إميل أمين: روسيا وأفريقيا براغماتية مقنّعة
إميل أمين 29-7-2023: روسيا وأفريقيا براغماتية مقنّعة
انتهت أعمال القمة الروسية – الأفريقية، التي عُقدت في مدينة سان بطرسبورغ، بعد أن خلفت تساؤلات جذرية، في مقدمها: «هل استطاع القيصر بوتين، كسب ود الزعماء الأفارقة دفعة واحدة، أو أن ما دار من مناقشات أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن روسيا لا تختلف كثيراً عن أميركا، وأن كلتيهما تدوران في حلقة مفرغة من البراغماتية القاتلة، حتى لو كان حياة أمم وشعوب أخرى على المحك؟».
جاءت القمة الثانية في أجواء دولية مغايرة تماماً لما جرت به المقادير في قمة سوتشي عام 2019، فهناك معركة مثيرة قائمة من دون حسم منذ نحو عام ونصف، وتوترات عالمية بشأنها قسمت العالم إلى فسطاطين، بين الذين مع بوتين، والذين ضده، مع الانتباه إلى أن مؤيديه قليلون جداً، فقط في الصين وعدد من الدول الأفريقية، حيث لا يزال بعض النفوذ الروسي الموروث أو المستجد قائماً هناك، في حين جاء القرار الروسي الأخير بالانسحاب من اتفاقية الحبوب، ليوجه ضربة قوية، لا تصد ولا ترد، للدول الأفريقية، لا سيما الأقل حظاً منها.
الملاحظة الأولى على أعمال هذه القمة، تتعلق بمستوى مشاركة الرؤساء وقادة الدول؛ إذ لم يزد عدد هؤلاء على 27 رئيس دولة فقط، في مقابل 43 رئيساً في قمة 2019، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً للتساؤل عن نجاح الضغوطات الأميركية والأوروبية، لفك ارتباط التعاون الروسي – الأفريقي، أو ربما توجس القادة الأفارقة من قادم أيام روسيا ومآلاتها، ما دفع موسكو بالفعل لاتهام الولايات المتحدة بالسعي لإفشال القمة.
بدت روسيا أخيراً في حاجة ماسة لتنشيط دبلوماسيتها العالمية، وتجديد صداقاتها القديمة، بل اكتساب جدد، وبخاصة في ظل حالة الحصار الخانقة التي تعانيها.
في هذا الإطار، تبدو القارة الأفريقية، الموضع المرشح والمرجح لأن تكون منطقة نفوذ جديدة، تسعى فيها لاستغلال مربعات النفوذ التي فرغتها واشنطن، المهمومة والمحمومة بمواجهة الصين، عطفاً على ضعف – وعما قريب اضمحلال – النفوذ الأوروبي هناك، وعلى غير المصدق أن يتابع الخسارة الأخيرة لفرنسا في النيجر منذ أيام.
يخطر لنا التساؤل: «هل روسيا والأفارقة يعزفون معاً على أنغام المصلحة الذاتية، ديدن السياسات العالمية؟»،
غالب الأمر كذلك، فروسيا يهمها أول الأمر الحصول على الموارد الطبيعية المتوافرة في ربوع القارة الأفريقية، وثانياً تصريف منتجاتها العسكرية، وتعزيز حضور حكومات بعينها يتم اتهامها من قبل الدوائر الغربية بأنها استبدادية، عطفاً على توسيع دائرة حضور جماعة «فاغنر»، الذراع الميليشياوية للجيش الروسي إن جاز التعبير، ناهيك بالحصول على أكبر عدد ممكن من عقود البنية التحتية في دول تحتاج لعقود طويلة لإعادة تأهيلها مدنياً.
على الجانب الأفريقي، لا تبدو النظرة أقل سعياً في سياق البحث عن المنافع الخاصة، وهو ما عبر عنه يفغيني مينتشيكو مدير مركز دراسات النخبة السياسية بمعهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، الذي عدّ أن «الأفارقة يأملون في جني فوائد من المواجهة الحادثة بين روسيا والغرب، وكذلك سلوك الدول الأخرى، التي لا تدخل في الصراع علانية، لكنها تقع في مكان قريب».
هنا، وإذا كان منطق المصلحة المادية تحديداً هو الحاكم، فإنه يمكننا القطع بأن جل الدول الأفريقية لا تنظر لروسيا بوصفها زعيمة آيديولوجية للعالم الجديد، فموسكو حالياً لا تصدّر نظرية للعالم الثالث كما حدث في زمن الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي يدعونا للتساؤل: «علامَ يراهن بوتين لاختراق أفريقيا؟».
قطعاً لم يبدأ بوتين بنسج شبكة علاقاته في أفريقيا من نقطة الصفر، فقد كان اعتماده على جذور قوية غذاها ونماها الاتحاد السوفياتي من خمسينات القرن الماضي حتى التسعينات، وتنوعت ما بين الدعم العلمي المؤدلج، كانتخاب أمهر العقول واستجلابهم لجامعات روسيا الشهيرة، وتالياً نجحت الجهود الاستخبارية السوفياتية في تمتين أواصر تلك الثقة.
أما بوتين فقد استطاع في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تطوير علاقات غير مسبوقة في جمهوريات أفريقية، كانت من قبل تعد نفوذاً أوروبياً خالصاً، ومنها الدول الناطقة بالفرنسية، ثم كان ما كان من أمر «فاغنر».
تزعم روسيا حتى الساعة أنها حليفة الوحدة الأفريقية ضد القوى الاستعمارية القديمة، وهو أمر في حاجة إلى نقاش مطول، لا سيما في ظل ما هو أهم وأخطر، وهو تأثير انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب، على مسيرة الحياة الإنسانية والاقتصادية لعدد بالغ من الدول الأفريقية، تقوم حياته على تلك الحبوب المستوردة من أوكرانيا بنوع خاص.
في تعليقه على تأثيرات الانسحاب من اتفاقية الحبوب على الأفارقة، حاول بوتين التخفيف من وقع المشهد؛ إذ عدّ أن الصفقة لم تجلب الكثير للأفارقة.
أما في كلمته في افتتاح أعمال القمة فقد بدا مراوغاً، بشكل أقلق الذين لديهم علم من كتاب الألاعيب السياسية الروسية، لا سيما بعد أن أشار إلى أن موسكو قادرة على مد دول أفريقيا بالحبوب والقمح، وربما ستفعل ذلك مجاناً لست دول تعد الأفقر أفريقياً خلال ثلاثة إلى أربعة أشهر.
حديث بوتين أقلق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي عدّ أن «اتفاقاً كان يسمح بتصدير ملايين الأطنان من الحبوب، لا يمكن أن يتم استبدال به وعود تدور حول تبرعات زهيدة».
هل أدرك الأفارقة الفخ الروسي؟
تبدو هناك شبهات حول استخدام روسيا الحبوب كسلاح في مواجهة الجوعى، في حين أن الثمن المطلوب هو الولاء والوفاء، وفتح الأفق الأفريقي أمام الحضور الروسي.
لا يختلف الأمر كثيراً بين أميركا التي تلقي بملايين الأطنان من القمح في المحيط كي لا يتأثر ثمنه، وبين روسيا التي تقصف صوامع القمح الأوكرانية، وتهدد بتدمير البنية التحتية للموانئ الأخرى التي يراهن الغرب على تصدير قمح أوكرانيا من خلالها.
أسئلة حائرة تركتها القمة عن الأفارقة، ومن بين أهمها: «هل لا يزال بوتين سيد روسيا الأوحد؟ وكيف يظهر بريغوجين في جنبات مشهد القمة وهو المتمرد المتوجب نفيه إلى بيلاروسيا؟».
الخلاصة… البراغماتية قصيرة العمر في عالم السياسة الدولية، فالشعوب سوف تستفيق طال الزمن أو قصر.