إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية: نفوذ روما: ما دوافع زيارة رئيسة وزراء إيطاليا إلى ليبيا؟
إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية 13-5-2024: نفوذ روما: ما دوافع زيارة رئيسة وزراء إيطاليا إلى ليبيا؟
تأتي زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى ليبيا، في 7 مايو 2024 – وهي الثانية لها منذ وصولها إلى منصبها – في توقيت حرِج؛ إذ يسيطر على المشهد السياسي الليبي حالة من الجمود السياسي، وخاصةً بعد استقالة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي، بينما تواجه إيطاليا ودول الجنوب الأوروبي تحدي السيطرة على تدفقات الهجرة غير النظامية من أفريقيا جنوب الصحراء عبر دول المغرب العربي، بما في ذلك ليبيا.
وتتزايد خطورة هذا التحدي بعد اتجاه روسيا إلى نشر قوات جديدة في ليبيا والساحل الأفريقي تحت اسم “الفيلق الأفريقي”، وهو ما يفرض تداعيات خطيرة على أزمة تدفق المهاجرين إلى أوروبا، إذا استخدمت موسكو هذه الورقة للضغط على الدول الأوروبية في سياق الصراع الدولي المتنامي حول الحرب الروسية–الأوكرانية.
أهداف عديدة
كان لافتاً أن ميلوني حرصت، خلال زيارتها إلى ليبيا، على عقد لقاءات مع طرفَي الصراع؛ حيث التقت رئيس الحكومة الليبية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة في طرابلس، ثم التقت قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر في بنغازي. ويمكن القول إن روما تسعى عبر ذلك إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:
1– تنشيط الدور الإيطالي على الساحة الليبية: يبدو أن زيارة ميلوني تستهدف تنشيط دور روما في ظل التحركات الدبلوماسية المكثفة من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بليبيا، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا؛ فقد أطلقت فرنسا مبادرة أمنية لتوحيد الجيش الليبي، واقترحت دمج التشكيلات العسكرية في قوات عسكرية مشتركة لحماية الحدود.
فيما أشارت تقارير عديدة – نفتها السفارة الأمريكية في طرابلس – إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على تدريب مليشيات تابعة لحكومة الدبيبة من خلال شركة “أمنتوم” العسكرية الخاصة الأمريكية، وتهدف إلى دمج هذه المليشيات في تشكيل عسكري موحد.
وبينما تعمل تركيا على تعزيز حضورها العسكري في الغرب الليبي، تسعى روسيا إلى توسيع نطاق نفوذها في الشرق. ويبدو أن هذه المبادرات الأمنية تهدف إلى دعم أدوار هذه القوى الدولية على الساحة الليبية، وهو ما تعمل روما على موازنته من خلال تحركاتها الدبلوماسية الأخيرة.
2– تعزيز تقارب روما مع شرق ليبيا: تعتبر هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها ميلوني بزيارة بنغازي للقاء قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر. ويبدو أن هذه الزيارة تستهدف في الأساس الحد من النفوذ الروسي، وتقديم حوافز سياسية وأمنية لاستقطاب دعم السلطات في شرق ليبيا في مواجهة موسكو.
ولا تُخفِي روما تزايد قلقها من توسع النفوذ الروسي في شرق ليبيا بعد إعلان موسكو عن استراتيجية أمنية جديدة تركز على نشر قوات “الفيلق الأفريقي” في ليبيا والساحل الأفريقي، وهو ما يُتوقَّع معه زيادة تفاقم أزمة الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا؛ حيث يمكن أن تستغل موسكو هذه الورقة ضد إيطاليا والدول الأوروبية من أجل ممارسة المزيد من الضغوط على الأخيرة؛ بسبب العقوبات التي تفرضها على روسيا نتيجة استمرار الحرب ضد أوكرانيا.
3– الحد من تدفقات الهجرة غير النظامية: تشير تقارير عديدة إلى أن زيارة ميلوني إلى شرق ليبيا ترتبط بملف آخَر غير ملف النفوذ الروسي، وهو إجراء مباحثات مع حفتر حول ملف الهجرة غير النظامية عبر سواحل شرق ليبيا؛ فبينما تراجعت مؤشرات تدفق الهجرة غير النظامية من غرب ليبيا، ظهر مسار جديد لها عبر السواحل الشرقية لليبيا، وتزايدت أعداد المهاجرين غير الشرعيين بوتيرة متسارعة خلال الآونة الأخيرة.
وكان حفتر قد أجرى زيارة إلى إيطاليا في 4 مايو 2023 لطلب المساعدة في مواجهة الهجرة غير النظامية، لكن يبدو أن زيارة حفتر لم تحقق نتائج بارزة. ومن ثم، جاءت زيارة ميلوني إلى شرق ليبيا بهدف الوصول إلى توافق حول سبل الحد من تدفقات الهجرة. وقد دعت ميلوني خلال هذه الزيارة السلطات في ليبيا للانضمام إلى مجموعة العمل التابعة لعملية روما، وهي عبارة عن مبادرة جرى إطلاقها في منتصف عام 2023 لتنسيق الإجراءات السياسية المتعلقة بالهجرة، ومعالجة الأسباب الجذرية، مثل الصراع العسكري، وانتشار عمليات الاتجار بالبشر.
4– ضمان تدفُّق الغاز الليبي إلى إيطاليا: يعد الغاز الليبي مسألة حيوية بالنسبة إلى إيطاليا، وخاصةً في ظل تراجع الإمدادات النفطية الروسية إلى أوروبا. ويُعد هذا الملف من الملفات الشائكة التي تتطلب متابعة خاصة من روما، ولا سيما في ظل التنافس الفرنسي–الإيطالي على النفط الليبي؛ حيث تشير تقارير عديدة إلى التنافس بين شركة “إيني” الإيطالية وشركة “توتال” الفرنسية على صفقات النفط في ليبيا، خاصةً أن القوى الرئيسية في ليبيا – رغم تصاعد الصراع فيما بينها – تحاول تهيئة المجال أمام استقطاب مزيد من الاستثمارات الأجنبية في هذا القطاع، لا سيما أن الاحتياطيات الليبية من الغاز تصل إلى 1.4 تريليون متر مكعب؛ ما يضع ليبيا في المرتبة الخامسة بين الدول الأفريقية المنتجة له، فضلاً عن امتلاكها احتياطيات نفطية تصل إلى 48.2 مليار برميل نفط، بنسبة 2.8% من إجمالي الاحتياطي العالمي للنفط.
تداعيات محتملة
من المتوقع أن يكون لهذه الزيارة تداعياتها على المشهدَين السياسي والأمني في ليبيا، وهي التداعيات التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1– تصاعد “الأمننة” في معالجة الملف الليبي: ولعل ذلك يُفسِّر تزايد طرح المبادرات الأمنية من قِبل بعض القوى الدولية المعنية بالملف الليبي؛ فكما سبقت الإشارة، اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاستعانة بشركة “أمنتوم” العسكرية الخاصة الأمريكية من أجل تدريب المليشيات التابعة لحكومة الدبيبة في غرب ليبيا، وهي آلية تشبه تلك التي استندت إليها روسيا عندما استعانت بقوات “فاجنر” لتدريب الجيش الليبي. وبالمثل طرحت فرنسا مبادرتها الأمنية لدمج المليشيات في قوات مشتركة، ومن ثم يمكن ترجيح اتجاه إيطاليا بدورها إلى تبني مبادرة أمنية لتعزيز حضورها في المشهد الليبي، ومزاحمة القوى الدولية الأخرى.
2– دفع إيطاليا نحو حلحلة الأزمة الليبية: ربما تسعى إيطاليا إلى زيادة انخراطها في الجهود التي تُبذَل من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو ممارسة ضغوط على القوى السياسية الليبية لعقد مؤتمر مصالحة وطنية، ودفع العملية السياسية في اتجاه إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية. ومن هنا، لا يمكن استبعاد أن تتجه روما نحو تأسيس علاقات أكثر توازناً مع القوى الرئيسية في الشرق والغرب، باعتبار أن ذلك سيجعلها أكثر قدرةً على التعامل مع خريطة التوازنات السياسية التي يمكن أن تشهد تغييرات رئيسية في حالة التوافق على إجراء هذه الانتخابات في المرحلة المقبلة.
3– تنامي الاستقطاب الدولي في المشهد الليبي: ينعكس الاهتمام الإيطالي المتزايد، بالتوازي مع اهتمام فرنسي وأمريكي، على الملفات الأمنية، وهو ما يُحتمَل أنه قد جاء كرد فعل على تعاظم الدور الروسي في أفريقيا، وبما في ذلك الملف الليبي، وهو ما يعكس في المجمل تنامي الاستقطاب بين القوى الكبرى في ليبيا، وهو ما قد يُؤزِّم الأوضاع بشكل أكبر، خاصةً مع تقارب القوى الدولية مع أطراف داخلية مختلفة فيما بينها.
4– تفاقم حدة الانقسامات السياسية في ليبيا: قد تفرض التحركات الدولية المكثفة، والزيارات المتوازية التي يُجريها مسؤولو العديد من القوى الدولية إلى شرق وغرب ليبيا، تأثيرات عكسية، يأتي في مقدمتها تفاقم حدة الانقسامات السياسية؛ إذ إن القوى السياسية الليبية ربما تعتبر أن ذلك يوفر لها هامشاً واسعاً من الخيارات وحرية الحركة على الساحتَين الإقليمية والدولية، بشكل قد يدفعها إلى التمسك بمواقفها وعدم دعم الجهود التي تُبذَل من أجل الوصول إلى تسويات للخلافات العالقة بينها، على نحو يمكن أن يؤدي في النهاية إلى تراجع احتمالات إنهاء المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
حسابات داخلية
إجمالاً، يمكن القول إن إيطاليا – على غرار القوى الدولية الأخرى – تحاول استثمار التطورات السياسية الليبية لخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية، لكن ذلك لا ينفي أن تكون هناك حسابات داخلية لها دور في توجه روما نحو إجراء تغيير في سياستها إزاء هذه التطورات؛ إذ تدرك ميلوني قبل انتخابات البرلمان الأوروبي التي سوف تُجرَى في 8 و9 يونيو 2024، أهمية الملف الليبي، خاصةً فيما يتعلق بحشد التأييد الداخلي لسياستها الخارجية، وخاصةً إزاء قضية الهجرة غير الشرعية، التي كانت جزءاً من خطابها خلال حملتها الانتخابية قبل وصولها إلى السلطة، ويبدو أنها تراهن عليها في الانتخابات المقبلة.