شؤون مكافحة الاٍرهاب

استراتيجيات ومحركات مواجهة الفعل الإرهابي في تركيا


بقلم : محمد عبد القادر خليل *، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ١٩-٢-٢٠١٨م
اتسم التعاطي التركي مع قضية الإرهاب بخصوصية استثنائية بحسبان تركيا مثلت دولة داعمة للجماعات الإرهابية والتنظيمات الراديكالية على الساحات الجغرافية المجاورة، في وقت شهدت ساحاتها المحلية شيوع لظاهرة العمليات الإرهابية من قبل عدد متنوع من التنظيمات العنيفة التي تعددت أهدافها وتباينت أدواتها ووتيرة عملياتها، على نحو أفضى إلى ارتدادات عكسية على نمط التفاعلات المجتمعية وطبيعة المؤشرات الاقتصادية وكذلك على استراتجيات المواجهة العسكرية وتكتيكات التحرك على الساحتين المحلية والإقليمية.
وعلى الرغم من أن موجات الإرهاب لم تنقطع خلال عام 2017 إلا أن وتيرته انخفضت على نحو واضح، بعد أن كانت قد تصاعدت بشكل غير مسبوق خلال عام 2016، حيث شهدت تركيا نحو 19 تفجيرا، تبنت “جبهة كردستان” ثلثيها، فيما الثلث الآخر تبناه تنظيم داعش، وهى هجمات في مجموعها ارتبطت بخلايا نائمة شابة أو أسراب هائمة حديثة السن، عملت على استغلال الثغرات الأمنية الضخمة التي عانت منها تركيا، واستهدفت الانتقام من تحولات سياساتها المحلية، التي عززت الانقسام المجتمعي بفعل تنامي تيارات مجتمعية داعشية الفكر والهوى، وانتقاما من تبدلات سياساتها الخارجية الدراماتيكية على مسرح إقليم الشرق الأوسط.
وقد جاءت الهجمات الإرهابية التي شهدتها تركيا خلال العامين الأخيرين في شكل موجات تباينت في الارتفاع والخفوت، وتراوحت وتيرتها مع ميل دراماتيكي للصعود ثم التراجع النسبي. وبينما استأثر تنظيم “جبهة حرية كردستان” باستهداف المؤسسات العسكرية والشرطية، فإن تفجيرات “الدوكومجلار” (النساجون)، والذي يمثل ذراع “داعش” الاستخباراتية الطولى بتركيا، استهدفت المناطق السياحية والأماكن المكتظة بالأهداف الحيوية، على غرار ما شهدته عواصم غربية من تفجيرات انتحارية أو هجمات إرهابية، عبر تكتيكات مركبة ابتغت بث الرعب، وإيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية، للتأثير على الأوضاع السياسية، ومضاعفة الارتدادات الاقتصادية، بما من شأنه إعادة قدر أكبر من “الهيبة” المتآكلة للتنظيم، في ظل ضغوط متراكمة واجهتها مناطق حضوره الرئيسية.
أولا: أنماط الفعل الإرهابي في تركيا وارتداداته
ارتبط انتشار الفعل الإرهابي في تركيا بطبيعة السياسات التي دعمت تيارات الإسلام السياسي على مسرح عمليات الإقليم، وعملت على الساحة المحلية من أجل إعادة هندسة المجتمع، لتنتج تطرفا مضادا للتطرف العلماني، على نحو بات يعبر عن وهن “الدولة المتجذرة” أو “الدول العميقة” واستقواء “المجتمع المتدين”.
وقد تعلق ذلك، على جانب آخر، بتوسع الحكومة التركية في استنساخ “النموذج الباكستاني”، الذي غالى في اختراق الجماعات الإسلامية ونسج علاقات معقدة مع تنظيم طالبان، ووظفه للسيطرة على الساحات المنفلتة في الجوار المباشر، وفي إطار خدمة المصالح الاستراتيجية. ترتب على ذلك أن شهدت مدن تركيا المختلفة خلال السنوات الخالية ما يشبه هجرة إسلامية كتلك التي شهدتها باكستان مع بدايات عقد الثمانينيات من القرن الخالي من قِبل أنصار الحركات الإسلامية المتطرفة في العالم العربي، فيما الهجرة إلى تركيا شملت أسرابا من دول عربية وآسيوية وغربية، بما خلق تحديات مركبة بالنسبة للداخل التركي، وكذلك بالنسبة لدول الجوار والإقليم.
وتشير تقديرات إلى وجود أكثر من ثلاثة آلاف تركي في التنظيمات الجهادية الموجودة في سوريا، منهم ما بين 750 إلى 1000 شخص في صفوف تنظيم داعش. كما انتشرت الجماعات السلفية على نحو غير مسبوق في العديد من المدن التركية، ولم يكن ذلك مقصورا على بعض المناطق الريفية أو الهوامش الحدودية، وإنما أيضا شمل قلب أحياء بعض المدن الرئيسية، كحى الفاتح في مدينة إسطنبول.
وظهرت أيضا، مجموعات موالية للتنظيمات الجهادية في الجامعات التركية، كتلك التي أطلق عليها “الشباب المسلم”، وهم يضعون أقنعة سوداء على وجوههم، ويرتدون قبعات سوداء، ويقومون بالاعتداء على النشطاء والمجموعات الأخرى التي تعارض انتشار مؤيدي داعش في الجامعات التركية المختلفة، وبات هناك محلات تبيع هدايا تذكارية تحمل رموز داعش، مثل الرايات والملصقات والأعلام.
كما برزت خلال السنوات الماضية “شركات مشبوهة” تصدر شهادات عمل تمكن الجهاديين من الحصول على إقامة رسمية في تركيا لمدة عام، وكانت عناوين المقاهي التركية، التي يتم من خلالها التواصل مع عناصر الجماعات الجهادية، وتشهد عمليات تجنيد علني للمواطنين، معروفة ومنتشرة في أكثر من منطقة، سواء في إسطنبول أو في أغلب المدن الحدودية مع الأراضي السورية، والتي شكلت “ممرات آمنة” أو “طرق جهادية سريعة” للعناصر الراغبة في الانضمام للتنظيمات المتطرفة، سواء جاءوا من مدن تركيا المختلفة أو من مناطق قاعدية أخرى. وقد عانت تركيا من العديد من أنماط الفعل الجهادي، نناقشها فيما يلي.
1- ظواهر الإرهاب البدائي أو العشوائي
عانت تركيا خلال السنوات الخالية بفعل مناطق الجوار الملتهبة، وسياسات دعم التنظيمات الجهادية واستخدامها كأداة لخدمة مصالحها الإقليمية- عانت من انتشار قطيع من “الذئاب المنفردة”، تحرك على نحو فردى وعبر خلايا متناهية الصغر لاستهداف أية رموز أمنية ثابتة كانت أو متحركة، فضلا عن العديد من المؤسسات المحلية والأجنبية والمقرات الحزبية، بما شكل تهديدات متصاعدة الحدة لأجهزة الأمن التركية، التي واجهت عمليات يصعب التنبؤ بها أو تتبع مسارها أو الرصد المسبق لها، وذلك على جبهات ثلاثة، ترتبط من جانب أول بعناصر تنظيم داعش وتابعيه من الأتراك والأجانب، ومن جانب ثان، بأعضاء حزب العمال الكردستاني ومريديه، ومن جانب ثالث، بأعضاء ومناصري الأحزاب اليسارية المتطرفة في تركيا.
2- الأسراب الهائمة Swarming Birds
انتشرت في تركيا أيضا ظاهرة الجيوش الإرهابية الصغيرة أو الإرهابيين بدون قيادة، والذين يمارسون ما يمكن تسميته بـ”إرهاب النكاية” بهدف اللحاق الضرر بالحكومة التركية وذلك وفق عدد من التكتيكات:
خطف الرهائن: وتعد تكتيكات خطف الرهائن أقرب إلى عمليات التنظيمات اليسارية في تركيا، والتي قامت في مارس 2016 بخطف المدعي العام التركي محمد سليم كيراز، وقتلته حينما حاولت الشرطة التركية تحريره، في مكتبه بالقصر العدلي بإسطنبول.
السيارات المفخخة: تزايدت ظاهرة “السيارات المفخخة” في العديد من مدن جنوب شرق تركيا وكذلك في مدينة إسطنبول، بما شكل تحديا أمنيا كبيرا للقوات الأمنية التركية. ذلك أن هذه السيارات تستخدم في عمليات لاغتيال رجال الأمن وتدمير المنشآت الأمنية.فعلي سبيل المثال، قُتل شخصان وجُرح العشرات في انفجار سيارة مفخخة أمام مبنى محكمة في مدينة أزمير غرب تركيا، وذلك في يناير 2017.
استهداف البعثات الأجنبية: عانت تركيا من استهداف البعثات الأجنبية، والتي مثلت أحد تكتيكات الأسراب الهائمة التي حاولت استغلال هذه الأحداث لإلحاق الضرر بصورة الدولة التركية، من ناحية، ولإعلان رفض سياسات الدول المستهدفة بعثاتها في الأراضي التركية، من ناحية أخرى. فرغم أن محاولة استهداف القنصلية الأمريكية في إسطنبول في يوليو 2016 لم يلحق أضرارا بالقنصلية، غير أنه عبر عن تنامي قدرات بعض العناصر الموالية للتنظيمات اليسارية على اختراق الحصون الأمنية التي تحيط بهذه الهيئات.
استهداف المواقع السياحية: تعرضت العديد من الأماكن السياحية في تركيا إلى حوادث إرهابية، فبالقرب من قصر “دولما بهجة”، الذي يضم مكاتب حكومية، في إسطنبول، ويعتبر معلما سياحيا، تم إطلاق نار في 9 أغسطس 2016، على مجموعة من السائحين، بما أثار المخاوف من أن يفضى ذلك إلى نمط مختلف من أعمال العنف قد تستهدف الأماكن السياحية، سيما أنه قد استخدم في الهجوم قنابل يدوية وبندقية آلية، ولم تعلن أي جهة مسئوليتها عن الحادث، بما يعكس طريقة “الطيور الهائمة” التي باتت تنتشر في تركيا.
وقد أفضى الهجوم على “ملهى إرينا” في إسطنبول في يناير 2017، إلى مقتل 39 شخص وإصابة ٧٠، أغلبهم من السائحين الأجانب، وقد كان ذلك ختاما لعام افتتح فيه تنظيم داعش أيضا هجماته على الأراضي التركية، باستهداف وسط إسطنبول التاريخي في 12 يناير 2016، بما أدى إلى مقتل نحو 12 سائحا ألمانيا.
ثانيا: العوامل المؤدية لتزايد الأعمال الإرهابية في تركيا
1- تصاعد الراديكالية في المجتمع
شهدت تركيا على مدى السنوات الخالية صعود لظاهرة “التشدد الديني” وتنامي التيارات الراديكالية في أوساط المجتمع، وذلك في ظل تعاظم أثر السياسات التي تبنتها حكومة حزب العدالة والتنمية، وأفضت إلى تحول البلاد خلال السنوات الماضية إلى “ممر آمن” للحركات الجهادية والتيارات العنيفة، بما شكل، من ناحية، بيئات حاضنة لجماعات وتيارات متطرفة، وأفضى، من ناحية أخرى، إلى انتشار التعاطف مع بعض الحركات الجهادية التي تقوم بعمليات إرهابية على الساحتين الإقليمية والدولية، وذلك على النحو الذي ترتب عليه تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية على الأراضي التركية، وبروز ظواهر طارئة من قبيل تزايد أعداد الأتراك المنضوين في التنظيمات الجهادية أو ما يعرف بـ”الدواعش الأتراك”.
2- المقاتلون الأتراك
ثمة مجموعات من المواطنين الأتراك انخرطوا سابقا في ميادين الصراع في أفغانستان والبوسنة والعراق، وقد تحولت قطاعات ليست قليلة من هؤلاء لاحقا إلى الميدان السوري مع تصاعد حضور الجماعات الجهادية، ومثلوا عناصر جذب وتجنيد لمجموعات أخرى للقتال في ميادين القتال القريبة.
ومع تزايد وتيرة تراجع حضور تنظيم داعش والعديد من التنظيمات الجهادية الأخرى، ثمة مؤشرات أوضحت تصاعد ظاهرة “الهجرة العكسية” إلى الموطن الأصلي في العديد من المدن التركية، بما طرح مشكلات أكبر تتعلق بعدم إمكانية إحكام السيطرة على هؤلاء كونهم يتوزعون على خريطة واسعة من الجغرافيا التركية، سيما أن قطاعات ليست هينة منهم غابت عن الساحة التركية لمدد ليست بالقصيرة، ولا تمتلك الأجهزة الأمنية بحقها سجلات تاريخية تثبت أو تثير شبهة الانخراط في صفوف جماعات إرهابية.
3- المقاتلون الأجانب
شكلت الأراضي التركية نقاط عبور رئيسية من وإلى الأراضي السورية والعراقية على مدى السنوات الماضية. وقد شملت هذه الحركة طيفا واسعا من المقاتلين الأتراك والعرب والأوروبيين والشيشانيين والأوزبك والقوقازيين، الذين دخلوا بعلم السلطات التركية إلى الداخل التركي. ووفقا لتحليلالأكاديمية العسكرية الأمريكية”ويست بوينت”West Point لأكثر من 4,600من تسجيلات عناصر داعش، فإن 93 في المائة من المقاتلين الأجانب المسجلين قد دخلوا إلى سوريا عن طريق ستة مدن حدودية مختلفة، هي: يايلاداغي، أتميا، أعزاز، الرعي، جرابلس، وتل أبيض.
وبالنسبة لكثير من المقاتلين الأجانب، كانت مدينة إسطنبول هي المحطة الأولى للدخول، قبل أن يقوم أفراد داعش بتقديم التسهيلات وترتيب السفر إلى مدينتين رئيسيتين بالقرب من الحدود هما شانلي أورفا وغازي عنتاب. ومن هاتين المدينتين ينتقل مقاتلو داعش إلى كِلِّز أو البيلي أو كركميش أو أكاكالي.
4- ثمن التخلي عن التنظيمات الجهادية
تعد تركيا من أكثر دول الإقليم التي دعمت التنظيمات الراديكالية حيث فتحت الحدود المشتركة مع سوريا على مصراعيها أمام حركتها، وتحولت أغلب المدن الحدودية إلى مناطق تمركز وإقامة للعديد من عناصر الجماعات الإرهابية، التي استخدمت هذه المدن للتجنيد واستقطاب المقاتلين، خصوصا الأتراك.
وقد تلقي العديد من “المقاتلين الأتراك” المنخرطون في الصراع المسلح تدريبات سابقة في أفغانستان والشيشان والبوسنة، وهو ما طرح عددا من الإشكاليات من نوعية “العائدين من سوريا والعراق”، والتي غدت تثير المزيد من الهواجس الأمنية لدى الجانب التركي. ذلك بسبب السياسات التركية التي أفضت إلى تراجع ضخم في قدرات تركيا الأمنية والعسكرية، جراء سياسات تعزيز الانقسام داخل صفوف الجيش التركي، واعتقال أكثر من نصف جنرالاته، وإلغاء المدارس العسكرية، وتوسعة مجال دخول خريجي المدارس الدينية إلى الأجهزة والمؤسسات الأمنية. بالإضافة إلى توزيع الجهد العسكري بين مدن جنوب شرق تركيا، و”مدن القلب”، ومناطق الحدود الرخوة، وفي الميدانين السوري والعراقي، بما أفضى إلى ثغرات أمنية كبرى، وخلل هيكلي في قدرات المؤسسات الأمنية التركية وسياساتها الاستباقية.
5- أدوار جمعيات أهلية تركية
لعبت بعض الجمعيات الأهلية التركية أدوارا رئيسية في تهريب المقاتلين من تركيا إلى سوريا. وتعد تركيا حسب العديد من التقديرات واحدة من أكثر البلدان التي تصدر مقاتلين لساحات الصراع في دول الجوار الجغرافي، وأشارت صحيفة “دوفار” التركية مؤخرا إلى وجود نحو مائتي سيدة تركية فقدن أزواجهن في القتال الدائر في سوريا، ونحو 600 طفل تركي تتراوح أعمارهم بين عامين و12 عاما يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة التنظيم الإرهابي في سوريا.
وثمة العشرات من الخلايا الموجودة في تركيا وترتبط بتنظيم داعش، وتعتمد على هذه الجمعيات في مدن عديدة كمدينة أديامان، وقد تم مساعدة خلايا داعش في المدينة من قبل مؤسسة المساعدات الإنسانية (IHH)، وهي منظمة إسلامية غير حكومية تسيطر على جزء كبير من المساعدات التركية المقدمة إلى سوريا. وبعض العناصر المرتبطة بهذه الجمعيات كانت تعمل سابقا مع تنظيم القاعدة، كما أن ثمة عناصر من ضمن هؤلاء الأفراد انفصلوا عن الخلايا التي كانت تربطهم بالتنظيمات الجهادية لإنشاء خلايا مستقلة.
وقد أشارت تحقيقات إلى أن هناك العشرات من مسئولي عمليات التجنيد للتنظيمات الجهادية في العديد من المدن التركية، حيث يتم استهداف الشباب التركي من خلال إنشاء المراكز الدينية بطريقة غير قانونية. وذكرت شبكة “سي إن إن ترك” أن قدامى المحاربين من المجاهدين الأفغان والأتراك الذين كانوا فى باكستان فى السابق قد شاركوا فى العديد من الخلايا الجهادية في تركيا.
وقد تم ضبط خلية كبيرة تنتمي لداعش، مقرها أديامان، تورطت بصورة مباشرة في تنفيذ ثمانية هجمات من بين عشرة هجمات باستخدام القنابل في تركيا، فضلا عن هجومين فاشلين على الأقل. وتكونت المجموعة من حوالي 31 عضوا أساسيا من بلدين مختلفين هما تركيا وألمانيا. وعكست بنية القيادة في الجماعة نفسها المجموعات الفرعية التركية لداعش داخل سوريا.
وقد أوضحت تقديرات أمنية أن داخل “الخلايا الداعشية” في تركيا يتم تعيين مجند محلي لديه معرفة بمجتمع المجندين، ومن ثم يتم دعوتهم لحضور الدورات التدريبية الدينية. وبعد ذلك يحضر المجندون هذه الدورات لمدة أربعة أشهر، قبل أن يعلنوا رسميا الولاء لداعش. ثم يتم إرسال المجندين إلى سوريا إما عن طريق “غازي عنتاب” أو شانلي أورفا، قبل أن يلتقي عضو داعش بهم على الجانب الآخر من الحدود. وبعد ذلك يوضع المجندون في الوحدات الناطقة بالتركية، لاستكمال التدريب العسكري والروحي، ويستكمل المجندون التدريب الذي بدأ في تركيا قبل إرسال بعضهم للقتال في سوريا.
ولم يتعلق ذلك بتنظيم داعش وحسب، وإنما نشط أيضا مقاتلو جبهة فتح الشام التابعة لتنظيم القاعدة وحركة “أحرار الشام” عبر جمعيات أهلية تركية في استقطاب المجندين للقتال في الميدان السوري. وقد توسعت وتنوعت مهام العناصر التابعة لهذه المنظمات، فثمة من تخصص في عمليات الدعم اللوجستي ونقل المواد وتهريب الأفراد على جانبي الحدود، فيما نشط البعض الآخر في تلقي تدريبات في سوريا ثم العودة لتركيا للقيام بعمليات التجنيد وإلقاء الدروس الدينية. وقد تراوحت الفئة العمرية لهؤلاء ما بين 16 إلى 40 عاما.
ثالثا: استراتيجيات تركيا في مواجهة التنظيمات الإرهابية
تأخرت الاستجابة الحكومية، حيث لم تبدأ في شن هجمات على شبكات داعش داخل تركيا حتى مارس 2015، كما تأخر التحاق السلطات التركية بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في سوريا، ولم تفتح قاعدة انجرليك الجوية لقوات التحالف ضد تنظيم داعش حتى يونيو 2015. وقد ترتب على هذا التأخر أن استطاعت بعض الجماعات أن تخلق نطاقات لتحقيق الربح عبر التجارة مع هذه المناطق الحدودية في تجارة النفط والآثار وعمليات الإحلال والتبديل وصيانة المعدات العسكرية.
وقد اُتُهمت تركيا منذ فترة طويلة بالتساهل، إن لم يكن التواطؤ التام، مع تنظيم داعش خلال الفترة السابقة على أغسطس 2016، بما أدى إلى تفاقم مشكلات أمنية نتجت عن سياسات “الأبواب المفتوحة”، التي سمحت للمقاتلين والإرهابيين بالتحرك بحرية نسبية عبر الحدود، وتنامي تجارة التهريب. وقد انضمت تركيا رسميا إلى الحملة العسكرية ضد داعش في أغسطس 2016، حيث تدخلت القوات التركية مباشرة في سوريا في أغسطس 2016، من أجل السيطرة على طول الشريط الحدودي التركي في العمق السوري وصولا إلى مدينة الباب.
وقد ترتب على ذلك أن قُتل أكثر من 70 جنديا تركيا. وفي ديسمبر 2016، أحرق جنديان تركيان كانا محتجزين لدى تنظيم “داعش”، بما أضعف من صورة الجيش التركي الذي احتاج نحو 184 يوما لكي يسيطر على مدينة الباب السورية. وقد تنوعت تكتكيات مواجهة تركيا للتنظيمات الإرهابية التي استهدفت شن هجمات داخل المدن التركية، نشير فيما يلي إلى أبرزها.
1- على الصعيد الداخلي
أ- سد الثغرات
عملت تركيا على استهداف البنية التحتية السابقة التي سمحت للجماعات الجهادية باختراق الحدود والمدن التركية، كما أقدمت على بناء أسوار وعززت تمركزاتها بالقرب من المناطق الرخوة على الحدود مع سوريا وإيران. كما عملت على تعزيز التحركات الأمنية على الجانب التركي من الحدود، وسعت في نفس الوقت إلى توسعة مناطق السيطرة والتحكم داخل سوريا والعراق.
كذلك، تحركت تركيا أمنيا من أجل وضع حد لأدوار العصابات المنظمة التي أدت أدوارا مركزية في توسع تجارة الحدود بين سوريا وتركيا. هذا فيما أقدمت تركيا من جانب آخر على تشديد إجراءات العبور عبر المعابر الحدودية الرسمية من وإلى ميادين القتال في سوريا، وذلك بعد أن كانت مطارات تركيا ومعابرها طيلة سنوات الحرب في سوريا تشكل محطات رئيسية للمقاتلين.
ب- فرض حالة الطوارئ
فرضت تركيا حالة الطوارئ في جنوب شرق البلاد بعد أحداث مدينة سروج بمحافظة شانلى أورفا جنوب البلاد في يوليو 2015، ثم من خلال تعميم حالة الطوارئ في عموم البلاد بعد محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في يوليو 2016. وأقدمت أيضا على توسيع صلاحيات القوات الأمنية، بما أسهم في القدرة على استهداف العديد من الخلايا الإرهابية التي كانت منتشرة في تركيا. وخلال عام 2017، قامت قوات الأمن باعتقال العشرات من المجموعات الإرهابية في مختلف المدن التركية.
وفي جنوب شرق تركيا، تم تكثيف العمليات العسكرية على نحو غير مسبوق واستهدفت كافة المدن التي ينتشر فيها مسلحو حزب العمال الكردستاني. وفرضت حصارا إعلاميا كاملا على الأحداث في هذه المناطق. وعلى الرغم من ارتفاع وتيرة الخسائر الاقتصادية وتدمير جزئي للبنية التحتية في بعض المدن، غير أن القوات الأمنية التركية نجحت في الحد من عمليات العنف في هذه المدن.
ج- مواجهة اختراق الأجهزة الأمنية
شهدت تركيا قيام عناصر متشددة باختراق مؤسسات أمنية وعسكرية، انعكس ذلك في حادثة اغتيال السفير الروسي في تركيا، في 10 ديسمبر 2016، ترتب على ذلك أن أقدمت السلطات التركية على إجراء عملية تطهير واسعة لأجهزة الأمنية، وقد وسعت من أدوار الأجهزة الاستخباراتية.
كما استطاعت القوات الأمنية التركية من خلال اختراقها صفوف العديد من الجماعات الجهادية، في تسهيل عملية خروج مجموعات من الأراضي السورية إلى ميادين صراع أخرى، حتى لا توجه عملياتها إلى المدن التركية القريبة من الحدود السورية والعراقية، سيما بعد انهيار تنظيم داعش وتراجع حضوره.
2- التعاون الاستخباراتي مع الفواعل الإقليمية والدولية
عمدت تركيا إلى توثيق التعاون الاستخباراتي مع العديد من الفواعل الإقليمية والدولية مستغلة في ذلك حاجة العديد من القوى الغربية إلى تعزيز قدرات تركيا الاستخباراتية، حتى توقف طوفان الهجرة غير الشرعية إلى الشواطئ الأوروبية، وكذلك لكي تتخذ المزيد من الإجراءات الاحترازية في مواجهة العناصر الإرهابية التي تسعى إلى هجرة عكسية إلى الدول الغربية من أجل القيام بعمليات إرهابية، وقد عكس ذلك وتيرة هذه العمليات خلال عام 2017.
لجأت البلدان الأوروبية إلى العديد من التدابير الأمنية التي من شأنها التعاطي مع تصاعد تحدي الجماعات الإرهابية، بما أفضى إلى تكثيف العمليات العسكرية على ساحة الشرق الأوسط في مناطق تمركز تنظيم داعش. كما تشددت البلدان الأوروبية في التعاطي مع قضية اللاجئين، ووقعت اتفاقا مع تركيا بهذا الخصوص في مارس 2016. وترتب على ذلك أن تبنت تركيا تدابير أمنية غير مسبوقة فيما يخص عملية منح تأشيرات الدخول إلى أراضيها، وتصاعدت عمليات تتبع مواطني البلدان الأوروبية على ساحة المعارك في سوريا والعراق.
وقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية في هذا السياق بتصعيد أطر تعاونها المعلوماتي والاستخباراتي مع تركيا. وثمة تصريحات رسمية في هذا السياق تشير بوضوح إلى أن مسار التقدم الذي حققته تركيا في مواجهة الجماعات الإرهابية ارتبط بالتعاون الوثيق مع الولايات المتحدة التي عززت قدرات تركيا الاستخباراتية بفعل المعلومات التي وفرتها لها بشأن تحركات التنظيمات الجهادية.
كما عززت تركيا من حضورها العسكري المباشر داخل الأراضي السورية والعراقية، ووثقت تعاونها الأمني والعسكري والاستخباراتي مع روسيا وإيران، بما وفر للأجهزة الأمنية مصادر متنوعة للمعلومات مع مختلف الفواعل الإقليمية والدولية التي تتحرك في الميدان السوري.
وعلى الرغم من التقدم الذي حققته تركيا في مواجهة التنظيمات الإرهابية خلال عام 2017 مقارنة بعام 2016، غير أن ثمة إشكاليات لا تزال تتضاعف بسبب عدم توافر استراتيجية للتعاطي مع هذا التحدي بعيدا عن المقاربات الأمنية، حيث تغيب “الاستراتيجية الناعمة” اللازمة لمواجهة تغلغل أفكار التنظيم في أوساط المجتمع التركي، حيث يتركز الجهد التركي الآن فيما يخص الأمن الفكري لمكافحة التطرف على إدارة الشئون الدينية من خلال نشر الخطب والتقارير التي تهاجم التنظيمات الجهادية، وليس هناك تأكيد بشأن فاعلية هذه الجهود وتأثيرها.
* مدير برنامج تركيا والمشرق العربي – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى