت لي إنها تُمضي معظم الصيف وحيدة في غرفتها مع هاتفها. وهكذا بالضبط يفعل أبناء جيلها، كما تقول. “لم يكن لدينا الخيار لنعرف أيَّ حياة من دون ’آي-باد’ و’آي-فون‘. أعتقد أننا نحب هواتفنا أكثر مما نحبُّ الناس الحقيقيين”.
كنت عاكفة على إجراء البحوث عن الفروقات الجيلية طوال 25 عاماً، وبدأتُ عندما كنت طالبة دكتوراه بعمر 22 في تخصص علم النفس. ونمطياً، تظهَر الخصائص التي تُعرِّف جيلاً بالتدريج، وفي سلسلة متصلة. وتستمر المعتقدات والسلوكيات التي كانت تظهر وتصعد بفعل الشيء نفسه، ببساطة. وعلى سبيل المثال، يتسم جيل الألفية (1) بأنه بالغ الفردية، لكن الفردية كانت في ازدياد منذ أن ظهرت عندما جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، (2) وعاش، ورحل. وقد أصبحتُ معتادة على الرسوم الخطية للاتجاهات الجيلية، التي تبدو أشبه بالتلال المنخفضة والوديان، ثم عكفتُ على دراسة الجيل الذي تنتمي إليه أثينا.
حول العام 2012، لاحظتُ تحولات في سلوكيات المراهقين وحالاتهم العاطفية. وأصبحت الانحناءات الخفيفة في الرسوم الخطية شديدة الانحدار ومليئة بالمهاوي، وشرعَت الكثير من الخصائص المميزة لجيل الألفية في الاختفاء. وفي كل تحليلاتي للبيانات الجيلية -والتي يعود البعض منها وراءً إلى الثلاثينيات- لم أرَ أبداً أي شيء يشبه ذلك.
جاذبية الاستقلال، التي كانت قوية جداً للأجيال السابقة، أصبح لها تأثير أقل على مراهقي اليوم.
في البداية، افترضت أن هذه ربما تكون طفرات، لكن الاتجاهات استمرت، عبر سنوات عدة وسلاسل من المسوحات الوطنية. ولم تكن التغييرات تتعلق بالدرجة فقط، وإنما في النوع أيضاً. وكان الفارق الأكبر بين جيل الألفية والأجيال التي سبقته هو الكيفية التي ينظرون بها إلى العالم؛ وأصبح المراهقون اليوم يختلفون عن جيل الألفية، ليس في وجهات نظرهم فحسب، وإنما في الكيفية التي يقضون بها الوقت. وأصبحت التجارب التي يختبرونها كل يوم مختلفة بشكل جذري عن تلك التي عاشها الجيل الذي نضج قبلهم ببضع سنوات فقط.
ما الذي حدث في العام 2012 ليتسبب بمثل هذه التحولات الدرامية في السلوك؟ كان ذلك بعد فترة “الركود العظيم” التي دامت -رسمياً- من العام 2007 وحتى 2009، وكانت لها آثار أكثر قتامة على جيل الألفية الذين يحاولون العثور على مكان لهم في اقتصاد أخرق. لكن تلك كانت بالضبط هي اللحظة التي تجاوز فيها عدد الأميركيين الذين يملكون هواتف ذكية نسبة الـ50 في المائة.
كلما استعرضتُ المسوحات السنوية لتوجهات المراهقين وسلوكياتهم، وكلما تحدثتُ مع الصغار مثل أثينا، أصبح أوضح لي أن جيلهم هو واحد شكلته الهواتف الذكية والصعود المصاحب لوسائل الإعلام الاجتماعية. وأنا أسميهم “جيل-الآي”.(3) وأفراد هذا الجيل، المولودون في الأعوام بين 1995 و2012، ينشؤون ويكبرون مع الهواتف الذكية، ويصبح لديهم حساب على “إنستغرام” قبل بدء المدرسة الثانوية، ولا يتذكرون زمناً قبل الإنترنت. وقد كبر جيل الألفية مع الشبكة أيضاً، لكنها لم تكن دائمة الحضور في حياتهم وفي متناول اليد كل الوقت، ليلاً ونهاراً. كان أكبر أبناء جيل “الآي” في أول المراهقة عندما تم إنتاج هاتف “الآي-فون”، في العام 2007، وكانوا طلاباً في المدارس الثانوية عندما دخلت الأجهزة اللوحية “آي-باد” المشهد في العام 2010. وقد وجد مسح أجري في العام 2017 على أكثر من 5.000 مراهق أميركي أن ثلاثة من كل أربعة يمتلكون جهاز “آي-فون”.
سرعان ما جاء في أعقاب قدوم الهاتف الذكي وابن عمه الجهاز اللوحي، “التابلت”، القلق من الآثار الضارة لما يُدعى “وقت الشاشة”. لكن أثر هذه الأجهزة لم يتم تقديره بالكامل، وهو يتجاوز المخاوف المعتادة من حجز الانتباه. فقد غيَّر وصول الهاتف الذكي بشكل جذري كل عنصر من عناصر حياة المراهقين، من طبيعة تفاعلاتهم الاجتماعية، إلى صحتهم العقلية. وأثرت هذه التغيرات على الشباب والشابات الصغار في كل زاوية من البلاد، وفي كل أنواع الأسر. وتظهر هذه الاتجاهات بين المراهقين من الفقراء والأغنياء؛ ومن كل خلفية عرقية؛ في المدن، والضواحي والبلدات الصغيرة. وحيثما توجد أبراج للهاتف الخلوي، هناك مراهقون يعيشون حياتهم على الهاتف الذكي.
لأولئك منا الذين يتذكرون بحنين مراهقة أكثر تناظراً، ربما يبدو هذا غريباً ومثيراً للقلق. ومع ذلك، فإن هدف الدراسة الجيلية ليس الخضوع للحنين إلى الطريقة التي كانت عليها الأمور؛ إنها تهدف إلى فهم الكيفية التي أصبحت عليها الأمور الآن. بعض التغيرات الجيلية إيجابي، وبعضها سلبي، والكثير منها خليط من الأمرين. فبعد أن أصبحوا أكثر راحة في غرف نومهم بدل أن يكونوا في السيارة أو في حفلة، أصبح مراهقو اليوم أكثر أمناً من الناحية الجسدية مما كان عليه نظراؤهم في أي وقت مضى. إنهم أقل احتمالاً بشكل مدهش للتعرض إلى حادث سيارة، وهم أقل عرضة -وقد أصبح لديهم ميل أقل للكحول من الذين سبقوهم- لمعاناة العلل المصاحبة للشرب.
لكنهم، نفسياً، أكثر هشاشة مما كان أبناء جيل الألفية: فقد حلقت معدلات اكتئاب المراهقة وحوادث الانتحار منذ العام 2011. وليس من المبالغة وصف “جيل الآي”، بأنه على حافة أسوأ أزمة للصحة العقلية في عقود. ويمكن تعقب الكثير من هذا التدهور إلى هواتفهم الذكية.
وحتى عندما يلعب حدث زلزالي –حرب، طفرة تقنية، أو تغيير جذري في الثقافة- دوراً ضخماً في تشكيل نمط مجموعة من الشبان، فإنه ليس هناك عامل مفرد على الإطلاق يمكن أن يعرِّف جيلاً. فأنماط الأبوة والأمومة تستمر في التغير، وكذلك تفعل المناهج المدرسية والثقافة، وهذه الأشياء كلها تهُم. لكن الصعود التوأم للهاتف الذكي ووسائط الإعلام الاجتماعية تسبب بزلزلال من حجم لم نر له مثيلاً منذ وقت طويل جداً، إذا كنا قد شاهدناه أصلاً. وهناك أدلة دامغة على أن الأجهزة التي وضعناها في أيدي الشباب تمارس تأثيراً هائلاً على حياتهم -وتجعلهم غير سعيدين بشكل جدّي وخطير.
في أوائل السبعينيات، التقط المصور بيل ييتس سلسلة من الصور في حلبة للتزلج على الجليد في تامبا بولاية فلوريدا. وفي إحداها، يقف مراهق بلا قميص بزجاجة كبيرة من “ليكير النعناع” معلقة في حزام سرواله الجنيز. وفي صورة أخرى، يقف صبي يبدو أن عمره لا يتجاوز 12 عاماً وفي فمه سيجارة. كانت تلك الحلبة مكاناً حيث يستطيع الأولاد الهروب من آبائهم ويقطنون عالماً خاصاً بهم، عالماً حيث يستطيعون شرب الكحول، والتدخين، وممارسة الجنس في مقاعد سياراتهم الخلفية. وفي صور صارخة بالأبيض والأسود، يحدق أبناء ذلك الجيل في كاميرا ييتس بثقة في النفس، ولِدت من اتخاذ المرء خياراته الخاصة –حتى، وربما بالتحيد حتى- إذا كان والداكَ لا يعتقدان أنهما الطرف المحق.
بعد 15 عاماً من ذلك، خلال سنوات مراهقتي كعضو في “الجيل إكس”، (4) فقدت تجربة التدخين بعضاً من رومانسيتها، لكن شعور الاستقلال كان بالتأكيد ما يزال حاضراً. كنا، أصدقائي وأنا، نخطط لنحصل على رخصة قيادة السيارة بأسرع وقت ممكن، ونحدد موعد الاختبار في دائرة السير في اليوم الذي نبلغ فيه 16 عاماً، ونستخدم حريتنا المكتشفة حديثاً للهرب من حدود ضواحينا. وعندما كان أهلنا يسألوننا: “متى ستعود إلى البيت؟”، كنا نجيب بسؤال: “متى يجب أن أعود؟”.
لكن جاذبية الاستقلال، التي كانت بالغة القوة في الأجيال السابقة، أصبحت أقل تأثيراً على مراهقي اليوم، الذين أصبحوا أقل احتمالاً لمغادرة البيت من دون والدَيهم. والتغير مدهش: كان أبناء الصف الثاني في العام 2015 يخرجون مرات أقل من أبناء الصف الثامن في زمن مثل العام 2009؟
اليوم، أصبح المراهقون أيضاً أقل احتمالاً لتجربة مواعدة الجنس الآخر. والمرحلة الأولى من التودد، التي كان أبناء جيل X يسمونها “الميل” (من قَبيل: “أوه، إنه يميل إليك”!) أصبح الأولاد يسموها اليوم “التحادُث” -وهي اختبار منطوٍ على مفارقة لجيل يفضل التراسل النصي على تبادل الحديث الفعلي. وبعد أن “يتحادث” اثنان من المراهقين لفترة، فإنهما ربما يشرعان في المواعدة. ولكن 56 في المائة فقط من طلبة نهاية المرحلة الثانوية يخرجون في مواعدات في العام 2015، بينما كانت النسبة في جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية وجيل X نحو 85 في المائة.
ترافق تراجع المواعدة مع تراجع في النشاط الجنسي. والانخفاض الأكثر حدة بين طلبة الصف الحادي عشر، الذين انخفضت نسبة المراهقين الناشطين جنسياً بينهم بحوالي 40 في المائة منذ العام 1991. والآن، أصبح المراهق المتوسط يمارس الجنس لأول مرة بحلول ربيع الصف الحادي عشر، بعد سنة كاملة من المراهق المتوسط في “جيل X”. وقد أسهمت ممارسة عدد أقل من المراهقين الأميركيين للجنس في ما يراه البعض من أكثر اتجاهات الشباب إيجابية في السنوات الأخيرة: حيث بلغ معدل ولادات المراهقات أدنى مستوى له على الأطلاق في العام 2016، هابطاً بنسبة 67 في المائة عن ذروته الحديثة في العام 1991.
وحتى قيادة السيارة، التي كانت رمزاً للحرية التي يجلبها النضج، ودخلت الثقافة الشعبية الأميركية من فيلم “ثائر بلا قضية” إلى “يوم عطلة فيريس بويلر”، فقدت جاذبيتها لمراهقي اليوم. كان كل أبناء جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية قد حصلوا على رخص قيادتهم في ربيع سنتهم الأخيرة في الثانوية؛ واليوم، لا يحمل أكثر من واحد من كل أربعة طلاب في نهاية المرحلة الثانوية رخصة قيادة. وبالنسبة للبعض، فإن “ماما” و”بابا” هما سواقان جيدان إلى حد أنها ليست هناك حاجة ماسة إلى القيادة الشخصية. وقالت لي طالبة بعمر 21 في سان دييغو: “كان يأخذني والداي إلى كل مكان ولم يشتكيا أبداً، ولذلك كانت لدي دائماً توصيلة. لم أحصل على رخصة قيادتي حتى قالت لي أمي إن علي استخراجها، لأنها لم تعد تستطيع إيصالي إلى المدرسة”. وأخيراً، حصلَت على رخصة قيادتها بعد ستة أشهر من عيد ميلادها الثامن عشر. وفي حوار بعد حوار، أخبرني المراهقون بأنهم حصلوا على رخص قيادتهم كشيء ألح عليه الوالدان -وهي فكرة كانت غير قابلة للتصور بالنسبة للجيل السابق.
الاستقلال ليس مجانياً -إنك تحتاج إلى بعض النقود في جيبك لدفع ثمن البنزين، أو ثمن زجاجة ليكير. وفي فترات سابقة، كان الأولاد والبنات يعملون بأعداد كبيرة، تواقين إلى تمويل حريتهم أو مدفوعين من أهلهم حتى يعرفوا قيمة الدولار. لكن مراهقي جيل “الآي” لا يعملون (أو يتدبرون أمر كسب نقودهم الخاصة) بالمقدار نفسه. في أواخر السبعينيات، كان 77 في المائة من طلبة المدارس الثانوية يعملون لدفع مصاريفهم خلال السنة الدراسية. وفي أواسط العقد الأول من الألفية الجديدة، أصبح 55 في المائة فقط يعملون. وهبطت نسبة العمل بين طلاب الصف الثامن بنسبة النصف. وقد تسارعت هذه التراجعات خلال فترة “الركود العظيم”، لكن توظيف المراهقين لم يعد إلى ما كان عليه مرة أخرى، على الرغم من توفر الوظائف.
بطبيعة الحال، ليس تأجيل مسؤوليات مرحلة البلوغ ابتكاراً لجيل “الآي”. كان أبناء الجيل “X” في التسعينيات هم أول من أجَّل المؤشرات التقليدية على النضوج. وكان أبناء جيل “X” الصغار أكثر احتمالاً لقيادة السيارة، وشرب الكحول والمواعدة، تماماً مثلما كان أبناء جيل ما بعد الحرب العالمية، وأكثر احتمالاً لممارسة الجنس وحمل الفتيات في سن المراهقة. ولكن، بينما كانوا يتركون سنوات المراهقة خلفهم، كان أبناء جيل “X” يتزوجون ويبدؤون حياتهم المهنية في وقت متأخر نسبياً عن سابقيهم من جيل ما بعد الحرب.
تمكن جيل “X” من تمديد فترة المراهقة أبعد من الحدود السابقة: شرع أعضاؤه في النضج في وقت أبكر، وانتهوا من استكمال النضج في وقت متأخر. وبدءاً من جيل الألفية، واستمراراً إلى جيل “الآي”، أصبحت فترة المراهقة تتراجع مرة أخرى -وإنما فقط لأن ظهورها يبدأ متأخراً. وعبر طيف من السلوكيات -شرب الكحول، والمواعدة، وقضاء الوقت بلا إشراف الأبوين- أصبح الذين في عمر 18 عاماً الآن يتصرفون بشكل أقرب إلى ما كان يفعله أبناء عمر 15 عاماً، وأصبح أبناء 15 عاماً يتصرفون أقرب إلى أبناء 13 عاماً. وأصبحت فترة الطفولة الآن تمتد بقدر كبير إلى المدرسة الثانوية.
لماذا ينتظر مراهقو اليوم وقتاً أطول لتحمل مسؤوليات البلوغ واختبار ملذاته على حد سواء؟ من المؤكد أن التحولات في الاقتصاد، ومهمات الأبوة والأمومة، تلعب دوراً. ففي اقتصاد المعلومات الذي يكافئ التعليم الأعلى أكثر من تاريخ العمل المبكر، ربما يكون الآباء والأمهات أكثر ميلاً لتشجيع أبنائهم على البقاء في البيت والدراسة بدلاً من مزاولة عمل بدوام جزئي. ويبدو المراهقون، في المقابل، قانعين بهذا الترتيب المنزلي -ليس لأنهم مواظبون جداً على الدراسة، وإنما لأنهم يعيشون حياتهم الاجتماعية على هواتفهم. إنها لا يحتاجون إلى مغادرة المنزل لقضاء الوقت مع أصدقائهم.
لو كان مراهقو اليوم جيلاً من الطواحين التي لا تهدأ، لكنا قد رأينا ذلك في البيانات. لكن طلبة الصفوف العاشر والثاني عشر في العقد الثاني من القرن الجديد يقضون وقتاً أقل في حل الواجبات المنزلية مما كان يفعل مراهقو الجيل “X” في أوائل التسعينيات. (طلبة الصفوف الأعلى من المرحلة الثانوية المتجهون إلى دراسة أربع سنوات في الكلية يقضون الوقت نفسه تقريباً في حل الواجبات المنزلية مثل أسلافهم). كما أن الوقت الذي يقضيه هؤلاء الطلبة في أنشطة مثل نوادي الطلبة والرياضة والتمرين، تغير قليلاً في السنوات الأخيرة. ويعني هذا الاتجاه، مصحوباً بتراجع العمل من أجل الأجر، أن لدى مراهقي جيل “الآي” وقت فراغ أكثر مما كان لدى مراهقي جيل “X”، وليس أقل.
ولكن، ما الذي يفعلونه بكل هذا الوقت؟ إنهم يقضونه على هواتفهم، في غُرفهم، وحيدين ومكتئبين في غالب الأحيان.
إحدى المفارقات في حياة جيل “الآي”، هي أنه على الرغم من قضائهم وقتاً أطول بكثير تحت سقف والدِيهم نفسه ، فإن من الصعب القول إنهم أقرب إلى أمهاتهم وآباهم مما كان أسلافهم. وقالت لي أثينا: “لقد رأيت أصدقائي مع عائلاتهم -إنهم لا يتحدثون إليهم. إنهم يقولون فقط ‘أوكي، أوكي، مهما يكُن’ بينما يكونون منكبِّين على هواتفهم. إنهم لا يعيرون انتباهاً لعائلاتهم”. ومثل أقرانها، أصبحت أثينا خبيرة في التخلص من والدَيها حتى تستطيع أن تركز على هاتفها. وقد أمضت الكثير من الصيف وهي على اتصال مع أصدقائها، لكن كل ذلك كان عبر الرسائل النصية أو “سنابتشات”. وتقول: “كنتُ مع هاتفي أكثر مما مع الناس الحقيقيين. لقد صنع سريري شيئاً مثل الختم على جسمي”.
وفي هذا أيضاً، تطابق أثينا النمط. فقد انخفض عدد المراهقين الذين يلتقون بأصدقائهم كل يوم تقريباً بحدة بشكل خاص مؤخراً. ولا يقتصر الأمر على أن عدداً أقل من الأولاد يحضرون الحفلات؛ وإنما هناك عدد أقل من الأولاد الذين يقضون وقتهم في الخروج من المنزل ببساطة. وهو شيء اعتاد عليه معظم المراهقين: الحمقى والساخرين، الفقراء والأغنياء، أصحاب العلامات المتدنية والعلامات الكاملة. أما حلبة التزلج، وملعب كرة السلة، وبركة البلدة، والميادين العامة وأماكن التجمع -فقد حلت محلها كلها تلك الأماكن الافتراضية التي يتم الدخول إليها بواسطة التطبيقات الذكية والإنترنت.
بعد أن أصبحوا أكثر ارتياحاً بالوجود على الإنترنت من الاحتفال في الخارج، أصبح جيل ما بعد الألفية أكثر أماناً، على المستوى الجسدي، مما كان المراهقون في أي وقت مضى. لكنهم أصبحوا على شفا أزمة في الصحة العقلية.
* * * *
ربما يتوقع المرء من المراهقين أن يقضوا الكثير من الوقت في هذه الأماكن الافتراضية الجديدة على الإنترنت لأن ذلك يجعلهم أكثر سعادة، لكن معظم البيانات تشير إلى أن الأمر ليس كذلك. وقد سأل “مسح مراقبة المستقبل”، الذي يُجرى بتمويل من “المعهد القومي لإساءة استخدام العقاقير” والذي تم تصميمه ليكون تمثيلياً على المستوى الوطني، سأل طلاب الصف 12 أكثر من 1000 سؤال كل عام منذ 1975، واستفسر من طلبة الصف العاشر والصف الثامن منذ العام 1991. ويسأل المسح المراهقين عن مدى سعادتهم، وكم من وقت فراغهم يقضونه في ممارسة الأنشطة المختلفة أيضاً، بما في ذلك أنشطة “غير الشاشة” مثل التفاعل الاجتماعي المباشر وجهاً لوجه -وسألهم في السنوات الأخيرة، عن أنشطة الشاشة، مثل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والتراسل النصي، وتصفح الإنترنت. ولا يمكن أن تكون النتائج أوضح مما هي: المراهقون الذي يقضي وقتاً أطول من المعدل على أنشطة الشاشة أكثر عرضة لأن يكونوا غير سعيدين؛ في حين أن أولئك الذين يقضون وقتاً أكثر من المعدل على نشاطات غير الشاشة هم أكثر احتمالاً لأن يكونوا سعداء.
وليس هناك حتى استثناء واحد؛ إن كل أنشطة الشاشة مرتبطة بقدر أقل من السعادة، وكل أنشطة في غير الشاشة مرتبطة بقدر أكبر منها. وكان طلاب الصف الثامن الذين يقضون ساعات أكثر في الأسبوع مع وسائل التواصل الاجتماعي أكثر احتمالاً لأن يقولوا إنهم غير سعداء بنسبة 56 في المائة من أولئك الذين يخصصون لها وقتاً أقصر. وباعتراف الجميع، فإن قضاء 10 ساعات مع هذه الوسائل في الأسبوع هو قدر كبير. وكان الذين يقضون ما بين 6 إلى 9 ساعات في الأسبوع على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر احتمالاً بنسبة 47 في المائة ليقولوا إنهم غير سعداء من أولئك الذين يستخدمون هذه الوسائل بقدر أقل. والعكس صحيح في مسألة التفاعل الشخصي. فأولئك الذين يقضون قدراً أكبر من المتوسط مع أصدقائهم وجهاً لوجه هم أقل احتمالاً بنسبة 20 في المائة لأن يقولوا إنهم غير سعداء من أولئك الذين يخرجون مع الأصدقاء أقل من المعدل.
إنك إذا كنت لتعطي نصيحةً لأحد من أجل مراهقة سعيدة، بناءً على هذا المسح، فإنها ستكون نصيحة مباشرة: ضعوا هواتفكم، أطفئوا أجهزة حواسيبكم النقالة، وافعلوا شيئاً ما –أي شيء- لا يتضمن وجود شاشة. وبطبيعة الحال، لا تثبت هذه التحليلات بشكل قاطع أن قضاء الوقت على الشاشة يسبب التعاسة؛ فمن الممكن أن المراهقين غير السعيدين يقضون وقتاً أطول على الإنترنت. لكن الأبحاث الأخيرة تشير إلى أن الوقت الذي يُمضى على الشاشة، خاصة مع استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية، يسبب التعاسة حقاً. وقد طلبت إحدى الدراسات من طلبة لديهم صفحة على “فيسبوك” إكمال مسوحات قصيرة على هواتفهم على مدار أسبوعين. وكانت تصلهم رسالة نصية مع رابط خمس مرات في اليوم، ثم يبلغون عن مزاجهم وعن مقدار استخدامهم “فيسبوك”. وكما تبين، فإنه كلما زاد استخدامهم “فيسبوك”، كما شعروا بتعاسة أكبر، لكن الشعور بعدم السعادة لم يؤدِّ بعد ذلك إلى المزيد من استخدام التطبيق.
تعِد شبكات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك” بوصلنا مع الأصدقاء. لكن صورة مراهقي (جيل آي) التي تخرج من البيانات هي صورة لجيل وحيد مخلوع ومقطوع. والمراهقون الذين يزورون مواقع التواصل الاجتماعي كل يوم، لكنهم يرون أصدقاءهم وجهاً لوجه مرات أقل هم الأكثر احتمالاً للتوافق مع عبارات من قبيل: “في كثير من الأحيان أشعر بأني وحيد”، “في كثير من الأحيان أشعر بأني مُستبعد”، و”أتمنى في كثير من الأحيان لو كان لي عدد أكبر من الأصدقاء الحميمين”. وقد حلَّق شعور المراهقين بالوحدة في العام 2013 وظل مرتفعاً منذ ذلك الحين.
لا يعنى هذا دائماً أن الأولاد والبنات، على المستوى الفردي، الذين يقضون وقتاً أطول على الإنترنت هم أكثر وحدة من أقرانهم الذين يقضون وقتاً أقل على الشبكة. فالمراهقون الذين يقضون وقتاً أطول على وسائل الإعلام الاجتماعية يقضون وقتاً أطول أيضاً مع الأصدقاء وجهاً لوجه، في المتوسط –المراهقون الاجتماعيون كثيراً هم أكثر تواصلاً اجتماعياً في كلا المجالَين، والمراهقون الأقل اجتماعية هم أقل تواصلاً. ولكن، بشكل عام، عندما يقضى المراهقون وقتاً أطول على الهواتف الذكية ووقتاً أقل في التفاعلات المباشرة وجهاً لوجه، فإن الوحدة تكون لديهم أكثر شيوعاً.
وكذلك الحال مع الاكتئاب. مرة أخرى، يبدو تأثير أنشطة الشاشة واضحاً لا لُبس فيه: كلما زاد الوقت الذي يقضيه المراهقون على الشاشات، كلما زاد احتمال أن يُبلغوا عن أعراض الاكتئاب. وتزداد نسبة خط تعرض طلبة الصف الثامن من المستخدمين الكثيفين لوسائل الإعلام الاجتماعية للاكتئاب بنسبة 27 %، في حين أن أولئك الذين يمارسون الرياضة، أو يذهبون للممارسة الخدمات الاجتماعية، أو حتى يحلون وظائفهم المنزلية أكثر من المراهق المتوسط، يقللون مخاطر تعرضهم له بقدر كبير.
المراهقون الذين يقضون ثلاث ساعات في اليوم أو أكثر على الأجهزة الإلكترونية هم أكثر احتمالاً بنسبة 35 في المائة لخطر العناصر المتصلة بالانتحار، مثل إعداد خطة للانتحار. (وهذا أكثر بكثير من الخطر المماثل المتعلق بمشاهدة التلفاز، مثلاً). وتقول إحدى قطع البيانات التي تلتقط بشكل غير مباشر، وإنما مدهش، عزلة الأولاد المتزايدة، للأحسن والأسوأ: منذ العام 2007، تراجع معدل جرائم القتل بين المراهقين، لكن معدل الانتحار ارتفع. فبينما بدأ المراهقون في قضاء وقت أقل معاً، فإنهم أصبحوا أقل احتمالاً لقتل بعضهم بعضاً، وأكثر احتمالاً لأن يقتلوا أنفسهم. وفي العام 2011، ولأول مرة في 24 عاماً، كان معدل انتحار المراهقين أعلى من معدل جرائم القتل بينهم.
للاكتئاب والانتحار العديد من الأسباب؛ وليس الإكثار من التكولوجيا سببها الوحيد بوضوح. حتى أن معدل الانتحار كان أعلى بين المراهقين في التسعينيات، قبل وقت طويل من وجود الهواتف الذكية. ثم مرة أخرى، تضاعف عدد الأميركيين الذين يتناولات مضادات الاكتئاب أربعة أضعاف، والتي كثيراً ما تكون فعالة في معالجة الاكتئاب الحاد، من النوع الأكثر ارتباطاً بالانتحار.
ما هي الصلة بين الهواتف الذكية والإحباطات النفسية الظاهرة التي يعاني منها هذا الجيل؟ مع كل قوتها في الربط بين الأولاد ليلاً ونهاراً، فإن وسائل الإعلام الاجتماعية تفاقم قلق المراهقين الذي بطول جيل من التعرض للاستبعاد والعزلة. واليوم، ربما يذهب المراهقون إلى حفلات أقل وينفقون وقتاً أقل معاً وجهاً لوجه، لكنهم عندما يتجمعون فعلاً، فإنهم يقومون بتوثيق مناسبات خروجهم بلا هوادة –على سنابتشات، إنستغرام، وفيسبوك. ويجعل هذا التوثيق أولئك الذين لم تتم دعوتهم للانضمام على دراية تامة بها. ولذلك، وصل عدد أولئك المراهقين الذين يشعرون بالاستبعاد والنبذ أعلى مستوياته في كل الأوقات وعبر كل المجموعات العمرية. ومثل الزيادة في مشاعر الوحدة، فإن الارتفاع في الشعور بالتعرض للاستبعاد والتجاهل كان سريعاً وكبيراً.
وكان هذا الاتجاه حاداً بشكل خاص بشكل خاص بين الفتيات. وتقول المزيد من الفتيات إنهن شعرن في كثير من الأحيان بأنهن متروكات في 2015 بنسبة أكبر بـ48 في المائة من 2010، مقارنة بارتفاع بنسبة 27 في المائة بين الفتيان الذكور. وتستخدم الفتيات وسائل الإعلام الاجتماعية أوقاتاً أكثر، مما يعطيهن فرصاً إضافية للشعور بأنهن مستبعدات ووحيدات عندما يرين الأصدقاء أو زملاء الصف يجتمعون معاً من دونهن. وتفرض وسائل الإعلام الاجتماعية ضريبة نفسية على الفتاة المراهقة التي ترسل المشاركات أيضاً، حيث تنتظر بقلق وصبر نافد تأكيد الإعجابات والتعليقات. وعندما ترسل أثينا الصور على إنستغرام، كما قالت لي “فإنني أكون متوترة إزاء ما يظنه الناس وما يقولونه. وأتضايق في بعض الأحيان عندما لا أحصل على قدر معين من الإعجابات على صورة”.
كما تحملت البنات أيضاً وطأة ارتفاع أعراض الاكتئاب بين مراهقي اليوم. فقد زادت الأعراض الاكتئابية لدى الأولاد بنسبة 21 في المائة في الفترة ما بين 2012 و2015، في حين ارتفعت بين الفتيات بنسبة 50 في المائة –أكثر من ضعف نسبة الزيادة عند الأولاد. كما أن الارتفاع في نسبة الانتحار أيضاً، أكثر وضوحاً بين الفتيات. ومع أن المعدل زاد عند كلا الجنسين، فإن عدد البنات من عمر ما بين 12 إلى 14 عاماً ممن قتلن أنفسهن في العام 2015 بلغ ثلاثة أضعافه في العام 2007، مقارنة بارتفاع بنسبة الضعفين فقط بين الأولاد. وما يزال معدل الانتحار أعلى لدى الأولاد، فيما يعود جزئياً إلى أنهم يستخدمون أساليب أكثر إماتة، لكن الفتيات يبدأن في جسر الفجوة.
هذه التداعيات الأكثر قتامة على الفتيات المراهقات يمكن أن تكون متجذرة أيضاً في حقيقة أنهن أكثر احتمالاً للتعرض للتسلط عبر الإنترنت. ويميل الأولاد إلى التسلط على بعضهم جسدياً، في حين أن الفتيات أكثر احتمالاً لممارسة ذلك عن طريق تقويض المكانة الاجتماعية للضحية أو علاقاتها. وتعطي وسائل الإعلام الاجتماعية لبنات المدرسة المتوسطة والعالية منصة يستطعن من خلالها تنفيذ نوع العدوان الذي يفضلنه، بنبذ واستبعاد الفتيات الأخريات على مدار الساعة.
تدرك شركات وسائل الإعلام الاجتماعية بطبيعة الحال هذه المشكلات، وقد سعت بدرجة أو بأخرى إلى منع التسلط من خلال الإنترنت. لكن حوافزها المختلفة تظل معقدة على أقل تقدير. وقد تضمنت وثيقة مسربة من “فيسبوك” أن الشركة كانت تروج للمعلنين قدرتها على تحديد الحالة العاطفية للمراهقين من خلال سلوكهم على الموقع، بل وحتى تحديد “اللحظات التي يحتاج فيها الشبان إلى تعزيز للثقة”. واعترفت شركة “فيسبوك” بأن الوثيقة حقيقية، لكنها أنكرت أنها تعرض “أدوات لاستهداف الناس بالاستناد إلى حالتهم العاطفية”.
في تموز (يوليو) 2014، استيقظت فتاة بعمر 13 عاماً في شمال تكساس لتشم رائحة شيء يحترق. كانت حرارة هاتفها قد ارتفعت وذاب في ملاءات الأغطية. وقد التقطت وسائل الأخبار الوطنية القصة، وزادت مخاوف القراء من أن هواتفهم الخلوية ربما تحترق تلقائياً. ومع ذلك، لم يكن اشتعال الهاتف الخلوي هو العنصر الوحيد المفاجئ في القصة. وقد تساءلتُ: “لماذا تنام فتاة وهاتفها الخلوي بجوارها في السرير؟” ليس الأمر كما لو أنك تستطيع الإبحار في الإنترنت بينما تكون نائماً. ثم، مَن يستطيع أن ينام بعمق على بعد بوصات من هائف يئز؟
مدفوعة بالفضول، سألت طلابي الجامعيين في جامعة ولاية سان دييغو عما يفعلونه بهواتفهم بينما ينامون. وكانت إجاباتهم تجسيداً للهوس. كانوا ينامون كلهم تقريباً مع هواتفهم، ويضعونها تحت وسائدهم، على الفِراش، أو على الأقل على بعد ذراع من أسرَّتهم وفي متناول أيديهم. وكانوا يتفقدون وسائل الإعلام الاجتماعية مباشرة قبل النوم، ويلتقطون هواتفهم بمجرد أن يستيقظوا في الصباح (وهم مضطرون –فهم جميعاً يستخدمون الهاتف كساعة تنبيه). وكان هاتفهم آخر شيء يرونه قبل أن يناموا وأول شيء تقع عليه أبصارهم عندما يستيقظون. وإذا استفاقوا في منتصف الليل، فإن المطاف عادة ما ينتهي بهم وهم ينظرون في هواتفهم. وقد استخدم البعض لغة الإدمان. “أعرف أنه لا ينبغي أن أفعل ذلك، لكنني لا أستطيع أن أتوقف”، وقالت إحداهن إنها لا تكف عن النظر في هاتفها وهي في السرير. ورأى آخرون هواتفهم على أنها امتداد لأجسامهم –أو حتى مثل حبيب: “أن يكون هاتفي أقرب إليَّ بينما أنام هو مصدر للراحة”.
ربما يكون الهاتف الذكي مصدر راحة بالنسبة للمراهقين، لكنه يتدخل في نومهم: الكثيرون الآن ينامون أقل من سبع ساعات في معظم الليالي. ويقول خبراء النوم إن المراهقين يجب أن يحصلوا على نحو 9 ساعات من النوم في الليلة؛ ويعاني المراهق الذي يحصل على أقل من سبع ساعات من النوم في الليلة مما يُدعى “الحرمان من النوم”. وكان 75 في المائة من المراهقين يعانون من الحرمان من النوم في العام 2015 مقارنة بما كانوا عليه في العام 1991. وفي السنوات الأربع فقط بين 2012 و2015، فشلت نسبة 22 في المائة إضافية من المراهقين في الحصول على سبع ساعات من النوم.
يبدو توقيت هذه الزيادة مثيراً للشبهة، حيث بدأ مرة أخرى حول الوقت الذي حصل فيه معظم المراهقين على هاتف ذكي. ويظهر مسحان قوميان أن المراهقين الذين يقضون ثلاث ساعات أو أكثر في اليوم على جهاز إلكتروني هم أكثر احتمالاً بنسبة 28 في المائة للحصول على أقل من سبع ساعات من النوم من أولئك الذين يقضون أقل من ثلاث ساعات، وأن المراهقين الذين يزورون مواقع التواصل الاجتماعي كل يوم أكثر احتمالاً بنسبة 19 في المائة لمعاناة الحرمان من النوم. كما وجد تحليل تجميعي للدراسات حول استخدام الأجهزة الإلكترونية بين الأولاد نتائج مشابهة: الأولاد الذين يستخدمون جهازاً يتصل بوسائط الإعلام الاجتماعية مباشرة قبل النوم هم أكثر احتمالاً للنوم أقل مما ينبغي، وأكثر احتمالاً إلى النوم بشكل سيئ، وأكثر احتمالاً بمرتين لأن يعانوا من النعاس أثناء النهار.
يبدو أن للأجهزة الإلكترونية ووسائل الإعلام الاجتماعية قدرة قوية بشكل خاص على إحداث اضطرابات في النوم. والمراهقون الذين يقرأون الكتب والمجلات أكثر من المعدل هم أقل احتمالاً بقليل لمعاناة الحرمان من النوم –إما لأن القراءة تهدهدهم إلى النوم، أو لأنهم يستطيعون وضع الكتاب من أيديهم وقت النوم. وترتبط مشاهدة التلفاز لعدة ساعات في اليوم ارتباطاً ضعيفاً فقط بالنوم زمناً أقل. لكن جاذبية الهاتف الذكي تكون في كثير من الأحيان أكبر من أن تُقاوَم.
يرتبط نقص النوم بعدد لا يُحصى من القضايا، بما فيها انخفاض التفكير والإدراك، والقابلية للمرض، وزيادة الوزن، وارتفاع ضغط الدم. كما أنه يؤثر أيضاً على المزاج: فالناس الذين لا ينامون وقتاً كافياً يكونون عرضة للاكتئاب والتوتر. ومرة أخرى، من الصعب تعقب المسارات الدقيقة للسببية. يمكن أن تكون الهواتف الذكية سبباً في قلة النوم، وهو ما يفضي إلى الاكتئاب، أو أن الهواتف يمكن أن تسبب الاكتئاب الذي يفضي إلى قلة النوم. أو أن هناك عاملاً آخر يمكن أن يزيد كلاً من الاكتئاب وقلة النوم. لكن من المرجح أن الهاتف الذكي، بضوئه الأزرق الذي يشع في الظلام، يلعب دوراً سلبياً.
تبدو الارتباطات بين الاكتئاب والهواتف الذكية قوية بما يكفي لاقتراح أن المزيد من الآباء يجب أن يأمروا أبناءهم بإطفاء هواتفهم. وكما قال كاتب الشؤون التكنولوجية، نِك بيلتون، فإن هذه سياسة يتبعها بعض المدراء التنفيذيين في وادي السيليكون. وحتى ستيف جوبس نفسه حدد استخدام أولاده للأجهزة التي جلبها هو إلى العالم.
إن ما أصبح الآن على المحك لا يتعلق فقط بكيف يختبر الأبناء فترة المراهقة. فمن المرجح أن يؤثر الحضور المستمر للهواتف الذكية عليهم أيضاً بعد المراهقة وفي مرحلة النضج. ومن بين الناس الذين يعانون نوبة اكتئاب، فإن النصف على الأقل يصبحون مكتئبين مرة أخرى في وقت لاحق من الحياة. والبلوغ وقت رئيسي لتطوير المهارات الاجتماعية؛ وعندما يقضي الأولاد وقتاً أقل مع أصدقائهم وجهاً لوجه، فإنهم ينالون فرصاً أقل لممارسة هذه المهارات. وفي العقد القادم، ربما نرى المزيد من المراهقين الذين يعرفون الرمز التعبيري الصحيح لوضع ما، لكنهم لا يعرفون تعبير الوجه الصحيح عن الشعور.
إنني أدرك أن تقييد التكنولوجيا ربما يكون مطلباً غير واقعي لفرضه على جيل من الأولاد المعتادين كثيراً على أن يكونوا متصلين بشبكة الإنترنت في كل الأوقات. وقد وُلدت بناتي الثلاث في الأعوام 2006، 2009 و2012. وهن لسن كبيرات بما يكفي لعرض خصائص جيل “مراهقي الآي”، لكنني لاحظت فعلياً ومباشرة كم هي وسائل الإعلام الجديدة منغرسة ومتأصلة في حياتهم الصغيرة. وقد شاهدت ابنتي الصغيرة، التي بالكاد في عمر المشي، وهي تمسح طريقها بإصبعها بثقة عبر الآي-باد. وجربت ابنتي ذات الست سنوات وهي تطالب بامتلاك هاتفها الخلوي الخاص. وسمعت ابنتي ذات التسع سنوات وهي تناقش التطبيق الأحدث الذي يجتاح الصف الرابع. وسوف يكون انتزاع الهاتف من أيدي أبنائك صعباً، بل وحتى أكثر صعوبة من الجهود المضنية التي بذلها جيل أمي وأبي لجعل أبنائهم يطفئون تلفزيون الكابل ويخرجون لاستنشاق الهواء النقي.
لكن ما هو أكثر من ذلك أصبح على المحك في حث المراهقين على استخدام هواتفهم بطريقة مسؤولة، وهناك فوائد ربما نجنيها حتى لو كان كل ما تستطيع أن نغرسه في أبنائنا هو أهمية الاعتدال. وتبدأ آثار مهمة على كل من الصحة العقلية وزمن النوم بالظهور بعد قضاء ساعتين أو أكثر يومياً على الأجهزة الإلكترونية. ويقضي المراهق المتوسط نحو ساعتين ونصف في اليوم على الأجهزة الإلكترونية. ويمكن أن يساعد وضع بعض القيود المعتدلة على منع أبنائنا من الوقوع في العادات الضارة.
في محادثاتي مع المراهقين، رأيت علامات آملة على أن الأولاد أنفسهم يشرعون في الربط بين متاعبهم وبين هاتفهم دائم الحضور. وقد أخبرتني أثينا بأنها عندما تقضي الوقت مع أصدقائها وجهاً لوجه، فإنهم غالباً ما ينظرون في أجهزتهم بدلاً من النظر إليها. وقالت: “أحاول أن أتحدث إليهم عن شيء، وهم لا ينظرون في وجهي في الحقيقة. إنهم ينظرون إلى هواتفهم، أو أنهم ينظرون في ساعات أبل”. سألتها: “كيف يبدو ذلك، عندما تحاولين التحدث إلى شخص وجهاً لوجه وهو لا ينظر إليك”؟ قالت: “إنه يؤلم نوعاً ما. إنه يؤلم، أعرف أن جيل والديَّ لم يكن يفعل ذلك. يمكن أن أتحدث عن شيء مهم جداً بالنسبة لي، في حين أنهم حتى لا يستمعون”.
ذات مرة، قالت لي أثينا، كانت خارجة مع صديقة، لكن الصديقة واصلت تبادل الرسائل النصية مع صديقها. وقالت: “كنت أحال أن أتحدث معها عن عائلتي، وما كان يجري، وكانت تقول أشياء من قبيل، ‘أوه-هوه، نعم، أياً يكن’. وعندئذٍ أخذتُ هاتفها من يدها ورميته على جدار”.
لم أستطع سوى أن أضحك. قلت: “إنك تلعبين الكرة الطائرة. هل لديك ذراع قوية”؟ وأجابت: “نعم”.
هوامش:
(1) جيل الألفية Millennials أو “الجيل Y”، أو جيل الإنترنت، هم الفئة الذين بلغوا سن الرشد حول منعطف القرن الحادي والعشرين. ويعرفهم بعض العلماء بأنهم الذين ولدوا فيما بين 1982 و2004.
(2) جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، هو الجيل الذي تميز بكثرة الإنجاب بشكل خاص، ولذلك يطلقون عليه اسم Baby Boomers.
(3) iGen هو جيل الذين ولدوا ما بين 1995 و2012، وتربى على الهواتف الذكية، ولا يتذكر زمناً قبل الإنترنت. وكان أبناء هذا الجيل في سن المراهقة المبكرة عندما ظهر جهاز هاتف “آي-فون” في 2007، وطلبة في المدارس الثانوية عندما دخل جهاز “آي-باد” المشهد في 2010.
(4) Gen X، هو الفئة العمرية الديموغرافية التي تلي جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية Y وتسبق جيل الألفية. ولا توجد تواريخ دقيقة لمتى يبدأ جيل X أو ينتهي. وعادة ما يستخدم الديموغرافيون والباحثون السنوات التي ما بين أوائل الستينيات وحتى أوائل الثمانينيات.
*هذه المقالة مقتطفة من كتاب جين م. توينغ القادم: “جيل الآن: لماذا يصبح أولاد اليوم فائقي الاتصال أقل تمرداً، وأكثر تسامحاً، وأقل سعادة –وغير مستعدين مطلقاً للبلوغ- وما الذي يعنيه هذا لنا”.
*Jean M. Twenge: أستاذة علم النفس في جامعة ولاية سان دييغو، ومؤلفة كتاب “جيلي وجيل ‘الآي’”.
*نشرت هذه الدراسة تحت عنوان :
Have Smartphones Destroyed a Generation?
ترجمة وتقديم علاء الدين أبو زينة – الغد – 25/1/2018