إندبندنت: أميركا ورحلة البحث عن “النفوذ التائه” في آسيا
إندبندنت 21-9-2024: أميركا ورحلة البحث عن “النفوذ التائه” في آسيا
رابطة جنوب شرقي آسيا “آسيان” منظمة سياسية اقتصادية تعد سابع أكبر اقتصاد في العالم وتشكلت عام 1967 في بانكوك. وبدأت بدول إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وتايلاند وبروناي وفيتنام ولاوس وميانمار وكمبوديا، وانضمت إليها السعودية والمغرب عام 2023.
على عتبات رئاسة جديدة يتساءل كبار الاستراتيجيين في واشنطن عن النفوذ الأميركي حول العالم، وهل هو بالقوة ذاتها التي كان عليها عبر مرحلتين، الأولى تمثلت في نهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تلتها فترة الحرب الباردة، وكانت فيها أميركا منارة للحرية والليبرالية، في مواجهة المعسكر الشيوعي الصارم والمغلق على ذاته بستار من حديد. أما المرحلة الثانية فيمكن التأريخ لها من عند سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات، واعتبار أميركا أنها قائدة النظام الدولي الجديد بقطب واحد منفرد.
أغرى هذا الوضع جماعة المحافظين الجدد، أولئك الذين قبضوا على جمر الأحداث حتى نهاية ولاية بوش الابن الثانية، ولهذا رسموا ما يمكن أن نطلق عليه “خريطة طريق عالمية للنفوذ الأميركي”. تمثلت تلك الخريطة في مشروع القرن الأميركي، والذي صدرت وثيقته عام 1997، وفكرته باختصار بسط الهيمنة الأميركية على العالم شرقاً وغرباً، وحتى لا يطفو على السطح العالمي منافس لواشنطن.
ولكي نؤكد أنه لا فرق في السياسات الأميركية الحقيقية، تلك التي يبلور خطوطها وينسج خيوطها رجالات الدولة الأميركية العميقة وتحولت هذه الرؤية في زمن باراك أوباما إلى ما عرف باستراتيجية الاستدارة نحو آسيا، وبهدف لا يغيب عن الأعين، مواجهة وربما مجابهة الدب الروسي، ذاك الذي كان قد بدأ يستيقظ من زمن الرقاد السوفياتيين وينفض عنه تبعات الأوليغارشية التي أذلت البلاد والعباد. ومن جانب آخر، تقييد التنين الصيني براً وبحراً وجواً لو أمكن، بهدف وقف نموه، وعدم السماح له بالتمدد خارج أراضيه الواسعة والشاسعة، أراضي “الملكوت المركزي”، وهذا هو معنى الصين.
من هنا يبدو التساؤل الأول الذي يواجه الرئيس الأميركي القادم، ما رؤيتك لجنوب شرقي آسيا، لا سيما في ضوء كثير من القراءات الاستشرافية، تلك التي تقطع بأن النفوذ الأميركي هناك يتضاءل يوماً تلو الآخر لمصلحة الصين. ولعل هذه القراءة تلقي الضوء على تلك الرقعة الجيوسياسية، والتي ستشكل ولا شك مسارات الأحداث العالمية في بقية القرن الـ21.
أهمية جنوب شرقي آسيا ودول “آسيان”
في النصف الأول من القرن الـ20، وصف الجغرافي البريطاني الأشهر هالفي ماكندر القارة الأوروبية بأنها “قلب العالم”. ماكندر هو رجل الجيوسياسية الأولى في القرن الماضي، وصدق حين عبر عن وضعية أوروبا، فكانت التراكمات الرأسمالية تتصاعد هناك في أعلى عليين، لا سيما بعد خمسة قرون من الإمبريالية العالمية والاستعمار لدول العالم الثالث.
غير أن رؤية ماكندر حكماً تغيرت في العقدين الماضيين، وبدا أن قلب العالم المعاصر يتحول نحو منطقة جنوب شرقي آسيا، وانفتحت الأعين على دول “الآسيان”، وأهميتها في الحال والاستقبال.
متى وكيف أدرك المواطن الأميركي أهمية تلك الرقعة الجغرافية؟
حدث ذلك بالفعل عندما رحب الرئيس الأميركي باراك أوباما بالضيوف في القمة الأولى بين الولايات المتحدة ورابطة جنوب شرقي آسيا التي استضافتها الولايات المتحدة عام 2016، إذ بات جلياً الوزن النسبي لهذه الدول في سياقات الجيوبولتيكا المتغيرة هناك.
أما عن رابطة جنوب شرقي آسيا “آسيان” فهي منظمة سياسية اقتصادية تعد سابع أكبر اقتصاد في العالم، وتشكلت عام 1967 في بانكوك بهدف تعاون الدول الأعضاء في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية والتعليمية ولتعزيز السلام والاستقرار الإقليميين في المنطقة. بدأ التجمع بدول إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة وتايلاند وبروناي وفيتنام ولاوس وميانمار وكمبوديا، وانضمت إليها السعودية والمغرب عام 2023.
في الجلسة الافتتاحية للقمة السابق الإشارة إليها، قال أوباما “لا توجد مناطق كثيرة تقدم فرصاً أكبر للقرن الـ14 من منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولهذا السبب، قررت في وقت مبكر من رئاستي أن الولايات المتحدة باعتبارها دولة تقع على المحيط الهادئ، ستعمل على إعادة التوازن في سياساتها الخارجية والاضطلاع بدور أكبر وأطول أمداً في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وشمل هذا التعاون مع جنوب شرقي آسيا ورابطة دول جنوب شرقي آسيا، وهو يشكل أهمية بالغة بالنسبة إلى السلام والازدهار في المنطقة”.
هنا تبدو استراتيجية “الاستدارة نحو آسيا”، واضحة جداً، بل إنها المكافئ الموضوعي لفكر القرن الأميركي مع تحديد وحصر أضيق للمواقع والمواضع التي يمكن أن تشكل كتلة تنافسية للولايات المتحدة في بقية القرن الـ21.
ولعل الأرقام المجردة تعبر كذلك عن الأهمية التي تمثلها هذه الكتلة الجيوسياسية، إذ يبلغ إجمالي عدد سكانها نحو 640 مليون نسمة، وحال اعتبارها دولة واحدة فإن اقتصادها سيضحى خامس أكبر اقتصاد عالمياً، وأن قدراتها المستقبلية سواء من المنطلق الديموغرافي، أي نسبة المواليد، أو الركيزة الصناعية الابتكارية، تجعل منها حواضن قوية للانطلاق في آفاق النظام العالمي الجديد الذي بات إعلان موعده قريباً جداً. على أنه على رغم مرور عقد من الزمن على هذا اللقاء، فإنه من الواضح جداً أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن الأميركية… فما الذي جرى لنفوذ واشنطن هناك؟
نفوذ أميركا يتضاءل في شرق آسيا
أخيراً أطلق بعض المراقبين لشؤون السياسات الأميركية تعبيراً مثيراً يصف فيه مآلات السياسة الأميركية الخارجية بنوع خاص، فاعتبر أن “أعداء الولايات المتحدة لم يعودوا يخشونها وأن أصدقاءها ما باتوا يثقون فيها بالمرة”.
هذا التعبير يتسق مع نظير له، أطلق في الداخل الأميركي، وفيه أن “الولايات المتحدة بمثابة أرباب دائمة الخذلان لعبادها”، بمعنى أن البراغماتية الأميركية الحاكمة، لا صديق ولا عدو دائم لها، وإنما تتشكل المواقف وتتكون وفقاً للمصالح فقط لا للمشاعر.
من هنا ربما تغيرت نظرة كثير من دول العالم لواشنطن، والتي ما عدت تلك الدولة الطهرانية المثالية الساعية لنشر العدل ومحاربة الظلم. ففي أبريل (نيسان) الماضي، قالت مؤسسة بحثية أسترالية إن الولايات المتحدة فقدت نفوذها أمام الصين في جنوب شرقي آسيا خلال السنوات الخمس الماضية، مما يشير إلى أن جهود واشنطن لحشد حلفائها وشركائها في المنطقة لم تؤت ثمارها بعد – في الأقل من حيث القيمة النسبية.
وبحسب تقرير أصدره معهد “لووي” في سيدني، نجحت الصين في زيادة هامش نفوذها الإجمالي في جنوب شرقي آسيا في حين حققت تقدماً في المناطق التي كانت تقليدياً نقاط قوة أميركية. واستند التقرير إلى بيانات جمعت منذ عام 2018، لمؤشر القوة الآسيوية السنوي لشركة “لووي”، والذي يقيس الموارد والتأثير لتقييم القوة النسبية للدول في آسيا. يقيس المؤشر النفوذ في أربع فئات – العلاقات الاقتصادية وشبكات الدفاع والتأثير الدبلوماسي والتأثير الثقافي – ولكل منها تصنيف من 100.
وفي مقابلة صحافية مع “أستراليان فايننشال ريفيو”، قالت سوازنا بانون من معهد لووي، “من الواضح أن هناك منافسة على النفوذ في جنوب شرقي آسيا، وأن التوازن يتحول بصورة ملحوظة نحو الصين”. وأضافت أنه في حين أن الولايات المتحدة والصين ليستا القوتين الوحيدتين في جنوب شرقي آسيا، فإنهما “القوى الخارجية الأكثر أهمية، والاتجاه ليس إيجاباً بالنسبة إلى الولايات المتحدة”.
على سبيل المثال منذ عام 2018، فقدت الولايات المتحدة أكبر قدر من النفوذ في ماليزيا، إذ تراجعت سبع نقاط، وهو ما أرجعه التقرير إلى زيادة التعاون الدفاعي بين بكين وكوالالمبور. وخسرت واشنطن خمس نقاط في حالة كل من إندونيسيا وبروناي. وفي الدولة الأولى أيضاً “شهدت السنوات الخمس الماضية تقدماً كبيراً للصين في علاقاتها الاقتصادية وشبكاتها الدفاعية”.
ومن الواضح أن تفوق الصين في النفوذ، يعكس حضورها الاقتصادي الهائل في المنطقة، بخاصة علاقاتها التجارية التي تقترب من تريليون دولار مع الدول الـ10 الأعضاء في رابطة دول جنوب شرقي آسيا. ووفقاً لتقرير “لووي”، تتمتع الصين بميزة 70 إلى 30 على الولايات المتحدة عام 2022، مما يزيد من هامش ميزتها على خمس سنوات سابقة.
واحتلت الصين الصدارة من حيث النفوذ الدبلوماسي بهامش أضيق بلغ 56 إلى 44، وكذلك في كل دولة على حدة، بما في ذلك إندونيسيا، إذ سجلت الولايات المتحدة أعلى الدرجات من حيث النفوذ السياسي. ويعكس هذا العدد المكثف من الزيارات رفيعة المستوى والتبادلات الدبلوماسية التي تشارك فيها الولايات المتحدة في جنوب شرقي آسيا.
هل تهتم دول “الآسيان” بالاقتصاد أكثر من السياسة، في حين تذهب الإدارات الأميركية المختلفة، جمهورية كانت أم ديمقراطية، إلى تطويع الاقتصاد لخدمة السياسة، ما يجعل تلك الدول، ضعيفة الثقة في واشنطن؟
تراجع النفوذ الاقتصادي الأميركي
يبدو السباق والتنافس بين واشنطن وبكين سياسياً، لكن بملمح وملمس اقتصادي، غير أنه وعلى رغم محاولة واشنطن زيادة استثماراتها الاقتصادية في منطقة جنوب شرقي آسيا، فإن الصين تكسب، وقريباً يمكن أن تجتاح النفوذ الأميركي هناك… هل من سر أو لغز في هذا المشهد؟
في الـ12 من مارس (آذار) الماضي زارت وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموند الرئيس الفيليبيني ماركوس كونيور في أول مهمة تجارية واستثمارية رئاسية إلى مانيلا. وعلى رغم الاستثمارات الأميركية الكبيرة في دول رابطة دول جنوب شرقي آسيا، يبدو أن الولايات المتحدة شريك اقتصادي أقل نفوذاً لرابطة دول جنوب شرقي آسيا مقارنة بالصين.
تتوافق قصة هذه البعثة الافتتاحية مع حقيقة أكبر كثيراً مما يلوح به الدبلوماسيون الأميركيون كتعويذة، وهي أن الولايات المتحدة هي المستثمر الأكبر في رابطة دول جنوب شرقي آسيا، إذ أظهرت بيانات من صحيفة “فايننشال تايمز” أن واشنطن استثمرت 74.3 مليار دولار أميركي في بناء المصانع وغيرها من المشاريع في المنطقة من عام 2018 إلى عام 2022.
لكن كما يشتكي الدبلوماسيون الأميركيون في كثير من الأحيان، فإن النفوذ الاقتصادي الأميركي، لا يبدو أنه يعكس حجم استثماراتها. أما الصين، التي استثمرت في المقابل 68.5 مليار دولار أميركي خلال الفترة نفسها، فإنها تعد شريكاً اقتصادياً أكثر نفوذاً بالنسبة لرابطة دول جنوب شرقي آسيا.
ما سر هذا التفاوت؟
المؤكد أن التفاوت في أحجام التجارة وعدم وضوح الاستثمارات الأميركية في رابطة دول جنوب شرقي آسيا لا يفسران هذا التفاوت بالكامل، بل إن التفسير الأعمق هو أن الولايات المتحدة تبدو غير جديرة بالثقة على نحو متزايد كشريك تجاري واقتصادي. وما لم تتم معالجة هذا التصور فإن النفوذ الاقتصادي الأميركي في المنطقة سيستمر في التضاؤل.
لماذا أميركا شريك غير موثوق اقتصادياً؟
السبب هو أن رابطة دول جنوب شرقي آسيا ليست منطقة انتقائية في التعامل مع شركائها الاقتصاديين، بمعنى أنها تفضل أحدهم على الآخر مرة وإلى الأبد، إنما تسعى باستمرار إلى إقامة شراكات جديدة لفتح مزيد من التجارة والاستثمار في حين تتجنب إقامة علاقات حصرية. وعلى رغم أن المسؤولين الأميركيين يدركون هذه الحاجات، فإن تصريحاتهم تبدو في كثير من الأحيان غير متزامنة مع الخطوط العريضة للسياسة الأميركية.
على سبيل المثال، هناك جملة شائعة يرددها المسؤولون الأميركيون وهي “نحن نقدر هذه العلاقة ونحن هنا لنبقى”. ومع ذلك رفضت الولايات المتحدة الانضمام إلى اتفاقات التجارة الإقليمية، من الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة إلى الاتفاق الشاملة والتقدمية للشراكة عبر المحيط الهادئ، بسبب المشاعر المعادية للتجارة في الداخل.
أمر آخر يتسبب في فقدان أميركا لصدقيتها، وهو أن دول جنوب شرقي آسيا، تظل غير مقتنعة بالمزاعم الأميركية بأنها تسعى إلى إزالة الأخطار، وليس الانفصال، عن الصين. وأكدت الحكومات الإقليمية مراراً وتكراراً أنها لا ترغب في الانحياز إلى أي طرف وتخشى أن تعاني تنميتها الاقتصادية في حال الانفصال عن الولايات المتحدة والصين. وفي حين حاولت طمأنتها، فإن الخط الرفيع بين الانفصال وإزالة الأخطار غالباً ما يكون غامضاً إلى الحد الذي يجعله غير موجود.
لماذا يتجه حلفاء أميركا نحو الصين؟
يبدو هذا التساؤل مقضياً لمضاجع القيادات الفكرية الأميركية، سياسية كانت أم عسكرية، ومن بين هؤلاء الكاتب والباحث الأميركي ليان كيوك الذي قدم قراءة مطولة عبر مجلة “فورين أفيرز” الأميركية ذائعة الصيت أخيراً تحت عنوان “أميركا تخسر جنوب شرقي آسيا… لماذا يتجه حلفاء واشنطن إلى بكين؟”.
الثابت بحسب المقال أن معظم بلدان جنوب شرقي آسيا، باستثناء فيتنام، بدت في استطلاعات الرأي تميل إلى الصين عن أميركا. على سبيل المثال في استطلاع رأي لمعهد إسياس في سنغافورة، جرى في 2023، كان السؤال “إذا أجبرت رابطة دول جنوب آسيا على التحالف مع أحد المتنافسين الاستراتيجيين أميركا أم الصين، فمن يجب عليك الاختيار؟”. النتيجة أن 50.2 في المئة اختاروا أميركا و49.8 مالوا إلى الصين… فهل كانت هذه النتيجة مزلزلة لواشنطن؟ قطعاً نعم، لا سيما أنه إذا مضت التوقعات في هذا الإطار، فإنه بالوصول إلى 2030 سيكون نفوذ أميركا في جنوب شرقي آسيا هامشياً دون تردد لمصلحة الصين.
تقرير “فورين أفيرز” يلفت كذلك الانتباه إلى أن الولايات المتحدة فقدت شعبيتها بصورة كبيرة في البلدان ذات الغالبية المسلمة، فكشف استطلاع العام الحالي عن رفض حاد في المشاعر مقارنة بعام 2023. وقال 75 في المئة من الماليزيين و73 في المئة من الإندونيسيين و70 في المئة من المستجيبين للاستطلاع في بروناي إنهم يفضلون الصين على الولايات المتحدة، مقارنة بـ55 في المئة و54 في المئة و55 في المئة عام 2023 على التوالي.
لم يسأل المستجيبون عن سبب اختيارهم لهذا الخيار، ولكن من الواضح أنه عندما طلب سؤال مختلف من المستجيبين وهو اختيار أكبر ثلة مخاوف جيوسياسية، صنف ما يقارب نصفهم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في المقدمة، متجاوزين 40 في المئة الذين صنفوا النزاع الأقرب جغرافياً في بحر الصين الجنوبي في المرتبة الأعلى.
ومن المرجح أن يكون الدعم القوي الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل رجح كفة الميزان لمصلحة الصين، فصنف الذين شملهم الاستطلاع في البلدان الثلاثة ذات الغالبية المسلمة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين باعتباره مصدر قلقهم الجيوسياسي الأول، إذ اختار هذا الخيار 83 في المئة من الماليزيين، و79 في المئة من بروناي، و75 في المئة من الإندونيسيين. كما صنفت سنغافورة التي تضم أقلية كبيرة من المسلمين الملايو (15 في المئة) من سكانها، الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين باعتباره مصدر قلقها الأول، واختار 58 في المئة من المستجيبين هذا الخيار.
هل تحاول واشنطن تغيير هذا التوجه بصورة دعائية وقد تكون ديماغوغية في بعض الأحيان؟
هذا ما يحدث قولاً وفعلاً، فغالباً ما تتحدث وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية عن فخاخ الديون المرتبطة بمبادرة الحزام والطريق الصينية وتحذر منها، لكن مشاريع مبادرة الحزام والطريق تحظى بالترحيب بصورة عامة في جنوب شرقي آسيا لإمكانات النمو والتنمية التي توفرها للبلد المتلقي.
غير أن أحد الدبلوماسيين رفيعي المستوى من المنطقة يقول للمجلة الأميركية إن “الصين نموذج لكيفية كسب القلوب والعقول لا شك في ذلك”. ويضيف أن النموذج الصيني وجد طريقه بقوة في حياة الناس عبر دول “الآسيان”. على سبيل المثال في لاوس تلقت الشركات المحلية من الصين منذ أبريل 2023 دعماً مالياً وصناعياً كبيرين عندما تم افتتاح خط سكة حديد تابع لمبادرة الحزام والطريق يمر عبر المدينة ويربط لاوس بالصين بالكامل.
يحاجج الأميركيون هنا بأن الأموال الساخنة الصينية، تعمل خارج أطر وسياقات الليبرالية الغربية. غير أن هذه الدول، مهمومة ومحمومة بالتنمية الاقتصادية أول الأمر، كطريق يمكن أن يهيئ الأرض لنظم سياسية أكثر رحابة في تعاطيها مع شعوبها.
والأمر الآخر الذي يجعل من الدول الآسيوية تفضل الصين، هو أن بكين لا تضع لوائح متصلة بحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات وغيرها من الشروط المتعلقة بمسارات ومساقات الديمقراطية من وجهة نظر أميركية.
الصين تعزز سيطرتها آسيوياً
هل يتوقف تعاظم النفوذ الصيني في شرق آسيا على النمو والتقدم عطفاً على الشراكات الاقتصادية مع دول المنطقة؟ الثابت أنه كثيراً ما يغيب عن أعين الأميركيين، إلا النزر القليل، الذي يحاول فهم السياسة في ضوء التاريخ والجغرافيا، وله دالة على قراءة الفلسفة الصينية القدمية، والطريقة التي تتعاطى بها الصين مع دول الجوار الآسيوي.
تعامل الصين ينطلق من رؤية كونفوشيوس، وفيها أن الوجود كل أنطولوجي، يمكن أن تحدث فيه اختلافات، لكن داخل الإطار الكوسمولوجي الأوسع. أما الغرب، برأس حربته الأميركية، فلا يعرف سوى النموذج الأرسطي، إذ الظاهرة قائمة بذاتها، ومن يخرج عن مسارها، يضحى عدواً لها، ومن هنا يجب الصدام بين الظاهرة وما خارجها.
هذا الإطار النظري يبقى الركيزة الأساسية في العمل الصيني في شرق آسيا، لكن من جانب آخر، تبدو بكين أخيراً وكأنها تعزز من قدراتها العسكرية، وامتداد نفوذها الإقليمي في شرق آسيا، وهو ما تراه دول المنطقة، والتي تجزم بأن الصراع بين بكين وواشنطن قادم لا محالة، عبر “فخ ثوقيديدس”، ولهذا تحاول أن تنأى بنفسها عن الصديق البعيد، ولا تغضب الجار القريب. و”فخ ثوقيديدس” مصطلح شاع من قبل عالم السياسة الأميركي غراهام تي أليسون لوصف نزعة واضحة نحو الحرب عندما تهدد قوة صاعدة قوة عظمى مهيمنة إقليمياً أو دولياً.
ولعل المتابع للصعود العسكري الصيني في الفترة الأخيرة يدرك كيف أنها تستعد لملاقاة أميركا عبر ميليشيات بحرية وجزر صناعية، ومعها باتت بكين القوة المهيمنة في بحر الصين الجنوبي الذي يمر من خلاله تريليونات الدولارات في التجارة كل عام، وهو وضع تقدمت به خطوة بخطوة على مدار العقد الماضي، والعهدة على صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية.
ومع التحركات المتزايدة التي لم تصل حتى الآن إلى عتبة إثارة الصراع، غيرت الصين تدريجاً كلاً من الجغرافيا وتوازن القوى في المنطقة، عبر ما يمكن وصفه بالزحف البطيء أو الحرب الصامتة.
عززت الصين تحديداً حضورها في بحر الصين الجنوبي من خلال تحويل الشعاب المرجانية إلى جزر اصطناعية، ثم إلى قواعد عسكرية، بصواريخ وأنظمة رادار وممرات جوية تمثل مشكلة للبحرية الأميركية. وشكلت بكين أيضاً حرس سواحل كبير يزعج عمليات النفط والغاز البحرية لدول جنوب شرقي آسيا، وميليشيات لصيد الأسماك تجتاح مياه الصيد الغنية بالثروة السمكية لأيام طويلة.
ومن خلال بناء الجزر، وما يطلق عليه “استصلاح الأراضي”، سعى الصينيون إلى تحصين وتعزيز العمليات الإقليمية في سلسلة جزر سبراتلي في بحر الصين الجنوبي، وهي مناطق طالبت بها مجموعة من دول جنوب شرقي آسيا تشمل تايوان وفيتنام وماليزيا وغيرها.
هنا يبدو من الواضح للغاية أن الصين يمكنها بصورة أو بأخرى، وعند لحظة بعينها، أن تكون تهديداً قوياً لجيرانها وليس فقط لأعدائها، ومن هذا المنطلق يمكن فهم التوجه الخاص بدول الآسيان تجاه عدم إغضاب بكين… هل من مثال على ذلك؟
الجواب يحتاج إلى قراءة قائمة بذاتها، إذ يقودنا إلى النزاع الصيني- الأسترالي، لا سيما بعد تزويد الولايات المتحدة الأميركية الأستراليين بغواصات نووية من نوعية فرجينيا، والتي يمكن أن تحمل صواريخ تقليدية أو نووية، تهدد الحواضن الصينية في أي وقت.
كان الرد الصيني الواضح، هو أنها لن تخضع للابتزاز النووي الأميركي، وأنها قادرة على الاشتباك العسكري، في الساعة التي تشعر فيها بخوف من القادم عبر أستراليا. ومن هنا يمكن للقارئ أن يتفهم لماذا تحاول دول “الآسيان” عدم إغضاب الصين، لكن على الجانب الآخر، “هل تقف أميركا مكتوفة اليدين؟”.
ربط آسيا بأوروبا لإجهاض الحزام والطريق
المؤكد أن واشنطن دائماً ما تضع على الطاولة خيارات متعددة في منافستها مع الصين، وحتى لو كانت هي القوة العسكرية المتقدمة بامتياز على ما سواها من دول العالم، فإن ذلك لا يعني أنها توفر الأدوات الأخرى، الدبلوماسية واللوجيستية، والتي لها تأثير واضح وقوي.
هنا وفي مواجهة المد الصيني في جنوب شرقي آسيا، من الواضح أن واشنطن تريد إلحاق الضرر الكثير والكبير بالصين عبر مشروعات مغايرة. من تلك المشروعات على سبيل المثال، يأتي الحديث عن مشروع الممر الاقتصادي المرتقب الذي يربط جنوب آسيا وأوروبا عبر الخليج العربي والشرق الأوسط.
يهدف المشروع الضخم الذي تدعمه الولايات المتحدة إلى ربط قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا من خلال خطوط السكك الحديد والنقل البحري، إذ يتألف من ممرين منفصلين، أحدهما يربط الهند بالخليج العربي والآخر يربط الخليج العربي بأوروبا، في منافسة واضحة لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الصين قبل عشرة أعوام.
هل وراء هذا المشروع فكر سياسي – اقتصادي منافس للصين؟
هناك من يعتقد بالفعل أن الهدف الأميركي من هذا المشروع في الوقت الراهن سياسي بالدرجة الأولى، وذلك لتعطيل مشروع الحزام والطريق الصيني أو التأثير عليه، فالفاعلية الاقتصادية للمشروع تبدو متواضعة بالمقارنة مع منافع مشروع الحزام والطريق.
إذاً هل المنافسة على جنوب شرقي آسيا، ستحدد القوة القطبية الكبرى والأولى في النظام العالمي الجديد؟ من المؤكد أن المشروعين الصينيين لا يختلفان كثيراً على صعيد الهدف وإن اختلفا على صعيد الآليات، وفي كل الأحوال سيبقى الصراع على جنوب شرقي آسيا قائماً لوقت طويل وإلى حين تغير الهيراركية القطبية العالمية.