أقلام وأراء

اكرم عطا الله يكتب نحو إعادة صياغة العقد الاجتماعي

اكرم عطا الله ٢٧-٦-٢٠٢١

على امتداد العقد الماضي، كانت المجتمعات العربية تعيد اكتشاف ذاتها وثقافتها الأصيلة التي لم تتأثر بكل القيم الحضارية والإنسانية التي أنتجتها البشرية بكلفة الدم الهائلة، لقد ظهرت على الملأ كل نوازع الغريزة والقتل والاستبداد والأهم من ذلك أن العرب اكتشفوا أن لا عقد اجتماعيا يربط علاقاتهم بقدر ما أن القوة وحدها هي الناظم الوحيد لتلك العلاقات، وأن الصراعات بينهم بلا حدود أخلاقية.
اكتشف العرب أن الدولة المدنية التي تم بناؤها بعد رحيل المستعمر كانت هشة وصورية من حيث القيم والمفاهيم والثقافة السياسية بمفهومها الحديث، وأن للثقافة السياسية لدى العرب فهما آخر بعيدا تماماً عن الدولة الحديثة بل أقرب لدولة القبيلة، ولكن أزمة العقد الماضي أظهرت ما هو أسوأ أن العنف جزء أصيل من المجتمعات نفسها حين ظهرت المعارضات بنفس شراسة النظم الحاكمة بل وأكثر قسوة في لحظة من اللحظات نظرا لتحررها من قيود القانون والعلاقات الخارجية.
كان يجب أن تحدث صدمة العقد الماضي هزة كبيرة لدى الباحثين ومؤسسات الفكر على قلتها وفقرها في العالم العربي وكذلك لدى المثقفين والذين كانت الخسارة بهم كبيرة حيث سيطرة إعلام الخليج الثري على الفضاء العربي والذي كان جزءا من تمويل ماكينة العنف خلال السنوات السابقة ونجاحه باستقطاب جزء كبير من تلك النخبة ونقل مكانها من الموقع التنويري الى الموقع التثويري التحريضي والاصطفاف لصالح جهات العنف ما تسبب بغياب العقل والقراءة النقدية.
العنف ولسنا كفلسطينيين بعيدين عن ثقافته بل جزء أصيل من بيئته العربية والذي يتجسد في السياسة، وتجلى منذ أن حكم الفلسطيني نفسه ليكتشف أنه ابن شرعي لتلك الثقافة فصراعات المنطقة التي وصلت فلسطين وسادت ألحقتها بتلك القيم.
لقد رافق العنف المجتمعات البشرية منذ نشأتها، منذ رحلة الإنسان على هذا الكوكب، منذ خمسة ملايين عام كانت المجتمعات تعيش على الغزو والقتل والسلب والنهب، الى أن بدأت تظهر الحضارة في العشرة آلاف عام الأخيرة وبدأت تتشكل مجتمعات الاستقرار منذ اكتشاف الزراعة وبالمناسبة يعود للفلسطينيين الفضل في اكتشافها وليس كما يقول المؤرخ توينبي في كتابه «الإنسانية من أين والى أين» بأن الحضارة ظهرت قبل خمسة آلاف عام جنوب العراق وما أن بدأت المجتمعات بالاستقرار كان لا بد من صياغة منظومة العلاقات بينها بشكل مختلف وهكذا مع الزمن وآلاف السنين حتى ظهر مفهوم الدولة والتي ولدت في مجتمع المدينة والذي جاء كنتاج أو على من هامش مجتمع القرية «ظهرت أريحا كأول مدينة في التاريخ على هامش اكتشاف الزراعة في فلسطين».
كانت حجة ظهور الدولة كما يقول ابن خلدون انطلاقاً من ضرورة تأمين الغذاء وضمانه والثانية نظام الحماية. وأخذ شكلها الذي يتطور بمرور الزمن ارتباطاً بتقسيم العمل وإذا كانت الضرورة الأولى تتم بلا عنف، أخذت الضرورة الثانية تتطور بثقافة عنفية مع تشكل مؤسساتها للحماية والأمن منها الجيش والبوليس والاستخبارات. وأصبحت الدولة وحدها من يحتكر العنف بعد أن جردت باقي المجتمع من تلك الميزة ولكن في مراحلها الأولى كانت الدولة وريثة مجتمعات لم تنضج بعد، لذا كانت مؤسسات الحماية والأمن تخرج عن سيطرة المجتمع بل تحولت الى أدوات قمع داخلية وفتحت صراعات خارجية وحروب عالمية منها ما كلف خمسين مليون قتيل في إحداها.
تطورت مجتمعات حملتها مدن صناعية وبقيت مجتمعات تضخمت فيها المدن السكانية بلا سمات مدينية فظلت تخبئ العنف تحت جلدها وتنتظر لحظة تحرره، هناك مجتمعات أعادت توزيع القوة ووضعت حدا لتغول الدولة وشروطا وقيودا على استعمالها وآليات رقابة ومع الزمن تراجع فيها منسوب العنف وثقافته وبقيت المجتمعات العربية والإسلامية أسيرة لهذا العنف بل إن لدى بعضها أصبح جزءا من ثقافة مقدسة ولم تكن «داعش» أو «بوكو حرام» أو طالبان والجماعات الشبيهة والتي وجهت عنفها للداخل خارج ثقافة المجتمعات بل وجدت لها حاضنات.
العنف هو سلوك ما قبل الدولة وفي الدول العربية لم تكن الدولة سوى تقليد فوقي لنموذج حضاري لم تنتجه مجتمعات عربية بل أنتجته مجتمعات غيرها، لذا لم تكن الدولة أصيلة في الوعي العربي لا بالمفهوم الثقافي للشعوب ولا في ممارستها للقوة بل إن التجربة قالت في نصف القرن الماضي، إن مفهوم الدولة اقتصر على القوة وحدها وأن العلاقات البينية تقوم على الصراع على احتكار القوة وممارستها ضد الآخرين، فالمهزوم بالانتخابات ان وجدت أو من يسقط بالتمرد ينتظره السجن أو القتل عندما تنتقل القوة للخصم السياسي بعد أن كان يمارسها هذا الأخير وهنا عندما يتم احتكارها دون أن تترافق مع القانون تتحول ممارستها الى حالة انتقامية قبلية منفلتة.
مؤسف أننا جزء من هذه الثقافة، ثقافة العنف التي لم تتمكن من فهم الضرورات الاجتماعية للمجتمع الذي تقوم العلاقات الإنسانية بين مكوناته على أرضية الصراعات والتناقضات، ولكن المهم كيف يمكن احتواء هذه التناقضات بعيدا عن العنف لندرك أننا خرجنا من العصور البدائية نحو عصر الدولة، الممارسات بيننا ما زالت بعيدة عن قيم الدولة والأحداث تصدمنا، ما يجعل من إعادة صياغة العقد الاجتماعي بين الفلسطينيين أولوية ملحة ليس فقط لوجود الاحتلال لأن الأمر يتعلق بمجتمع يعيد تركيب نفسه ونظامه بما يتلاءم مع مفهوم الدولة وليس مفهوم الجماعات البدائية وحتى لا نخسر أكثر وننصدم بأنفسنا ولم نكن بحاجة لتلك الرجة العنيفة لتعرف أن هناك يكمن في داخلنا ثقافة مخيفة على تلك الدرجة من العنف….!!!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى