إندبندنت: “داعش” لم تختف وجيلها الصاعد يحمل تحذيرا مخيفا

إندبندنت 26-12-2025، بروفيسور بيتر نيومان: “داعش” لم تختف وجيلها الصاعد يحمل تحذيرا مخيفا

لم يعد “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) كما كان عليه من قبل. ففي ذروة قوته قبل عقدٍ من الزمن، كان يفرض سيطرته على رقعةٍ من الأراضي في العراق وسوريا تعادل تقريباً مساحة بريطانيا العظمى، وكان يقطنها ما يقارب 10 ملايين نسمة. وكان قد أعلن آنذاك عما سماها “ولايات” له، تمتد عبر ثلاث قارات، ونجح في الترويج لنفسه كتنظيم يتمتع بزخمٍ لا يمكن كبح جماحه. لكن تلك النسخة من “داعش” لم تعد موجودةً اليوم.
فقد مُنيت “دولة الخلافة” التي أعلن عنها التنظيم من طرف واحد بهزيمة ساحقة، وذلك بفضل تحركٍ دولي حاسم قادته الولايات المتحدة وحلفاؤها. وبحلول عام 2019، لم يعد تنظيم “داعش” يسيطر إلا على عددٍ قليلٍ من القرى التي تنتشر على طول الحدود بين سوريا والعراق. ومع انهيار سيطرته الميدانية، طُويت أيضاً صفحة حملته الإرهابية العالمية الموجهة التي كانت تُدار مركزياً، والتي وصلت إلى كل من أوروبا وبريطانيا في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، عبر هجماتٍ مدمرة استهدفت باريس وبروكسل ومانشستر ولندن وبرلين وستوكهولم وبرشلونة، ومدناً أوروبية أخرى.
على رغم الهزيمة، لم تختفِ “داعش” تماماً. فقد تبين أخيراً أن مطلقَي النار المزعومَين – الأب والابن – اللذين أوديا بحياة 15 شخصاً وأصابا نحو 40 آخرين في إطلاق نارٍ جماعي على شاطئ بوندي الأسترالي، ربما كانا متأثرَين بأفكار تنظيم “داعش” الإرهابي.
ويُزعم أن ساجد أكرم (50 سنة) ونجله نافيد أكرم (24 سنة)، وقفا على جسرٍ علوي قريب من موقع الهجوم، وهتفا “الله أكبر” أثناء ارتكابهما المجزرة. ويقول مال لانيون مفوض شرطة ولاية “نيو ساوث ويلز” الأسترالية، إن سيارةً مسجلةً باسم نافيد أكرم، ضُبطت داخلها عبواتٍ ناسفة بدائية الصنع وأعلام لتنظيم “داعش”.
رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز قال لشبكة “إي بي سي سيدني”، “يبدو أن الهجوم كان مدفوعاً بأيديولوجية ’تنظيم الدولة الإسلامية‘”.
في المقابل، أكد متحدث باسم مكتب الهجرة الأسترالي أن مطلقَي النار المزعومَين كانا قد غادرا أستراليا قبل نحو ستة أسابيع متوجهَين إلى الفلبين، قبل أن يعودا على متن رحلةٍ جوية إلى سيدني في الـ28 من نوفمبر (تشرين الثاني). وذكر أن الوجهة التي سجلاها فور وصولهما إلى الفلبين كانت مدينة دافاو.
وفيما لا يزال التحقيق جارياً لمعرفة الدوافع خلف رحلتهما، فإن دافاو – المدينة المترامية الأطراف على الساحل الشرقي لجزيرة مينداناو، أكبر جزر جنوب الفلبين – تقع في إقليم لطالما شهد نشاطاً لجماعاتٍ إسلامية مسلحة، لا سيما في مناطقه الوسطى والجنوبية الغربية الفقيرة.
يواجه تنظيم “داعش” والجماعات المشابهة له صعوبةً متزايدة في تجنيد مقاتلين أجانب، وفي العمل انطلاقاً من قاعدةٍ مركزية تتيح إدارة عملياتٍ منسقة على غرار ما فعله قبل عقد. ففي سوريا والعراق، بقي له بعض المقاتلين الذين تواروا عن الأنظار ونشطوا في العمل السري، بينما انتقل آخرون إلى دولٍ هشة ومناطق نزاع أخرى حول العالم.
وعلى مدى أعوام، بدت أفريقيا وكأنها تحولت إلى البؤرة الجديدة للعنف “الجهادي”، مع اندلاع حركات تمردٍ وحملاتٍ إرهابية، امتدت من منطقة الساحل الأفريقي وصولاً إلى موزمبيق، وهي صراعات لا تزال مشتعلة حتى اليوم.
في غضون ذلك، شهدت أوروبا ما يمكن وصفه بأنه هدوء نسبي في نشاط الجماعات “الجهادية”. فبحلول مطلع عشرينيات هذا القرن، تراجع عدد الهجمات الإرهابية إلى مستوى دفع بأجهزة الأمن والاستخبارات إلى تحويل اهتمامها نحو تهديداتٍ أخرى. وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، استحوذت تلك الحرب تقريباً على مجمل الاهتمام السياسي والاستراتيجي، وتراجعت العمليات “الجهادية” إلى هامش العناوين الإخبارية.
في تلك المرحلة، انكفأ عدد كبير من أنصار “داعش”، ولم يُسجل سوى ظهورٍ محدودٍ لبعض المجندين الجدد. ويُعزى السبب من جهة إلى الارتفاع الملحوظ في فاعلية الأجهزة الأمنية في تفكيك الشبكات الميدانية، ومن جهةٍ أخرى إلى عزوف كثر عن الالتحاق بحركةٍ بدا أنها مُنيت بهزيمة.
غير أن هذا المشهد تبدل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، مع الهجوم الإرهابي الذي شنته حركة “حماس” على إسرائيل. لم يكن تنظيم “داعش” طرفاً في ذلك الهجوم، ولا يزال خصماً لدوداً لـ”حماس” التي يعتبرها غير إسلامية بما يكفي، وفق معاييره. غير أن الهجوم وما تلاه من حرب، أطلقا موجة غضبٍ عارمة في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وخارجه، لم يكن في وسع التنظيم تجاهلها. وبعد ثلاثة أشهر، أصدر أول بيانٍ رسمي له في شأن الصراع، دعا فيه أنصاره إلى “ضرب اليهود أينما وجدوا”.
هذا التحول في الخطاب كان لافتاً.
فعلى عكس ما كانت عليه الحال في منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، لم يعد “داعش” يحضّ أنصاره على السفر إلى الشرق الأوسط للانضمام إلى “الخلافة”، بل بات يشجعهم على تنفيذ هجمات في أي مكان – لا سيما ضد اليهود والأهداف المرتبطة بإسرائيل. وفي الواقع، كان التنظيم يسعى إلى استثمار الموجة التي أحدثتها أحداث السابع من أكتوبر، على رغم عدم مشاركته في تلك الهجمات.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد ما. فتجنيد الأفراد لم يعد يتم في الغرف الخلفية للمساجد أو عبر دعاة متشددين معروفين لدى السلطات، بل انتقل تقريباً بالكامل إلى الفضاء الرقمي. وكانت غالبية المهاجمين الذين ظهروا “ذئاباً منفردة” بلا روابط تنظيمية سابقة بـ”داعش”، وكثر منهم من فئة الشباب. وهكذا تشكل جيل جديد لم يتأثر بانتصارات ساحة المعركة، بل بغضب متراكم ودعاية رقمية تنتشر كالنار في الهشيم، وتعزيز خوارزمي يضاعف الشعور بالغبن.
لم يصل مستوى العنف إلى ما كان عليه في ذروة الموجة “الجهادية” في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، لكن الاتجاه العام بات واضحاً. ففي الـ12 شهراً التي تلت أحداث السابع من أكتوبر، ارتفع عدد الهجمات ومحاولات الهجمات “الجهادية” في أوروبا بنحو 400 في المئة، واستهدف أكثر من 40 في المئة منها مصالح يهودية أو إسرائيلية.
وشهدت تلك الفترة محاولاتٍ عدة لاستهداف معابد يهودية – بما فيها الهجوم الذي وقع في مانشستر البريطانية – فضلاً عن مخططٍ لضرب القنصلية العامة الإسرائيلية في ميونيخ الألمانية. وقبل حادثة شاطئ بوندي، كانت إحدى أكثر الهجمات دمويةً تلك التي وقعت في مدينة سولينغن الألمانية في أغسطس (آب) 2024، عندما أقدم منفذها على قتل ثلاثة أشخاص خلال مهرجانٍ شعبي في المدينة. وقال في رسالة مصوّرة إنه نفّذ الهجوم “من أجل شعب غزة”.
بعبارة أخرى، يحاول تنظيم “داعش” استثمار الصراع الدائر في الشرق الأوسط، وقد بدأ فعلاً بتحقيق بعض المكاسب. غير أن إرهاب التنظيم اليوم يبدو مختلفاً إلى حد كبير عمّا كان عليه قبل عقدٍ من الزمن. فمع اختفاء “الخلافة” ككيان مسيطر على أراضٍ، وقدرة أجهزة الأمن الغربية الأقوى بكثير على تفكيك الشبكات وتعطيل دور المجنّدين الكاريزميين، تغيّر مركز ثقل التنظيم على نحو واضح وأضحى معظم منفّذي الهجمات خارج أي بنية قيادة وسيطرة رسمية، وحتى إن احتفظ بعضهم بروابط محدودة مع أفراد ذوي توجهات مماثلة في أماكن أخرى، فإن هذه الروابط تُنسج غالباً عبر الفضاء الرقمي.
هنا تحديداً هو المكان الذي يجب أن تُخاض فيه المواجهة مع التهديد “الجهادي” الراهن. فالدور الذي يمكن أن تكون الفلبين قد اضطلعت به في الهجوم الأخير لا يزال قيد التحقيق، إلا أن ساحة المعركة لم تعد في المحصلة أراضي ملموسة، بمقدار ما أصبحت فضاءات رقمية تُجرى فيها اليوم عمليات التطرف بوتيرة متسارعة وبعيداً من الأنظار. هذا هو المكان الذي يعيش فيه تنظيم “داعش”، وهنا يجب أن يُهزم من جديد.
*البروفيسور بيتر رودولف نيومان هو أستاذ دراسات الأمن في جامعة “كينغز كوليدج لندن” ومؤلف كتاب “داعش: القصة من الداخل” عام 2015.



