أقلام وأراء

إميل أمين: فلسطين وزمن الاعتراف الكبير

إميل أمين 27-9-2025: فلسطين وزمن الاعتراف الكبير

بدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عمرها الثمانيني، موعداً مثيراً لا سيّما فيما يتعلق بقضية الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة.

جاءت الاعترافات الأخيرة من المملكة المتحدة، المثقلة تاريخياً بوزر “وعد بلفور”، مروراً بكندا، فأستراليا، ثم البرتغال، والبقية الباقية تأتي، في سياق دعم الجهود الرامية لإنهاء أزمة طال استفحالها، ومن أجل بناء مستقبلٍ سِلْمِيٍّ واعد لسكان منطقةٍ بات الموتُ فيها عادةً، وكاد الأمل أن ينطفئ.

يمكن القطع بأنّ جهود المملكة العربية السعودية بالشراكة مع فرنسا، قد أحدثت حراكًا إيجابيًّا فَعَّالاً، أكَّد للعالم أنه لا سلام أمميًّا، من غير عدالة فلسطينية، وقد بدا ضمير العالم الإنساني في العامين الأخيرين، يَئِنّ من جَرَّاء بشاعة الإبادة وهول المجازر، ما يفتح الباب عالميًّا للمزيد من “مسكونيّة الكراهية”، إن جاز التعبير.

قبل أسبوعين، أقرَّت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان نيويورك، أي المبادرة السعودية الفرنسية، لإحياء ودعم فكرة حَلِّ الدولتين، والذي حدد خطوات ملموسة ومحددة زمنيًّا ولا رجعة فيها نحو “حَلّ الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين”.

لفت النظر تصريحات الأمين العام أنطونيو غوتيريش، الذي رأى أنه: “على العالم ألا يخشى ردود الفعل الإسرائيلية على الاعتراف بدولة فلسطين، معتبرًا أن إسرائيل تواصل سياسة تقضي بتدمير قطاع غزة وضَمّ الضفة الغربية”.

غوتيريش وفي مقابلة له مع وكالة فرانس برس، كان وبجلاء تامّ يوضح المُوَضَّح: “سواء قمنا بما نقوم به أم لا، هذه الإجراءات ستستمر”، في إشارة لا تخطئها العين للغيّ الإسرائيليّ السادر، حيث إزهاق الأرواح اليوم في غزة، يصيب الضمير الإنسانيّ الحرّ بالقلق نهارًا والأرق ليلاً، والمخططات للضفة الغربية آتية لا ريبَ فيها.

هل موجة الاعترافات الكبيرة من دول كبرى حول العالم، أمر يمثل قيمة وازنة، أم أنه مجرد فعل رمزيّ، لا فائدة منه ولا طائل من ورائه؟

يحاجج البعض بأن فعل الاعتراف عينه ينضوي على شجاعة أدبية مقدرة، تنسجم وآليات القانون الدولي، وتتسق مع قرارات الشرعية الدولية، حيث تسعى لوضع حدٍّ لإنهاء الاحتلال، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

زمن الاعتراف الكبير، يفيد بأن القوة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، لم ولن تفلح في كسر الإرادة الدولية، حيث روح القوانين من عند مونتسيكيو وحتى الساعة، لا تقوم على أَسِنَّة الرماح وسنابك الخيل، ناهيك عن التهجير والضم غير القانوني لأراضٍ محتلة.

تفتح الاعترافاتُ طريقًا واسعًا لليوم التالي، بمعنى أنها تعزز المسيرة نحو تحول فلسطين من دولة مراقبة في الأمم المتحدة، إلى دولة كاملة العضوية، قادرة على تطوير علاقات دبلوماسية في أعلى صورها، بجانب تأكيد الشخصية القانونية والولاية الدولية المعترف بها عالميًّا، ريثما يتم تجسيد الأمر على الأرض.

لكن وعلى جانب آخر، يحاجج البعض بأن الاعترافات مجرد عملٍ رمزيّ، وأنها لن تحرك أو تغير ساكنًا على الأرض، في ظل التعنت الإسرائيلي، والدعم الأميركي لحكومة نتنياهو، وأنه ربما كان هناك أمل في مثل تلك الاعترافات لو جاءت قبل عقدين من الزمان في أوائل الألفية.

غير أن هذا حديثٌ مردود عليه، ذلك أنه وحتى لو كان صحيحًا أن الاعتراف عملٌ رمزيٌّ، إلا أن الرمزية ليست أمرًا سيئًا دائمًا، بل تترتب عليها فرص العمل الحقيقي، ومراكمة النجاحات تجعل الأمر حقيقة واقعة على الأرض، في ظل علم فلسطيني، وسفارات أممية وشراكات دولية.

الخطوة التالية من تلك الدول غالبَ الظنِّ ستمضي في ذات اتجاه النموذج الفرنسي، الذي يعترف بالدولة الفلسطينية على حدود العام 1967، وما يتبعه من إجراءات عملية على الأرض بهدف إجبار الحكومة الإسرائيلية على الانصياع لإرادة السلام الدولية.

في هذا الإطار يقول قائل: “وما فائدة تلك الاعترافات طالما ظلَّ الموقف الأميركي رافضًا لفكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة، حيث أظهر ترامب في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع رئيس الوزراء البريطاني قبل بضعة أيّام، تصلبًا يُفهَم منه معارضة صريحة لمفهوم الاستقلال الفلسطيني ذاته، وهو ما كان وزير خارجيته مارك روبيو قد أشار إليه في 15 سبتمبر الجاري خلال زيارته لإسرائيل، باعتبار الدولة الفلسطينية والاعتراف بها “مكافأة للإرهاب” على حَدِّ قوله.

هذا الموقف حكمًا لن يدوم طويلاً، وبخاصة بعد أن قدمت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين، وَيَا لَلمفاجأة، الديمقراطيين المعروفين بدعمهم لإسرائيل بالمطلق، مشروعَ قرارٍ لمحاولة حثِّ الولايات المتحدة على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

لاحقًا، جاء لقاء الرئيس ترامب مع عدد من الزعماء العرب والمسلمين، في نيويورك، ليفرز ما يمكن أن يكون بداية جديدة ومُوَفَّقة إنْ صَدَقَتْ للتوصل إلى نهاية لأزمة غزة التي طالت.

الرئيس ترامب قَدَّمَ ما يشبه خارطة طريق من 22 نقطة، تسمح بجلاءٍ بوضعِ حدٍّ لمأساة قاربت الأعوام الثلاثة، حتى وإن كانت الشياطين تكمن في التفاصيل.

أهمية ما جاء به الرئيس ترامب تتمثل في أن واشنطن هي القوة الوحيدة القادرة على الضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وثَنْيِهِ عن مُخَطَّطاته.

يخشى الكثيرون من أن تكون زيارة نتنياهو إلى واشنطن نهار الاثنين المقبل، مدخلاً للتراجع عن رؤية ترامب، لا سيما أن هناك وزير خارجية أميركيًّا مغرقاً في توجهاته اليمينية، ومعه يخشى الكثيرون من أن ينجرف سيد البيت الأبيض مرةً ثانية ناحية حديث إسرائيل الكبرى، ذاك الذي يملأ عقل ورأس نتنياهو، بل ويعمل جاهدًا على السعي في إثره صباح مساءَ كلِّ يوم.

تبدو الولايات المتحدة الأميركية في هذه الأثناء أمام اختبارٍ حقيقيٍّ لعلاقاتها وتحالفاتها مع العالم العربي، بكل مُقَدَّراته البشرية وموارده الاقتصادية، ماضيه ومستقبله، وبخاصة في ظلّ الغيّ الإسرائيلي السادر، والجميع ينتظر موقفًا أميركيًّا نزيهًا، ووساطة عادلة، حتى وإن لم تكن بالمطلق، مع الأخذ في عين الاعتبار، وهذا ما يدركه العقلاء من الأميركيين، أن عالمًا من التعدّديّة قادمٌ لا محالةَ، وأن توازنات القوى على كافة الصعد، لن تظلّ في صالح واشنطن بالمطلق، فهناك صيحات وصحوات آتية لاريب فيها، من فواعل دوليين، وعليه سيكون من الخسارة الكبيرة لأميركا، انسلاخ العالمين العربي والإسلامي عن تحالف وثيق دام معها قرابة ثمانية عقود، وكان لدول بعينها مثل المملكة العربية السعودية، أدوارٌ فاعلة في زمن الحرب الباردة، مَثَّلت فيها وبقناعات إيمانية ووجدانية وروحية، بيضة القبان في مواجهة التمدد الشيوعي في منطقة الخليج العربي، حيث سائل الحضارة الغربية المعاصرة أي النفط، من جهة، ومن جهة ثانية التصدي لتلك الإيديولوجية التي اعتُبِرَتْ أكبر خطر في مواجهة الرأسمالية في النصف الثاني من القرن العشرين.

هل انتهى زمنُ عطارد الإسرائيليّ رَبِّ الزئبق عند الرومان القدماء، القادر على اتخاذ أيّ شكل يريد ليخدع ويدمر من يشاء في جبل الأوليمب، جبل آلهة اليونان؟

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى