أقلام وأراء

إميل أمين: نظام عالمي جديد وصياغة متعثرة

إميل أمين 30-8-2025: نظام عالمي جديد وصياغة متعثرة

في العدد الأخير من مجلة الفورين آفيرز الأميركية ذائعة الصيت، تتناول أستاذة التاريخ والإستراتيجية العليا، إيوين رايان، قضية النظام العالمي الجديد، وهل القوة القارية، أي السيطرة على البر، أم القوة البحرية، أي النفوذ في البحر، هي من سيصنع ذلك العالم الجديد.

يلفت الإنتباه بداية، أن حديث النظام العالمي الجديد القادم، والذي تبدو صياغته بالفعل متعثرة، يشغل عقول كبار المثقفين والمفكرين الأميركيين، بأكثر كثيرًا جدًّا من أي عقليات أممية أخرى، آسيوية أو أوربية.

في بداية العام الجاري 2025، وبالتحديد في يناير/كانون الثاني، تناول البروفيسور توماس غراهام، الزميل المتميز في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، نفس الإشكالية مؤكّدًا على أن النظام الدولي المبني على القواعد الليبرالية الذي بنته ودعمته في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية يتفكك بوتيرة متسارعة.

هل يخشى الأميركيون بنوع خاص على الزعامةوالهيمنة التي حازوها على مدى ثمانية عقود تقريبًا، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟

ممّا لا شكّ فيه أن المشهد الأمميّ الحاليّ، يختلف طولاً وعرضًا ومساحة إجمالية، عن ذلك العالم الذي انبثق عن هزيمة دول المحور وصعود نجم الحلفاء.

لكن تلك التحالفات التي أنشاتها ظروف المواجهة مع النازي، تغيرت بدورها، ذلك أنه بعد فترة من الودّالبراغماتي إن جاز التعبير، والتي أعقبت نهاية الحرب الباردة، عادت المنافسة بين القوى العظمى بقوة، حيث وضعت الولايات المتحدة في مواجهة قوتين تنقيحيتين رئيسيتين، الصين وروسيا، في حين تسعى القوى الأصغر إلى التقرب من عضو واحد أو أكثر من أعضاء هذا الثلاثي غير الودود.

غير أنه، وعلى الرغم من هذا التنافس الثلاثي الواضح، لا يبدو هناك إجماع على الأدوات أو الآليات التي ستكفل صناعة نظام عالمي جديد، وانبلاج فجر معالم علاقات دولية، مغاير لما جرت به المقادير منذ سقوط الاتحاد السوفيتي نهاية الثمانينات وانفراد الولايات المتحدة بالقطبية العالمية.

تبدو الخطوط العريضة لهذا التنافس موضع جدل، ذلك أنه فيما يركز بعض المراقبين على السوابق الإيديولوجية من الحرب الباردة، يشير آخرون إلى التوازنات العسكرية المتغيرة، ويسلط آخرون الضوء على القادة وخياراتهم.

والحقيقة تنبع الصراعات الحديثة على النظام الدولي من خلاف طويل الأمد، وإن لم يُعترَف به، حول مصادر القوة والازدهار. ينبع هذا الخلاف من الجغرافيا، وقد أنتج عالَمَيْن متناقضين: أحدهما قاريّ برّيّ، والآخر بحريّ.

تضعنا البروفيسور رايان، أمام منظور جديد، حكمًا سيساعد في بلورة مستقبل النظام الدولي القادم، حتى وإن طال انتظاره.. ماذا عن ذلك؟

باختصار غير مُخِلّ، تقطع أن الدول التي تعتقد بوجهة النظر القارية، وفي المقدمة منها روسيا والصين، ترى في الامتداد الجغرافي، والحشد الديموغرافي، نوازع القوة الحقيقية التي تكفل لها تجييش الجيوش، وربما يتيح لها فكر التوسع والتمدد راسيا وأفقيا، وقد تغرها قوتها للسطو والإغارة على ما هو قريب منها من دول، ومثال الأزمة الروسية–الأوكرانية، حاضر في الأذهان، وعندها أن غالبية تلك الدول تقود العالم إلى مزيد من الصدام.

النموذج الآخر هو النموذج البحري، أي الدول التي تتحَصَّنُ أو تتخندق ببحار أو محيطات توفر لها نوعًا من الأمن النسبي من الغزو الخارجي.

هنا تطفو الولايات المتحدة الأميركية على سطح الأحداث، فقد وهبتها الطبيعية موقعًا وموضعًا، بين محيطَيْن يمثلان بالنسبة لها حراس الجغرافيا إن جاز التعبير، فمن الشرق المحيط الأطلسي، ومن الغرب المحيط الهادئ.

ولأنّ الجغرافيا هي ظلّ الله على الأرض، فقد مكنها ذلك من أن تصنع تاريخها، والتاريخ هو بصمة الإنسان على الحياة المعاصرة.

لم تنشغل واشنطن كثيرًا بالعالم البعيد، وإنما جلّتركيزها أنصب على نصف الكرة الأرضية الغربي، والذي اعتبره الرئيس مونرو، فضاءً جيوسياسيًّا يتوجب أن يظل طويلاً مسخَّرًا لخدمة واشنطن.

هذا الوضع مَكَّنَ أميركا من التركيز على مضاعفة ثرواتها بدلا من محاربة جيرانها، وأنتج هذا المفهوم قناعة مفادها أن المال لا الأرض هو مصدر القوة، فالأموال هي التي تعزز الرخاء المحلّيّ من خلال التجارة الدولية والصناعة، مما يقلل من الموازنة بين الاحتياجات العسكريّة والمدنيّة.

هذا التحليل الجيوسياسي، يأخذ في عين الاعتبار رؤية مفادها أنه فيما تنجذب القوى المهيمنة القارية نحو إستراتيجيات اللعبة المحدودة، حيث يأخذ الفائز كل شيء، والتي تدمر المهزومين، يفضل أصحاب المصلحة في النظام البحري اللعبة اللانهائية المتمثلة في مضاعفة الثروة والمعاملات ذات المنفعة المتبادلة، أي أنهم ينظرون إلى جيرانهم كشركاء تجاريين، لا كأعداء.

السؤال المهم هنا: “ماذا لو قمنا بتطبيق هذا التحليل على روسيا والصين والولايات المتحدة؟”

المؤكد أننا سنجد في كل حالة نوعًا من التطابق، لكن أيضًا من التنافر، فروسيا نعم استغلت قوتها القارية في غزو أوكرانيا، لكنها نجحت في خلق علاقات جيدة متجددة مع جوارها من جمهوريات الاتحاد السوفيتيّالسابقة.

الصين بدورها، ورغم نظامها الذي يراه الكثيرون قمعيًّا في الداخل، وبنوع خاص تجاه الأقليات مثل الإيغور، نجدها صاحبة أكبر مشروع خارجي عالمي، الطريق والحزام، للوصل والتواصل مع العالم الخارجي، حتى وإن كان من منطلق منفعية ذاتية مجردة.

أمّا عن الولايات المتحدة الأميركية فحَدِّثْ ولا حَرَجَ، ذلك أنه رغم قوتها ومنعتها الحالية، فإن التساؤل الذي لا ينفك يطرح على موائد النقاش حتى الساعة “هل لا تزال أميركا الدولة التي لا يمكن الاستغناء عنها، أم بات من الممكن بمكان، أن يحدث هذا الاستثناء، وليس شرطًا أن تجري به المقادير دفعة واحدة، فلربّما يجري الأمر الهُوَيْنى لكن في المدى الزمني المنظور يتحقق الهدف.

هنا لا بدَّ من الإقرار بالحقيقة، وهي أنه مع تضاؤل هامش التفوق الذي تتمتع به الولايات المتحدة على القوى الأخرى، تكتسب مراكز جديدة للقوة العالمية، غير ليبرالية في أغلبها، مثل الصين وربما الهند، عطفًا على روسيا–من منظور أميركي– السلطة والنفوذ. وبشكل عامّ تتدفق القوة والديناميكية العالمية بعيدًا عن المجتمع الأوروبي الأطلسي، الذي يُشَكِّل جوهر النظام الليبراليّ. ورغم مقاومة الولايات المتحدة لهذه الفكرة، فإن العالم يتجه نحو التعددية القطبية غير الليبرالية إن لم تكن بالضرورة معادية لليبرالية.

هنا يَعِنُّ لنا أن نتساءل: هل كانت القوى الغربية التقليدية، وفي جانب كبير منها، إمبريالي تقليدي، سببًا مباشرًا في انفراط عقد تعلق الامم والشعوب بها؟

يحتاج الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة إلى قراءة خاصة مُوَسَّعة، غير أنه بدون تطويل، يمكن القول إن الأحادية الأميركية، والتي تمثلت مؤخرًا في فكرة التعريفات الجمركية ستؤدي دون شكٍّ إلى سحب الاستثمارات الأجنبية من الداخل، ما سيقود إلى تآكل مستويات المعيشة في البلاد، أما الأكثر خطورة فهو تراجع قدرة الجيش الأميركي.

في هذه الأثناء سوف تكتسب العلامات التجارية الأوروبية والآسيوية، وحتى البرازيلية والتركية، حصّة سوقيّة على حساب الشركات الأميركية، بينما ستبتعد المعايير التقنية لمنتجات السيارات وتقنيات الخدمات المالية بشكل متزايد عن المعايير الأميركية.

ربما يتوجب على أميركا اليوم أن تتذكر أنها انتصرت بنموذجها الأخلاقي والرؤيوي في الحرب العالمية الثانية، قبل قوة السلاح، ما جعل منها القطب الأعلى يدًا، حتى في وجود الاتحاد السوفيتي.

هل يتعين على العم سام أن يراجع أوراقه من جديد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى