أقلام وأراء

إميل أمين: ميركل وروسيا زمن الحقيقة الغائبة

إميل أمين 11-11-2025: ميركل وروسيا زمن الحقيقة الغائبة

تقترب الأزمة الروسيّة-الأوكرانيّة من أربع سنوات، ومع ذلك لا يبدو أنّ هناك في الأفق حلًّا واضحًا، شافيًا وافيًا يُوقِف الحربَ بدايةً، ويقضي على جذور الأزمة من أعماقها من جانب آخر.

والشاهد أنه بعد نحو عشرة أشهر من عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، يبدو واضحًا أن الوعود البَرَّاقة التي أطلقها قبل ولايته الثانية، قد ذهبت أدراج الرياح، لا لسوءِ نِيّة من جانبه، بل رُبّما جانَبَهُ الصواب في تقدير المشهد على الأرض، وقراءة دوافعه، سِيَّما أن المعروف عنه أنّه رجلٌ عاطفيٌّ اندفاعيٌّ، ورغم لقاء آلاسكا، إلا أن شيئًا حقيقيًّا لم يتبلور على الأرض، بل على العكس تبدو المسارات في طريق معاكس للرغبة في وقف إطلاق النار، وبدء مسيرة تصالحيّة تسامحيّة.

هذا الانسداد الحادث في أكبر أزمة عسكريّة تشهدها القارة الأوروبّيّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، ربما تستدعي حفرًا عميقًا لمعرفة سبب نشوئها وارتقائها من جانب، ومن جانب آخر العمل على تجَنّب أزمات مشابهة في مواقع أو مواضع أوروبية مشابهة، لا سيّما بعد أن باتت “الروسفوبيا”، متغيّرًا حاضرًا على موائد الأوروبيين في الوقت الراهن بقوة.

في هذا السياق ولمزيد من الفهم، يحتاج المرء ربما إلى التوقف مع آراء بعض من أكثر العقول الأوروبية نضوجًا وخبرةً، بل ومقدرة على فكّ رموز الأزمات، كما هي في أصلها وفصلها، لا كما يريد البعض أن يصورها لنا.

من أكثر الرموز الأوروبية المعاصرة في العقود الأخيرة حنكةً ودرايةً، تأتي المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، حيث قادت البلاد عبر أزمات كبرى مثل الأزمة المالية العالمية وأزمة منطقة اليورو وأزمة الهجرة وجائحة كورونا. اشتهرت ميركل بحكمتها وتوازنها وواقعيّتها، وحظيت بشعبية واسعة، رغم أن سياساتها أثارت انتقادات بشأن قضايا البيئة وعلاقاتها مع بعض الزعماء، كما أن البعض يرى أنها فَضَّلت الاستقرار على التغيير الإصلاحي.

في أوائل أكتوبر/ تشرين أول المنصرم، بدا وكأنّ تصريحات جديدة للمستشارة السابقة، بشأن أصول وجذور الأزمة الأوكرانية، والأسباب التي قادت إلى تحَوّلها إلى مواجهة عسكرية شرسة منفلشة على النحو المخيف الحاليّ.

هل كان هناك جانب كبير من الخطأ من قبل بعض من دول أوروبا الشرقية، عطفًا على دولة أوروبية تُعَدُّ العقل السياسي للقارة العجوز، أي فرنسا تحديدًا، قاد إلى هذا المصير المؤلم؟

المعروف أن الجميع يُحَمِّل الرئيس بوتين، وِزْر الصراع، ويلقي على عاتقه اللومَ كلَّه، وبل وتُكال له الاتّهامات، وبخاصة حلم إعادة الإمبراطورية القيصرية، ورغبته في التمَدّد جغرافيًّا لجهة دول أوروبا الشرقية، لكن أحدًا لم يفكر ولو لوهلة صغيرة، أن جزءًا من الخطأ قد يقع على عاتق أطراف أخرى.

نهار الثالث من أكتوبر الماضي، وفي مقابلة صحفية لميركل مع صحيفة بارتيزان المجرية المعارضة، أشارت ميركل إلى رفض دول أوروبا الشرقية السماح بإجراء محادثات مباشرة بينها وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الفرنسي إيمانويل ماكرون عند وصفها للأحداث التي سبقت غزو موسكو لأوكرانيا عام 2023.

هل كشفت ميركل عن بعضٍ من الأخطاء العميقة التي كانت سببًا في إغلاق سيد الكرملين أبواب الأحاديث السلميّة، وفتح عوضًا عنها أبوابَ النار والدمار، ما قاد إلى الوضع الحاليّ؟

غالب الظنّ أن هذا ما جرت به المقادير بالفعل، فقد أشارت سيدة ألمانيا المهمة إلى أنه في يونيو/ حزيران 2021 شعرت بأن رجل الكي جي بي القديم، لم يَعُدْ يأخذ اتّفاق مينسك 2015 على محمل الجِدّ.

بعقليتها السياسية ذات الرؤى الاستشرافية، وخبرتها السياسية العميقة، أدركت ميركل أنه لا بدَّ من تحرُّكٍ سريع، درءًا للكثير من المخاوف التي تحملها البدائل السيئة، وفي مقدمها تغليب العسكرة على السياسة.

في هذا التوقيت وقبل ثمانية أشهر من فبراير/ شباط 2022 حين بدأت الحرب، أرادت ميركل صيغة جديدة تُهَيّئ السبل القويمة للحديث مع بوتين مباشرة.

لاحقًا وفي اجتماع المجلس الأوروبي في الشهر نفسه، اقترحت ميركل وماكرون إجراء مفاوضات مباشرة مع قادة آخرين ردًّا على حشد القوات الروسية قرب حدود أوكرانيا.

كان من الواضح أن بوتين قد وَقَرَ لديه أن الأوكرانيين يسوفون الوقت، وأن الناتو يخطط بصورة أو بأخرى للتمدد شرقًا، ومن غير اعتبار لأية التزامات سابقة قد قطعها قادته على أنفسهم، غداة سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكيك هيكله، الأمر الذي لا يزال بوتين يعتبره الخطيئة الكبرى المميتة في القرن العشرين.

لكن الذي حدث هو أن تحالفًا من دول أوروبا الشرقية، بما فيها بولندا، عارضت الفكرة، وربما كانت بولندا بنوع خاص هي أكثر الدول التي وقفت في وجه الطرح الألماني لصاحبته المستشارة الألمانية ميركل.

هنا يَعِنّ لنا التساؤل: “هل كان العنت البولندي، داخلي أم خارجي؟”

القصد هنا، هو البحث عن السبب وراء رفض الألمان محاولة حلحلة الأزمة قبل أن تتطور، وما إذا كان العداء البولندي التاريخي للروس هو السبب في المزيد من التفاهمات مع سيد الكرملين، أم أن الولايات المتحدة الأميركية وثيقة ولصيقة الصلة ببولندا اليوم، هي المَرَدُّ الرئيس في الوضع الجديد، وبخاصة في ظلّ الرهان الأميركيّ على أن تضحي بولندا القاعدة العسكرية المتقدمة للإمبراطورية الأميركية، في مواجهة روسيا العائدة من جديد كما الفينق.

يلاحظ القارئ أن حديث المستشارة الألمانية وتصريحاتها، لم تَرَ الضوءَ عبر صحيفة بريطانية أو فرنسية، ولا حتى إيطالية أو فرنسية، وإنما جاء عبر صحيفة مجرية، والمجر تبدو بشكل كبير في الصفّ الروسيّ، ومواقف رئيس وزرائها فيكتور أوربان، متشددة بالضّدّ من أوكرانيا وزيلنسكي، بل إنها وقفتْ في وجه فكرة الدعم المالي الكبير لكييف، على الرغم من العلاقة الجيدة جدًّا التي ربطتْ أوربا بالرئيس الأميركي ترمب.

كانت تصريحات ميركل في واقع الأمر سببًا لثورة العديد من مسؤولي دول أوروبا الشرقية، وبولندا بوجهٍ خاصٍّ.

في البداية، تكلم رئيس الوزراء اللاتفي السابق كريسيانس كارينس، الذي اعتبر أن العديد من الدول لم تفهم روسيا في ذلك الوقت، بما في ذلك ألمانيا والمستشارة السابقة نفسها.

يقول كارينس: “أخبرتها باستمرار أنه لا يمكن التعامل مع بوتين بحسن نية، لكنها كانت تعتقد أن دول البلطيق مخطئة. كنت على دراية تامة ببراعة ميركل، لكنني مندهش من أنها لا تزال تفكر بهذه الطريقة بعد كل ما حدث في أوكرانيا”.

لم يكن مسؤول لاتفيّا وحده من فتح الباب واسعًا للقدح في حقّ ميركل، فقد جاء رئيس الوزراء البولندي السابق ماتويش مورافيتكسي، نائب زعيم حزب القانون والعدالة القومي المعارض، ليضيف المزيد من النقد.

على موقع إكس كتب يقول: “من خلال مقابلتها غير المدروسة، أثبتت ميركل، أنها من بين السياسيين الألمان الأكثر ضررًا بأوروبا في القرن الماضي”.

هل كانت ميركل على خطأ أم قادة أوروبا الشرقية؟

المؤكَّد أن هناك فرصة ضائعة، فلربما كان من الأجدى الأخذ برأي المستشارة الألمانية، عوضًا عن تصلب الرأي الذي قاد إلى المأساة الحاضرة.

في هذا السياق، تبقى دروس التاريخ حاضرة، وأولاها أن الماضي لا يموت، وأن الإرث البغيض للاتحاد السوفيتي، لا يزال قائمًا وقادمًا في نفوس الأوروبيين شرقيين وغربيين، ولهذا قد يحتاج الأمر إلى أجيال جديدة من أجل بناء ثقة أوراسيّة تقطع الطريق على مزيد من الحروب.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى