إميل أمين: عن لقاء الجنرالات ومبدأ مونرو

إميل أمين 9-10-2025: عن لقاء الجنرالات ومبدأ مونرو
هل من علاقة بين لقاء الجنرالات الفريد من نوعه والذي شهدته الولايات المتّحدة الأيّام القليلة الماضية، بالأوضاع الجيوسياسيّة في النصف الغربيّ من الكرة الأرضيّة؟
الذين قُدِّرَ لهم متابعة كلمة وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث، يوقنون بأنَّ واشنطن تكاد تتهيّأ لعالم جديد من الحروب، لكنّها غالب الظنّ حروب في الجوار، لا حروب على مسافات بعيدة… ماذا يعني هذا الحديث؟
قبل الجواب، ربّما يتعيّن علينا التوقُّف أمام فكرة أحد أهم المبادئ الجوهريّة الحاكمة للجيوساسة الأميركية، لا سِيّما في النصف الغربيّ من الكرة الأرضيّة، ونعنى بها “مبدأ مونرو”، وفيه يجب ألّا يكون هناك شريك أو منافس للولايات المتحدة الأميركية في الأميركتين الشمالية والجنوبية، وأن تظلّ اليد العليا لواشنطن في الحلّ والترحال، في الحال والاستقبال.
الذين يَعُونَ تاريخ الستّينات من القرن المنصرم، يعلمون كيف أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة في عصر الرئيس جون كيندي، كادت أن تدخل حربًا نوويّة مع الاتّحاد السوفيتيّ، من جرّاء قصّة صواريخ كوبا التي تَطَال كافّة الولايات الأميركية، ولولا بقيّةٌ من حكمة أميركيّة سياسيّة أظهرها دهاقنة السياسة هناك، لربّما كان العالم قد عرف وللمرة الأولى الشتاء النوويّ.
هل بدأ النفوذ الأميركي في الجانب الآخر من العالم يأفل، ضمن ما يعرف برؤية “خسارة فرط الامتداد الإمبراطوري؟” وهل كان خطاب هيغسيث ولقاء الجنرالات، هدفه الأكبر هو مراجعة أوراق جيران الولايات المتحدة بنوع خاص؟
الأمر في واقعه يحتاج إلى نظرة أوّليّة على أميركا الشمالية، حيث آلاسكا في أقصى الشمال، وهذه بدا واضحًا في الأعوام القليلة الماضية أنها ستكون مثارًا ومدارًا للكثير من المشاحنات، لا سِيّما بعد أن علت أصواتٌ بعينها في روسيا الاتحادية، تقطع بأن عملية بيعها للولايات المتحدة قد شابها الكثير من الغشّ والتدليس، وأنه حان الوقت الذي يتم فيه استرجاع تلك المنطقة الواسعة الشاسعة، والتي تخفي الكثير من الثروات الطبيعية، ناهيك عن موقعها الإستراتيجي.
هذه الجزئيّة تحديدًا تكشف لنا لماذا اختار الرئيس ترمب، لقاء القيصر بوتين مؤخّرًا هناك، فقد كان في الأمر إشارة رمزية لا تخطئها العين المجرّدة.
بالتوجُّه جنوبًا، تبدو كندا في الأشهر الثمانية الأولى من ولاية الرئيس ترمب غير مرتاحة لعلاقتها مع هذه الإدارة، وإن كان من الصعب فَصْل الجارَيْن الكبيرَيْن، لكن طرح ترمب الخاص بضمّ كندا وجعلها ولاية أميركية، حكمًا فتح الباب واسعا أمام خيارات كندا الدبلوماسية لتعميق علاقاتها الاقتصاديّة بنوعٍ خاصٍّ، مع القوى القطبيّة الوليدة، وفي القلب منها الصين الاشتراكية.
جنوب الولايات المتحدة، لا يبدو أنّ هناك رفاهية للمكسيك في إظهار أيّ نوع من العداوات لأميركا، والتي تطارد قوّاتها الخاصة كارتلات المخدّرات، ما يجعل من خيارات المكسيك في تنويع علاقاتها الدوليّة وبخاصّة الاقتصادية قليلة إلى حَدٍّ كبير.
غير أنّ ما يجري في قلب القارة الأميركيّة اللاتينيّة، يشي بأن هناك صراعًا اقتصاديًّا كبيرًا من جانب الصين، ربّما يتحوّل عمّا قريب إلى مواجهةٍ عسكريّة، خلال بقيّة العقد الجاري.
هل يعني ذلك أن الصين تتجَهَّزُ عسكريًّا لغزو القارة اللاتينية؟
المؤكَّد أن ليس هذا هو النسق الكونفوشيوسيّ في التعامل مع العالم الخارجيّ، أو على الأقلّ في الوقت الراهن والذي تسعى فيه الصين لبناء قطبيّتها، حيث المراحل الأولى تنشغل فيها القوى الصاعدة بتعظيم أوضاعها الاقتصاديّة، ثم تاليًا تنشئ على ضفافها قوّة عسكريّة جَبّارة للحفاظ على مصالحها الاقتصاديّة، ومن بعد تأتي خطوة الدخول في مواجهات بغرض حماية تلك المصالح، حربًا أو سلمًا، وصولا إلى مرحلة الانعزالية التي تعاني منها واشنطن اليوم، وفي ضوئها تبدو أنها تعيد قراءة حضورها الأمميّ في نصف الكرة الغربي.
ما الذي تقوم عليه الصين إذن في حاضرات أيّامنا؟
يعتبر “روبرت جيويا”، الباحث في المجلس الأميركي للسياسة الخارجية بواشنطن، أنّ الصين تنشئ إمبراطورية من الخرسانة في أميركا الجنوبيّة، والمصطلح له دلالاته المنعكسة على البِنْية التحتيّة لعددٍ كبير من دول القارّة الثريّة بمواردها الطبيعيّة، وربما الفقيرة من حيث طرائق الإدارة والأفكار، ناهيك عن الأدوات الحديثة في الإعمار والابتكار.
لم تَعُدْ الصين اليوم مجرّد شريك تجاريّ للقارة اللاتينية، بل فاعل رئيس على صعيد الموانئ وخطوط الشحن، السكك الحديديّة، المصانع الرئيسية، بل إنّ قضية قناة بنما، تُظْهِر لنا مقدار الانزعاج الذي تعيشه واشنطن من النفوذ الصيني هناك.
ولعلَّ رؤيةً مُعمَّقة للعلاقات الصينيّة–اللاتينيّة، تُظهِر لنا أن المشهد بات يتجاوز ما هو إيديولوجيّ شِعاراتِيّ، إلى حَيّز البراغماتيّ النفعي الذرائعي، وبصورة تبادل منفعيّ خَلّاق للطرفَيْن.. ماذا يعني ذلك؟
باختصارٍ غير مُخِلّ، لم تَعُدْ العلاقة بين دول مثل فنزويلا، المطاردة باتهامات اتباع اليسار، منذ زمن طويل، والصين، مجرَّد جريان في إطار رؤى سياسيّة ذات أبعاد فكريّة معيّنة، بل باتت هناك مصالح مادّيّة عميقة تسعى بكين من ورائها إلى تجذير حضورها الجيوسياسيّ والاستفادة من الموقع والموضع القريب والمزعج لواشنطن من جهة، والنهل من الموادّ الخامّ المتوافرة بكثرة في تلك المناطق.
هل من مثالٍ على ما نقول به؟
خُذْ إليك على سبيل المثال لا الحصر، ما أعلنتْ عنه الصين في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2024 حول قيامها بإنشاء مشروع ميناء ضخم في منطقة تشانكاي في بيرو، والذي تبلغ تكلفته الأولية نحو 1.3 مليار دولار، وحضر حفل تدشينه الرئيس الصيني جين بينغ بنفسه، في إشارة إلى الأهمّيّة الإستراتيجية للمشروع.
ما تقوم به الصينُ في أميركا اللاتينية، يتضمّن نوعًا من الذكاء السياسيّ، والذي تراه واشنطن ضارًّا بها، ذلك أنها توفر تسهيلات ماليّة ملياريّة وليست مليونيّة فحسب للمشروعات العملاقة في دول القارّة اللاتينيّة، وتتطلع إلى المكاسب قصيرة المدى من خلال المقابل المتمثّل في الموادّ الخامّ وفي مقدّمها النفط والمعادن، تلك التي تبدو ذات أهمّيّة فائقة في دعم وزخم نهضة الصين العالميّة، وعلى المدى البعيد تكتسب نفوذًا جيوسياسيًّا قريبًا من الولايات المتحدة التي ترفض أن تقدم مثل هذا القروض، لا سِيَّما في زمن إدارة الرئيس ترمب وتضييقاته الماليّة بنوعٍ خاصٍّ على القاصي والداني.
ولعلّ في المشهد جزئية بعينها، تخيف الولايات المتحدة في قادم الأيام، ذلك أنّ بكين تسعى بشكلٍ واضح في طريق السيطرة على الموانئ في كافّة الدول التي تدخل معها في شراكات اقتصاديّة أو سياسيّة، والموانئ كما هو معروف، هي روح التجارة العالمية حتى الساعة، وما من بديلٍ عنها، ومعنى ذلك أنّ من سيسيطر على موانئ العالم، سيقدر له التحكم في حركة التجارة العالمية.
هل تتفهم إدارة الرئيس ترمب هذا المشهد؟
المؤكَّد أن هناك في القلب من مراكز الدراسات والأفكار المهمّة في الداخل الأميركيّ، لا سِيَّما مؤسسة “راند” عقل البنتاغون النابض، من يدرك أنّ العداءَ الحالِيّ والمواجهة المسلحة مع دول أميركا اللاتينيّة، هو كعب أخيل للصينيّين، الأمر الذي سيمهّد لهم الطريقَ نحو المزيد من إمبراطوريتهم في دول القارّة اللاتينيّة، ما يعني أنّ هناك حاجة ماسّة لواشنطن تعيد من خلالها عقد مقاربات بين القوّة الناعمة والقوّة الخشنة، بين نموذج كونفوشيوس الصينيّ، والنموذج الصداميّ الأرسطيّ الغربيّ في الحال والاستقبال.